الأربعاء، 26 أغسطس 2015

انـتـقـال الــطـب العربـي إلــى الغــرب الجزء الثاني

تابع معابر انتقال الطب العربي إلى الغرب الأوروبي
رابــعــاً – طـــريـــق إنــكــلــتــرا
إن أقدم اتصال للإنكليز بالطب العربي هو ما ذكره المؤرخون عن جلب أحد ملوكهم من ساليرنو سنة 1100 م الكتاب المشهور ( النظام الصحي الساليرني) والمعتمِد في أغلبه على الطب العربي .
وكان للأسباني بطرس الفونسي ( اليهودي الذي تنصر فيما بعد وأصبح طبيباً لهنري الأول) الذي سافر إلى إنكلترا حاملاً معه علوم الطب العربي أثر بالغ في نشرها هناك ، كما وأنه كان في مقدمة نَقَلة العلوم العربية الفلكية والرياضية والطبية في غضون النصف الأول من القرن الثاني عشر حيث سار على نهجه فيما بعد كثيرون [1].
كما وأن لزيارة العالم الأسباني اليهودي إبراهيم ابن عزرا من مدينة طليطلة في سنة 1158 وسنة 1159 م وتدريسه هناك أثر بارز ومبكر في نشر العلوم العربية في إنكلترا .
" وفي القرن الثاني عشر شرع العلماء من البلاد الشمالية وخاصة إنكلترا يزورون الجامعات العربية في إسبانيا للبحث عن العلوم والمعارف ، وكان أول هؤلاء العلماء وأعظمهم :
العالم الإنكليزي اديلارد ( 1116 –1142 م ) من مدينة باث ، أحد السابقين إلى نشر الثقافة العربية في الغرب ، فقد قام اديلارد بأسفار واسعة في إسبانيا وسوريا في الربع الأول من القرن الثاني عشر لدراسة اللغة العربية والعلوم العربية ، وقد ترجم إلى اللاتينية كثيراً من الكتب العربية لينتفع بها معاصروه المسيحيون  وعند عودته اشتغل معلماً للأمير هنري الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الثاني ملك إنكلترا "
" وقد ذهب بعد اديلارد إلى إسبانيا كثير من العلماء الإنكليز ومنهم :
روبرت : من مدينة تشستر في القرن الثاني عشر درس العوم الرياضية وترجم مؤلفات عربية .
ومن الشخصيات الهامة ، دانيل أوف مورلي ،  ( القرن الثاني عشر ) الذي كان- بمقتضى ما ذكره عن نفسه – غير راض عن الجامعات الفرنجية ، فذهب إلى إسبانيا ليبحث عن مَنْ هم أكثر حكمة  من فلاسفة العالم ، وقد عاد إلى إنكلترا بمجموعة كبيرة من الكتب وجدت عدداً من القراء".
" وفي القرن الثالث عشر درس ميخائيل سكوت في صقلية وبرع في اللغتين العربية والعبرية ، وقد ترجم كتب ارسطو طاليس من اللغة العربية وكان أول عهد الغرب بعدد كبير من هذه الكتب ، وكذلك ترجم من العبرية شروح ارسطو طاليس التي كتبها العرب كما كتب كتباً هامة في علم النجوم والكيمياء " [2].
وكذلك " الفرد سرشال الإنكليزي من نقلة الثلث الأول من القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي ، ترجم إلى اللاتينية كتاب النبات لأرسطو نص حنين بن اسحق واصلاح  ثابت بن قرة ، وعن هذه الترجمة أُعيد نقله إلى اليونانية . كما نقل كتاب المعادن لأبن سينا "[3] .
ومن بين العلماء الإنكليز الذين ألفوا كتبا جمعوا فيها العلوم والمعارف العربية الجديدة الوافدة بارتولوميه الإنكليزي المولود في إنكلترا .انتقل إلى باريس ثم إلى ألمانيا . ألف كتابه الموسوعي ما بين ( 1230 –1240 م) وجاء هذا الكتاب في 19 جزءاً ، ضمّ كميات كبيرة من المعلومات قديمها وحديثها  وخصص الجزء السابع من هذا الكتاب للشؤون الطبية ومن الملاحظ أن بارتولوميه في كل المجالات العلمية والمعرفية التي أوردها في كتابه الكبير لم يورد أفكاراً مبتكرة وإنما كانت في أغلبيتها منقولة عن مصادر عربية "[4].
و" العالم الإنكليزي جروستيت ( المتوفي في 1253 م) ، كان رياضياً وفلكياً ، وعالم طبيعة ، وفيلسوفاً ، وأول مدير لجامعة أُكسفورد . بدأ دراسته في أُكسفورد ، وكانت المترجمات عن العربية قد وصلت إلى إنكلترا في هذا الوقت ولاشك أنه اطلع عليها . وهي إما التراجم التي أنجزت في صقلية أو في إسبانيا .
لذلك حرص على أن يذهب بنفسه إلى ارض القارة وخاصة إلى إسبانيا بحثاً عن تراجم أخرى استفاد منها في مؤلفاته . فنجد في كتاباته الفلكية أثرا كبيراً لثابت بن قرة ، كما أنه استقى معلوماته في البصريات عن ابن الهيثم " [5].
" وكانت مؤلفات هؤلاء وغيرهم من العلماء الإنكليز الذين اقتحموا الصعاب في سبيل العلم بزيارة البلاد العربية أثر ثقافي جليل ، فلمجهوداتهم الفضل في أن ما أنتجه العرب في الفلسفة والعلوم اصبح معروفاً في إنكلترا وفي البلاد الغربية وبذلك خطت الثقافة الأوربية خطوة هامة في سبيل ارتقائها وكان الأثر الذي أحدثته ترجماتهم ومؤلفاتهم أثراً عظيماً ومن بين أولئك الذين تأثروا تأثراً عميقاً بالعلوم العربية ذلك الفيلسوف الإنكليزي العظيم روجر بيكون …" [6].
" وكان روجر بيكون ( المتوفي في 1294 م) تلميذ جروسيت النابغ والحق أن روجر بيكون كان عالماً من الأعلام الذين تدين لهم أوربا في هذا العصر ، ذلك أنه كان أول من دافع بحرارة عن المنهج التجريبي على الرغم من أنه هو نفسه لم يكن من علماء التجريب "[7].
" ويجدر بنا أن نذكر أيضاً أن روجر بيكون تتلمذ في الكيمياء على جابر بن حيان وكان يسميه أستاذ الأساتذة ، كما أنه استقى فلسفته من ابن رشد الذي وضعه جنباً إلى جنب مع ارسطو وابن سينا وتلقى معلوماته في البصريات من مؤلف ابن الهيثم ، وفي الطب من ابن سينا والرازي وغيرهما ".
" وكان بيكام ( المتوفي في 1292م ) رياضياً وعالماً طبيعياً إنكليزياً من الرعيل الأول ، من الأساتذة اللاتين الذين استقوا مقومات علمهم من العرب أخذ عن العرب معلوماته في البصريات"
" وأما جلبرت الإنكليزي ( حوالي 1290 م ) فرجع كثيراً إلى ابن رشد وغيره من المسلمين وترجم فصولاً بأكملها من الرازي كلمة بكلمة . ونقل جون الجادسدني كلمة بكلمة مؤلفات المستعربين برنارد الجوردني وهنري الموندفيلي في مؤلفه الشهير .
وكتب برنارد الجوردني نفسه وهو أستاذ اسكتلندي مؤلفه  في سنة 1307 ، وهو كتاب شواهد يتميز تماماً بطابعه العربي "
" وكان جون اوف آردن( ولد سنة1307) وهو جراح إنكليزي أول من أحيا الجراحة في إنكلترا ويعـود الفضل في هذا إلى أبي القاسم الذي نقل عنه جون كثيراً من كتاباته كلمة بكلمة " [8].
" وإن أول كتاب طبع في طب الأطفال وهو كتاب بيكالاردوس سنة 1472 م اعتمد اعتماداً كلياً على رسالة الرازي تدبير الصبيان " [9]
وترجم فيدوجانيك للإنكليزية كتاب الجدري والحصبة للرازي سنة 1766 م  . ثم تمت ترجمته ثانية سنة 1849 من قبل جرينهل .
" ومما يستحق الذكر أن أول كتاب طبع في إنكلترا وهو كتاب – كلمات الفلاسفة وحكمهم – كان مؤلفاً على نسق كتاب عربي اسمه ( كتاب مختار الكلام ومحاسن الكلم ) الذي كان قد ألفه في سنة 1053 م الأمير المصري مبشر بن فاتك " [10] .
كما أن مؤلفات أخرى لبعض الأطباء الإنكليز تضمنت اقتباسات كثيرة من الرازي ، وابن سينا ، وعلي بن العباس والزهراوي وابن النفيس ، وغيرهم ، وأصبح الطب العربي المترجم مسيطراً في إنكلترا والدليل على ذلك هو استمرار الأطباء فيها على تداول تراجم الكتب العربية من سنة 1350 –1500 م بل بعد ذلك بسنين .
والحديث عن تاريخ الطب في إنكلترا لا يكتمل من دون ذكر شيء عن وليم هارفي وما نُسب له من اكتشاف الدورة الدموية الرئوية .
" ولد وليم هارفي في سنة 1578 م ونزح إلى أوربا طلباً للعلم وتخرج من جامعة بادرو عاد إلى إنكلترا ومارس الطب في لندن وأصبح طبيباً لمستشفى سان بارثولوميو وعين في سنة 1618 م طبيباً لجيمس الأول ثم طبيباً خاصاً لشارل الأول وفي سنة 1628 م نشر رسالته في فرانكفورت في ألمانيا تحت عنوان – رسالة في التشريح عن نبض القلب وحركة الدم في الحيوان – وصف فيها الدورة الدموية وأعلن أن القلب عضلة مجوفة يقسمها قاطع ليفي إلى أربعة تجاويف بطينين وأُذينين . وبذلك عُدّ هارفي من كبار العلماء . وتوفي هارفي في سنة 1657 م " [11].
 نستعرض فيما يلي بإيجاز التطور التاريخي لنشوء فكرة الدورة الدموية [12].
كانت الفكرة السائدة نقلاً عن ابقراط وجالينوس بأن منشأ الدم هو الكبد وأن الدم يمر من البُطين الأيمن في القلب إلى البُطين الأيسر عبر منافذ موجودة في الجدار الفاصل بينهما وادعى ابن سينا أن في القلب ثلاثة بُطينات لاإثنان ، وإنه لا صلة بين الشرايين والأوردة الاّ عبر المنافذ غير المرئية في القلب .
وجاء ابن النفيس ( 603 –687 هـ / 1211 – 1288 م) فانتقد تلك النظرية وصححها في كتابه ( شرح تشريح القانون ) وجاء بالنظرية الصحيحة علمياً ووصف الدورة الدموية الرئوية بشكل كامل وأثبت أن القلب متكون من بُطينين ليس بينهما منفذ وأن عضلة القلب تتغذى بالشرايين الإكليلية .
وبقي اكتشافه هذا طي النسيان إلى أن عثر عليه الطبيب المصري محي الدين التطاوي( 1869 – 1945) وقدم التطاوي اطروحته في كلية طب جامعة برلين عام 1924 تحت عنوان (( الدورة الدموية الرئوية تبعاً للقرشي )) ونال الدكتوراه عليها وفي هذه الأطروحة بين التطاوي بأن ابن النفيس هو مكتشف لدورة الدموية الرئوية (الصغرى) وليس هارفي واعترفت الأوساط العلمية والتاريخية بذلك بعد مدة وعلى مضض .
نعود لمسألة كيفية وصول فكرة ابن النفيس هذه لهارفي وحسب التسلسل الزمني التالي :
اندريا الباكو ( 1450 –1522 ) الذي ذهب إلى دمشق ومكث فيها قرابة الثلاثين عاماً كانت أهم ترجماته هي القانون لأبن سينا ومن المعقول أنه يكون قد درس مختلف الشروح العربية لهذا الكتاب
(ومنها شرح ابن النفيس) الذي يحوي على وصف الدورة الدموية الصغرى .
كان في بادوفا نسخة مخطوطة من شرح التشريح لأبن النفيس ( مستنسخة عام 734 هـ/1333 م ) ، وهي التي جلبها الباكو معه من دمشق وظلت تحت تصرف أساتذتها وعلمهم بحوزة عائلة الكونت ناني   في البندقية .
في الفترة الواقعة بين عام وفاة ابن النفيس ( 1288 م) وسنة نشر ترجمة الباكو للقانون عام ( 1547م) ، لم يتحدث أحد قط عن الدورة الدموية في أوربا ولكن بعد ذلك التاريخ انطلقت الأقلام تكتب عن ذلك.
سنة 1552 صدر كتاب ( إصلاح المسيحية ) للراهب الإسباني ميشيل سرفيتوس الذي كان يعرف العربية ، انتقد فيه التعاليم السائدة في ذلك الزمان ، وتحدث في الكتاب عن تشريح القلب والدورة الدموية الصغرى اتُهِمَ على أثرها بالهرطقة وأُحرق حياً في جنيف بعد عام واحد .
في عام 1554 نشر عالم إسباني من بلد سرفيتوس يدعى فالفيردي دوحمسكو كتاباً بعنوان ( التشريح وتاريخه ) وفيه ذكر للدورة الدموية .
استلم اندريا فيزاليوس ( 1514 – 1564 م ) كرسي التشريح في جامعة بادوفا بعد أن درس الآداب والفلسفة والطب والعربية والعبرية في لوفان وباريس ترجم الكتاب التاسع من المنصوري للرازي ونشره عام 1537 ونشر كتابه الشهير ( بنية الجسم الإنساني ) الذي أثار عليه عاصفة من النقد . فأحرق كتبه التي لم ينشرها وذهب إلى مدريد .
لم يذكر فيزاليوس في الطبعة الأولى من كتابه شيئاً عن الدورة الدموية الاّ أن الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 1555م تحتوي على وصف لها .
درس ماكس مايرهوف النص العربي لأبن النفيس وقارنه بالنص اللاتيني لسيرفيتوس فاستنتج أنهما متشابهان إلى حد بعيد .
أصدر ريالدو كولمبو أستاذ الجراحة في بادوفا عام 1559 كتاباً تحت أسم (عن التشريح) وفيه ذكر لتشريح القلب والدورة الدموية الصغرى .
وفي عام 1571 م نشر أندريا سيزالبينو كتابا بعنوان (مواضيع المشائين) ذكر فيه الشيء نفسه وكان أول من استعمل كلمة دورة .
ثم جاء هارفي إلى بادوفا للدراسة وتتلمذ على فايريسيوس ومكث فيها من عام 1597 حتى 1602 أي خمسة أعوام ، لابد أنه اطلع فيها على كل الكتب المتعلقة بالتشريح ، وبالدورة الدموية بشكل خاص ، نظراً لاهتمامه بالموضوع ، وربما كان يتقن العربية واطلع على كتاب ابن النفيس وفي عام 1628 م نشر هارفي كتابه ( دراسة تشريحية تحليلية لحركة القلب والدم في الحيوان ) .








خـامـسـاً – الـحـروب الـصـلـيـبـيـة
استمرت الحروب الصليبية بين ( 1095 – 1291 م ) وعادت القدس سنة 1187 م بقيادة صلاح الدين الأيوبي للمسلمين بعد معركة حطين الاّ أن أثر الحروب الصليبية في نقل علوم المسلمين لم يكن قوياً وذلك لعدة أسباب هي :
 أن المحاربين الصليبيين كان أكثرهم قليلي الثقافة من عامة الناس ، ومن الحرفيين ولم يكن لدى هؤلاء قدر كافٍ من الحضارة تسمح لهم بتقبل واستيعاب العلوم العربية .
 إن الصليبيين كانوا يشعرون بشعور المعاداة والتعصب تجاه العرب والمسلمين وانعكس ذلك على عملية الأخذ فكانوا يتوجسون ريبة في كل حالة  لها علاقة بالمسلمين خشية وقوع أتباعهم في شرك الإعجاب بالإسلام والمسلمين .
 انشغالهم بالحروب حيث أنهم حتى في فترات السلم كانوا منشغلين بالإعداد والتهيؤ  لحروب أخرى .
وعلى الرغم من كل ما سبق فان الحروب الصليبية كانت فرصة سنحت بالاتصال الوثيق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وطريقاً من الطرق التي انتقلت فيها الحضارة والعلوم( والطب منها ) من العالم العربي الإسلامي إلى أوربا ولو بشكل يسير .
" جاء الصليبيون غزاة طامعين مخدوعين بتحرير أرض فلسطين من الظلم والظلام الإسلامي وإذا بهم يجدون الإنسانية والعدل ونور العلم مشعة في المشرق الإسلامي فنهلوا من علومها واستفادوا من حضارتها ونقلوا من كتبها إلى عالم أوربا السادر في ظلامه الدامس وهمجيته القديمة ونزاعاته التي لامنقطع لها " [13].
والتخلف في العلوم كان أحد مظاهر أوربا آنذاك وبخاصة العلوم الطبية ، فقد كان مستوى الطب الأوربي دون مستوى الطب العربي بكثير .
يقول مايرهوف " إن المسلمين الذين اتصلوا بأطباء الفرنج  أثناء الحروب الصليبية لم يكتموا ازدراءهم العظيم بصناعة أولئك الأطباء وشكهم بمهارتهم .
ويظهر ذلك من الرواية التي قصها( أسامة ) الأمير السوري نقلاً عن طبيبه المسيحي ( ثابت ) هذا الرجل عاين في حوالي السنة 1140 م حالتين جراحيتين خُتمتا بالموت بسبب عقم طرق الجراحة البربرية التي كان يستخدمها الفرنج  " [14] .
الأمر الذي دفعهم إلى أن يلجئوا إلى الأطباء العرب ، ولم يكن ذلك لأن في الشرق أمراضاً لا علم لأطبائهم بها فحسب ، بل كان ذلك من غير شك لما ثبت لديهم من تفوق الأطباء العرب في جميع فروع الطب .
واتخذ أمراء الفرنجة أطباء من نصارى العرب فكان لعمودي (عطريق الأول) طبيب اسمه سليمان بن داؤد ، وحذا حذوه كثيرون من كبار الفرنجة " [15].
" ولما مرض الملك الإنكليزي رتشارد ( قلب الأسد )أكبر خصوم صلاح الدين بعث إليه صلاح الدين طبيبه الخاص لمعالجته ورفّـه عنه بأن أرسل إليه الفواكه والثلج " [16].
وقد روى مؤرخو الحروب الصليبية قصصاً كثيرة تدل على جهل الفرنجة بالطب وتفوق العرب فيه [17] لا يتسع المجال لذكرها جميعاً بل سنكتفي بذكر مايلي :
" ففي عام 1218 م صحب الطبيب الجراح هوغوفون لوكا البولوني فرقة بولونية – مقاطعة في إيطاليا – إلى الحرب في الأرض المقدسة وظل هوغو يضمد جراح مواطنيه ويجبر كسورهم بأساليبه البسيطة مدة ثلاث سنوات ، وكان يرى أن كثيراً من الأسياد يفضلون الذهاب إلى جانب الأعداء للتداوي بالرغم من تحريم رجال الكنيسة . وفي خلال هذه السنوات الثلاث ، توافرت له أكثر من مناسبة للتعرف على هؤلاء الجراحين المسلمين ورؤية عظَمتهم وزيارة مستشفاهم العسكري .
إن مارآه هوغو في معالجة الجروح كان بمثابة صدمة له ، ورأى في لحظة واحدة خطأ ما تعلمه وأخذه عن ابقراط " [18] وصحة ما يقوم به الأطباء العرب والمسلمون في معالجة الجروح وتخدير الجرحى بالحشيش والسكران عند معالجتهم أو قطع طرف من أطرافهم .
" وعاد هوغو إلى وطنه عام 1221 م وقد تفتحت آفاقه العلمية ومداركه فسعى إلى نشر معارفه الحديثة بين قومه – وسلك مسلك العرب في كثير من فنون التداوي – فنال شهرة واسعة " .
ويقول الدوميلي :
" العلماء الحقيقيون أخيراً ، بعد أن استقر بهم المقام بضع سنين في الأقاليم التي احتلها المسيحيون ، فيسر لهم ذلك من الفراغ فامكنهم من التعرف على الأدب العربي ، في جانب منه على الأقل … وممن تأثر بأدب العرب تأثراً عميقاً عقليات جديرة بالاعتبار مثل عقلية أديلارد دي باث ( الذي سبق الكلام عنه ) الذي ينحصر عهد نشاطه في المدة 1116 –1142م على أثر رحلة إلى المشرق ولا يتضح هذا من عمله الأصيل فحسب ، حيث يمكن ملاحظة تطور هام في آثاره ، بل كذلك من التوجيه الذي تولاه في ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية "  [19].
وكان اصطفيان الأنطاكي ( البيزي ) واحداً من بين القلة الذين انتهزوا فرصة وجودهم في البلاد العربية خلال الحروب الصليبية فكما ذكرنا سابقاً تعلم العربية وأعاد سنة 1127 م ترجمة كتاب الملكي ( كامل الصناعة ) لعلي بن العباس المجوسي  وأشار في هذه الترجمة إلى انتحال قسطنطين الأفريقي الكتاب لنفسه حينما ترجمه إلى اللاتينية .
ويقول مايرهوف " ولنا أن نميل إلى الاعتقاد بأن الفضل في بناء مستشفيات أوربا خلال القرن الثالث عشر ، تلك المستشفيات التي خرجت من احتكار رجال الدين ، إنما يعود بعضه إلى تأثير الحروب الصليبية . لقد كانت تقليداً بلا ريب للبيمارستانات التي أنشأها معاصرهم السلجوقـي الملـك نـور الدين زنكي فـي دمشق وسـلطان الـمـماليك فـي الـقاهـرة ( المنصور قلآوون ) "[20]  .
وفي الوقت الذي كان في كل مدينة عربية مستشفىً متطور متكامل " يذكر مؤلف أوربي أنه لم يكن لدى الصليبيين غير مستشفى فرسان القديس يوحنا في القدس " [21].
" وما كاد الصليبيون يصلون إلى أوطانهم ويلملموا شملهم ، ويَنْقَهون من أتعابهم وجراحاتهم حتى التفتوا إلى نشر ما تعلموه من العرب بين مواطنيهم فأسس لويس التاسع أثر رجوعه إلى باريس سنة 1260م مستشفى تقليداً لمستشفيات سورية . وأسس البابا أنوسنت الثالث مستشفى آخر على نفس الطراز " [22].
وأخيرا نقول بأن المرضى والأطباء من المحاربين العائدين ساهموا في نقل كثير من بدائع الفكر ومقومات الصنعة الطبية العربية إلى الغرب وكان المحط الرئيسي لهم لدى العودة إلى مدينة ساليرنو حيث أفاد ذلك في رفع عملية التقدم الطبي في مدرستها وأطبائها ومن ثم انعكس ذلك على النهضة الطبية في أوربا .





[1] - نصري ، عبد الهادي – دور الأندلس في انتشار العلوم العربية – بحث قُدم للندوة العالمية الرابعة لتاريخ العلوم عند العرب ، 1987 – كتاب أبحاث الندوة ص 291 .
[2] - لويس ، برنارد- تاريخ اهتمام الإنكليز بالعلوم العربية  ص 5 – 6 .
[3] - شيخة ، الدكتور جمعة – دور مدرسة الترجمة في طليطلة في نقل العلوم العربية وبالتالي في نهضة أوربا ، مجلة دراسات أندلسية ، العدد 11 السنة 1994  ص 44 .
[4] - شحادة ، كمال –انتقال الكيمياء من العرب إلى أوربا اللاتينية – من أبحاث الندوة العالمية الرابعة لتاريخ العلوم عند العرب  ج2 ص 234 .
[5] - مظهر جلال، حضارة الإسلام ص 527 –528 .
[6] - لويس ، برنارد – تاريخ اهتمام الإنكليز بالعلوم العربية ص 5 .
[7] - مظهر ، جلال – حضارة الإسلام ص 528 – 531 .
[8] - مظهر ، جلال – حضارة الإسلام ص 528 – 521 .
[9] - رادبل ، صمويل إكس – مقال باللغة الإنكليزية – أول مخطوط في طب الأطفال – مجلة طب الأطفال الأمريكية (  A . P. J) المجلد 122 – تشرين الثاني 1971 .
[10] - لويس ، برنارد : تاريخ اهتمام الإنكليز بالعلوم العربية ص 5-6 .
[11] - جارلند ، جوزيف : قصة الطب ، المصدر السابق ص102.
[12] - أوجزنا ذلك عن د. سلمان قطاية : ابن النفيس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1984 ص  45 - 76  .
[13] - التكريتي ، د. راجي عباس – الإسناد الطبي في الجيوش العربية الإسلامية ص 181.
[14] - مايرهوف ، ماكس – فصل العلوم والطب ، مصدر سابق ص 500 .
[15] - حسين ، د. محمد كامل – في الطب والأقرباذين ، فصل في كتاب أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية  مصدر سابق ص 285 .
[16] - ابن شداد ، النوادر السلطانية ص 158 .
[17] - لمن يود الإطلاع يرجى مراجعة كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ – تحقيق فيليب حتي 1930 جامعة بريستون.
[18] - التكريتي ، د. راجي – الإسناد في الجيوش العربية الإسلامية – المصدر السابق ص 182.
[19] - الدوميلي ، العلم عند العرب ص 438 .
[20] - مايرهوف ، ماكس – فصل العلوم والطب ص 500 .
[21] - الجليلي ، د. محمود – تأثير الطب العربي في الطب الأوربي ص 192 .
[22] - السامرائي ، د. كمال – مختصر تاريخ الطب ج2 ص233.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق