الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الرابع عشر

الجزء الرابع عشر: اللحيانيون
يختلف المؤرخون في أصل اللحيانيين هؤلاء، فمنهم من يرى أهم فرع من ثمود، بينما يرى آخرون أنهم من شعوب العربية الجنوبية، بدليل ورود اسم لحيان في نص عربي جنوب، وربما كان السكان يتألفون من طائفتين أولاهما من أهل البلاد الأصليين، والثانية هي الجالية السبئية التي هاجرت من جنوب بلاد العرب، وربما يفسر لنا هذا اضطراب التوراة بالنسبة إليهم فهي تعتبر "ددان" تارة من الكوشيين من جنوب بلاد العرب، وتارة أخرى من الساميين من ولد إبراهيم من زوجته قطورة.
وكانت العلا "أو الخريبة وهي جزء منها" مركزا للحيانيين، وهي على أي حال مستعمرة معينية قديمة، كما أنها القاعدة الشمالية القصوى للحضارة العربية الجنوبية، وتقع في وادي القرى جنوب شرق حرة العويرض بين سلسلة من الجبال في الشرق والغرب، وعلى مبعدة حوالي 15 ك م إلى الجنوب من مدائن صالح، وكانت تسمى على أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وادي القرى، وأما الاسم القديم فهو "ددان" "ديدان" -كما جاء في التوراة وفي النصوص المعينية- وقد اختلف العلماء في مدلول هذه الكلمة، فمنهم من رأى أنها اسم للمكان نفسه، ومنهم من حاول أن يقرن بين هذا الاسم وبين اسم الإله "دد"، الذي كان يعبد لدى الساميين الشماليين
وقد اختلف الباحثون فيمن حكم هذه المنطقة أولا: أهم الديدانيون أم المعينيون أم اللحيانيون؟، فذهب فريق إلى أن الديدانيين إنما كانوا هم السابقون، وأنهم قد حكموا فيما بين القرنين السادس والخامس ق. م، على رأي، وفي حوالي عام 500ق. م على رأي آخر، وفي عام 160ق. م، على رأي ثالث، ثم جاء المعينيون وانتزعوا الحكم منهم، على أن فريقا آخر إنما يذهب إلى أن المعينيين إنما كانوا هم السابقون، وأن اللحيانيين قد ورثوا سلطتهم هناك، مكونين دولة مستقلة -هي دولة لحيان- والتي امتد نفوذها على الأرض الممتدة غربي النفود، من شمال يثرب إلى ما يحاذي خليج العقبة، بل إن هناك من يرى أنها قد امتدت حتى شملت نجدا ووصلت إلى الأحساء، ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه على محاولة الجمع بين اسم الإله "ذو حرج" -وهو أحد معبودات اللحيانيين- وبين إله مدينة "الخرج"، على أساس أن مدلول الكلمتين واحد، وهو الخصوبة وكثرة المياه، ولكن توارد الأسماء متشابها بين مكان وآخر، وبين معبود واسم مكان، لا يمكن أن يقوى كدليل على اتساع مملكة لحيان، ومع ذلك، فليس من المستبعد أن يكون نفوذها التجاري قد اتسع حتى شمل هذه المنطقة، كما لا يستبعد كذلك وجود جاليات لحيانية عاشت فيها حفاظا على الطريق التجاري في شمال الحجاز، أما اتساع مملكة لحيان شمالا، فمن المحتمل أن يكون قد وصل إلى البتراء، إذا أخذنا تسمية خليج العقبة بخليج لحيان في الاعتبار، والذي حرف فيما بعد إلى "لات" أو "إيلات".
وعلى أي حال، فإن تسمية خليج العقبة باسم "خليج لحيان"، إنما يدل على أن لحيان أو اللحيانيين -والذين ذكرهم "بليني" تحت اسم "لخيني"- لم يكونوا يسيطرون على طريق التجارة البري فقط، بل كانوا يسيطرون كذلك على الطريق البحري إلى "إيلات"، وأن البحارة والتجار الإغريق كانوا يدفعون الجزية للجباة من لحيان.
وكانت تجارة اللحيانيين مع مصر في الدرجة الأولى، ومن ثم فقد كانت علاقاتهم بها جدا وثيقة، فتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت منتشرة في مصر وقت ذاك، حتى أنهم سموا ملوكهم بأسماء يونانية مثل "تخمى" و"بتحمي" و"تلمى" التي أخذت من بطليموس، بل إن هناك من يذهب إلى أن الدولة نفسها، إنما قامت على أيام بطليموس الثاني "284-246ق. م"، وبتشجيع من الحكام المصريين أنفسهم، وذلك للضغط على الأنباط، الذين كانوا في منافسة تجارية مع البطالمة -كما أشرنا من قبل- انتهت بسيطرة مصر على الساحل العربي للبحر الأحمر.
هذا وقد اختلف المؤرخون في التأريخ لدولة لحيان، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت فيما بين بداية القرن الخامس ونهاية القرن الثالث ق. م، وذهب فريق آخر إلى أنها إنما كانت فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد "حوالي عام 160ق. م" وبين نهاية القرن الثالث بعد الميلاد، بل إن الذين ذهبوا إلى أنها إنما كانت بتشجيع البطالمة، حددوا الفترة ما بين عامي 280، 200 قبل الميلاد لقيامها، وأن نهايتها إنما كانت على يد الأنباط استولوا على "الحجر" في عام 65ق. م، و"ديدان" في عام 9ق. م، وربما كان سندهم في ذلك شاهد قبر عثر عليه في العلا، يرجع إلى أيام الملك النبطي الحارث الرابع "9ق. م-40م" وكذا عدم إشارة "سترابو" إلى مملكة لحيانية في أثناء حديثه عن حملة "إليوس جالليوس" إلى اليمن في عام 24ق. م، فضلا عن أن حديثه عن دولة الأنباط قد يشير إلى أن دولتهم قد امتدت حتى يثرب.
وعلى أي حال، فإن هناك من يرى أن نهاية دولة لحيان إنما كانت على أيدي المعينيين، وأن ذلك كان فيما بين نهاية القرن الثالث، والقرن الأول قبل الميلاد، وإن كان هذا لا يعني نهاية اللحيانيين، فإن هناك -في رأي هذا الفريق من العلماء- اتفاقا بين الطرفين على أن يكون للمعينيين إدارة النواحي التجارية، وللحيانيين الناحية الإدارية وتنظيم شئون الحكم، ويستدل على ذلك من أن شخصية معينية قدمت قربانا للمعبود اللحياني، ذو غبت" "صاحب الغابة"، وإن كنا لا نستطيع أن نستدل من ذلك على استمرار دولة لحيان، فأمر كهذا لا يعني أكثر من أن بعض الولاة إنما يقومون بمشاركة الشعب الذي يحكمونه، وخاصة إذا ما كان مفهوم هذا المعبود مع مفهوم أحد معبودات الحاكم في العصور القديمة.
هذا وقد عثر في العلاء على ما يقرب من أربعمائة نقش لحياني، غير أن الكثرة المطلقة منها عبارة عن مخربشات صغيرة، وبعضها -كما هو الحال في النقوش المعينية الشمالية- عبارة عن أجزاء صغيرة من نقوش، وجدت في غير أماكنها الأصلية، وقد استخدم القوم حجارة هذه النقوش أخيرا كموا للبناء، حيث نجدها في جدران المنازل وأسوار الحدائق في العلا الحالية، ومن ثم فنصوص هذه أوضاعها لا يمكن الإفادة منها كثيرا، لذا لم يتمكن إلا قليل من العلماء من ترجمة بعض جملها، وإن كان من حسن الحظ أننا وجدنا فيا بعض أسماء الملوك والآلهة، فضلا عن الفائدة اللغوية والثقافية لهذه النقوش.
وأما الكتابة اللحيانية، فكتابة محلية حروفها سامية جنوبية، وقريبة جدا من الكتابة العربية الجنوبية والحبشية، أما اللهجة فعربية شمالية، وهي أيضا سامية جنوبية، وأما عصرها، فلن يكون أحدث من القرن الخامس أو السادس ق. م، وعلى أي حال، فرغم أن البعض يعتقد أنها مسيحية، فمن الثابت أنها عربية جاهلية وضعت قبل ظهور الإسلام.
وقد قدمت لنا هذه النقوش بعض أسماء ملوك لحيان، منها "هنوس بن شهر" و"ذو أسفعين تخمى بن لوذان" الذي يرجع حكمه إلى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، وقد أنشأ بيتا للإله "ذو غابت" إليه لحيان، كما نعرف من النص "Js 85" الذي يذكر كذلك الملك "شامت جشم لن لوذان".
ونقرا في النص"Js 85" أن معبد المدينة قد أصيب بهزة أرضية في عهد الملك "منعى لوذان بن هانؤاس"- والذي حكم فيما بين عامي 35-30ق. م، فيما يرى كاسكل -وقد كانت تلك الهزة من القوة بحيث سقط سقف المعبد على أعضاء مجلس المدينة "هجبل -هاجبل" الذين كانوا مجتمعين في المعبد وقت الحادث، ثم قتل أكثرهم، وأن القوم لم يتمكنوا من إعادة بناء المعبد، إلا بعد فترة طويلة، فيما بين عامي 127، 134م، مما يدل على الحالة الإقتصادية السيئة التي كانت تمر بها البلاد، فضلا عن الإضطرابات، وضعف الحكومة.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذا المعبد، الذي يقع في الخريبة الحالية، والذي أشار إليه "جوسين وسافينياك" قد وجدت فيه تماثيل بطول الإنسان لملوك لحيان، كسر بعضها أهل العلا أنفسهم، وأنقذ البعض الآخر، وإن كنا لا نعرف مكانها الآن، وعلى أي حال، فهذه التماثيل متأثرة بالنحت الفرعوني في النصف الأعلى من الجسم، ومن حيث اللبس، ولكنها تحمل الطابع العربي المتمثل في شكل الوجه، وما وضع على الرأس مما يشبه العقال والعمامة.
ويذهب "كاسل" إلى أن الأنباط قد استولوا على "الحجر" في عام 65ق. م، ثم ساروا منها إلى "تيماء" ثم قطعوا كل اتصال للحيانيين بالبحر، فاستولوا على ميناء "لوكي كومة" التابع للحيانيين، وأحاطوا بهم من كل الجهات، كما يبدو أن الطريق التجاري قد غير اتجاهه بفعل النبطيين في جنوب الحجر، فكان يمر على مسافة سبعة كيلات إلى الشرق من واحة ديدان القديمة، وهكذا تم القضاء على البقية الباقية منها، ثم أخضعوها لنفوذهم، وإن عاد السلطان مرة أخرى للحيانيين بعد سقوط البتراء على أيدي الرومان في عام 106م2، والذين مدوا نفوذهم إلى منطقة تبعد عشرة كيلو مترات إلى الشمال من ديدان.
على أن الأمر، إنما كان جد مختلف بالنسبة إلى سلطة الملوك، إذ انتقلت سلطاتهم إلى مجلس المدينة، ومن ثم فقد بدأ القوم لايهتمون كثيرا بتسجيل أسماء الملوك في كتاباتهم، بل إن النصوص من هذه الفترة إنما تدل على اضطراب في الأمور، وعلى حكم غير مستقر، وعلى سلطة غير وطيدة الأركان، ويذهب "كاسكل" إلى أن النصوص قد تشير كذلك إلى هجوم حبشي على طول سواحل البحر الأحمر العربية، يرى بعض العلماء أنه ربما وقع على أيام ملك أكسوم "Sembruthes" فيما بين نهاية القرن الرابع، وبداية القرن الخامس الميلادي.
هذا وقد عثر على كتابات عبرية ونبطية في وادي "ددان" "ديدان في الترجمة السبعينية، ترجع إلى حوالي عام 300م، وما بعدها، مما يدل على أن قوما من يهود، فضلا عن قوم من النبط، أو ممن يتكلمون بالنبطية، قد استقروا في هذه المنطقة، وعلى أي حال، فإن اليهود كانوا قد بدءوا يهاجرون إلى الحجاز منذ القرن الأول والثاني بعد الميلاد، حتى إذا كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من يهود.
وأما الدين اللحياني، فهو دين عربي جنوبي، كما يتبين من أسماء الآلهة وأسماء الأفراد، ومن ثم فإننا نجد إلى جانب الأسماء السامية المشتركة لبعض المعبودات -مثل "إل" أسماء آلهة سامية جنوبية مثل "ود وسميع ونسر ومناة"، أما كبير الآلهة اللحيانية فهو "ذو غابت"، وقد كان له معبد عثر على أنقاضه في خرائب المدينة، كما عثر على اسم إله آخر هو "سلمان" الذي كان يكنى "أبا إيلاف"، وهو إله القوافل التي كان يتولى حمايتها وحراستها في ذهابها وإيابها، وهناك كذلك الإله "كاتب"، والذي يرى فيه "كاسكل" الإله المقابل للإله "تحوت"، إله الكتابة والحكمة عند المصريين القدامى.
وعلى أي حال، فلقد انتهت دولة اللحيانيين في فترة لا نعرفها على وجه التحقيق، بل لا نعرف كذلك كيف انتهت، ومن الذي قضى عليها، وإلى أين ذهب اللحيانيون بعد سقوط دولتهم، فربما عاد معظمهم إلى البادية، واندمج في قبائلها، وربما اتجه فريق منهم -كما تذكر المصادر العربية- إلى العراق، وتركزوا في الحيرة، ومن هنا رأى البعض أن "أوس بن قلام" منهم، وأنه حكم الحيرة حينا من الدهر، وربما بقوا في نفس منطقتهم، كما نفهم من الأحداث التي جرت عند ظهور الإسلام.
ويروي الأخباريون أن القوم من "بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر"، فهم عدنانيون، كانوا ينزلون في شمال شرقي مكة، ويبدو أنهم لم يكونوا من القبائل القوية عند ظهور الإسلام.
وتروي المصادر العربية أن اللحيانيين كانوا على خلاف مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بدء الدعوة، وأنه -صلوات الله وسلامه عليه- قد قام بغزوهم في السنة السادسة من الهجرة "628م" في ديارهم، بين أمج وعسفان، فاعتصموا برءوس الجبال، وهجم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طائفة منهم على ماء لهم يقال له "الكدر" فهزموا وغنم المسلمون أموالهم، وربما كان ذلك بسبب غدرهم "بمرثد بن أبي مرثد الغنوي" وصحبه، فيما عرف بغزوة الرجيع في السنة الرابعة من الهجرة "625م".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق