الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء التاسع

الجزء التاسع: دولة سبأ
1- سبأ:
تذهب الروايات العربية إلى أن "سبأ" إنما هو "عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، وأن سبب تسميته بسبأ أن الرجل كان أول من سبى من العرب، بل ويذهب "ابن منبه" إلى أنه غزا بابل وأرمينية ومصر والمغرب، وأنه قتل من الأمم وسبى من الذراري والعيال الكثير، ومن ثم فقد سمي سبأ، وأنه كان يسمى كذلك "الرائش" لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه، ويزعم البعض أنه كان أول من توج، كما يزعم آخرون أنه كان مسلمًا، وله شعر بَشَّرَ فيه بمبعث المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن الرجل قد حكم 484 عامًا، ثم جاء من بعده ولده "حمير"، وأما أهم منشآته، فقد كانت -طبقًا لمزاعم الأخباريين- بناء مدينة سبأ وسدّ مأرب في اليمن، أما في مصر، فقد كانت مدينة "عين شمس" التي خلفه عليها ولده "بابليون".
أما أن سبأ هو "عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، فقد جاء ذلك في كتابة حفرت على نحاس في مجموعة "P Lamare"، وإن كان العلماء لم يقولوا حتى الآن الكلمة النهائية في نوع الكتابة وزمانها، وأما سبب التسمية كثرة الغزو والسبي حتى وصلت غزواته إلى بابل وأرمينية في آسيا، ومصر والمغرب في أفريقيا، فإن ذلك لم يحدث إلا في خيال "ابن منبه" ومن دعوا بدعوته، فضلا عن أن تاريخ تلك البلاد لم يعرف سبأ هذا، ولم يشر إليه، حتى مجرد إشارة، في النصوص التي ملأت آثار تلك البلاد، وإن كان أصحاب تلك البلاد قد عرفوا السبئيين في فترات متأخرة من حضارتهم، على أنهم من تجار البخور واللبان وغيرهما من مستلزمات المعابد القديمة، وليس غزاة يحتلون البلاد ويبنون المدن.
وأما الدعوى بأن سبأ كان مسلمًا، وأنه بشر بمبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليست إلا من هذا النوع من الخيال الذي سوف يجعل "سيف بن ذي يزن" يبشر بعد ذلك بمبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كنت لا أدري- ولا أظن أن الذين كتبوا ذلك كله يدرون- على أي ملة كان إسلام "سبأ" هذا؟
صحيح أننا نعرف أن الإسلام، في لغة القرآن الكريم، ليس اسما لدين خاص وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء، ومن ثم فإن الإسلام شعار عام يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر البعثة المحمدية.
وسؤال البداهة الآن: هل كان سبأ يعي كل هذا؟ حتى يصبح مسلمًا -كما يقدم القرآن الإسلام -ثم كيف عرف سبأ ببعثة مولانا وسيدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى يتنبأ بها قبل حدوثها بمئات السنين، ثم يقول فيها شعرًا، وهل عرف رواة الشعر، أن عربية الجنوب تختلف كثيرًا عن عربية الشمال - عربية القرآن الكريم- وأن شعرهم المزعوم هذا، إنما هو بعربية الشمال، وليس الجنوب، على أن العجب قد يزول، إذا عرفنا أن هؤلاء الذين ينسبون الآن إلى سبأ شعرًا، إنما قد نسبوا إلى آدم وإبليس -بل وحتى الجن- شعرًا عربيًّا فصيحًا كذلك.
أما أن سبأ قد بنى سبأ وسد مأرب، فيكذبه أن التاريخ لا يعرف حتى الآن مدينة باسم سبأ، وأما بناء سد مأرب، فتلك دعوى عريضة، وإن كانت تفتقر إلى الصواب تمامًا -الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني".
وأما النصوص العربية الجنوبية، فليس فيها شيء عن سبأ أو عن لقبه المزعوم، وكل ما فيها إنما يتحدث عن شعب يدعى "سبأ" له دولة، وله حكام، وله آلهة، كغيره من شعوب العربية الجنوبية، وإن كان مما لا ريب فيه أن المصادر التاريخية قد تحدثت عن دولة سبأ، أكثر من غيرها من دول العربية الجنوبية.
السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي:
هناك نص سومري يرجع إلى عهد "أرادننار" من أسرة لجش الثانية -والتي تعاصر أسرة أرو الثالثة التي حكمت في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد- جاء فيه كلمة "Sabu" وتعني "سبأ"، ويذهب "هومل"، إلى أن هذه الكلمة "Sabum" التي وردت في النصوص السومرية إنما تعني "سبأ" التي وردت في التوراة، فإذا كان ذلك كذلك، فإن تاريخ سبأ يعود إلى الألف الثالثة ق. م، ويرى "مونتمجري" أن قوم سبأ الذين تحدثت عنهم النصوص السومرية، إنما كانوا من العربية الصحراوية، أي من البادية، ثم هاجروا إلى اليمن، في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، وإن ذهبت بعض الآراء إلى أن ذلك إنما كان في القرن الحادي عشر ق. م، وبعد مئات من السنين من هجرة المعينيين والقتبانيين إلى اليمن.
على أن رأيًا آخر إنما يذهب إلى أن هجرة أهل معين وقتبان وحضرموت إلى اليمن، إنما كانت حوالي عام 1500ق. م، بينما كانت هجرة السبئيين حوالي عام 1200ق. م، وأن الأخيرين كانت لهم قوافل تجارية تصل إلى فلسطين قبل عام 922ق. م، كما يفهم من بعض نصوص العهد القديم.
ويذهب "هومل" إلى أن السبئيين إنما هم أصلا من العربية الشمالية، وأنهم كانوا يعيشون، فيما يعرف عند الآشوريين بـ "أريبي" و"عريبي"، وفي التوراة بـ "يرب" و"يارب"، وفي القرن الثامن ق. م، هاجروا إلى اليمن حيث استقروا في "صرواح" و"مأرب" التي جاء اسمها من "يارب"، و"يرب" ويعتمد "هومل" في ذلك على أدلة، منها:
"أولًا" ما جاء في نقش "جلازر 1155" من أن السبئيين قد تعرضوا لقافلة معينية في مكان ما بين "معان" و"رجمت" على مقربة من نجران، ومن ثم فإن السبئيين إنما كانوا يقيمون في منطقة تقع إلى الشمال من دولة معين إبان ازدهارها الأخير.
"ثانيًا" اختلاف لهجة السبئيين عن بقية الشعوب العربية الجنوبية، مما يدل على أن السبئيين شماليون هاجروا إلى الجنوب.
على أن هناك وجهًا آخر للنظر، يذهب إلى أن السبئيين إنما كانوا أسبق من المعينيين، ذلك لأن النصوص القديمة التي ورد فيها اسمهم في التوراة وعند الآشوريين صريحة في الكلام عنهم، كمجتمع منظم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، بينما لم يرد ذكر "معين" بصراحة وتحديد في نفس الفترة، ومهما يكن من أمر الوثائق المكتوبة، فإن الملاحظ من الناحية الأثرية هو أن الكتابات التي وردت بالخط المسند من ممالك اليمن المختلفة تبدأ بالكتابات السبئية، ثم إن الآثار غير المكتوبة تبين لنا أن كل هذه التواريخ متأخرة بالنسبة لقيام الحضارة في اليمن، فهناك بالتأكيد آثار ترجع إلى نهاية الألف الثاني ق. م.
وهناك وجه ثالث للنظر، يذهب إلى أن الحفائر الأثرية وتطبيق العملية الراديو كربونية  "Radiocarbon Process"  تشير إلى تعاصر السبئيين والمعينيين، ومن ثم فمن المحتمل أن تكون المملكتان قد قامتا في آن واحد، أو في وقتين متقاربين جدًّا، معين في الشمال، وسبأ في الجنوب.
هذا ونستطيع أن نستنتج من قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام -كما جاءت في الكتب المقدسة- أنه كانت هناك حكومة قوية ومنظمة في سبأ في القرن العاشر قبل الميلاد، ذلك لأن سليمان إنما حكم في الفترة "960-922ق. م"، وتلك في الواقع حقيقة يجب الانتباه إليها، ذلك لأن القرآن الكريم- والتوراة والإنجيل من قبل -قد تحدثت عن قصة سليمان مع ملكة سبأ، وإن اختلفت الكتب المقدسة الثلاثة في سردها للقصة، تبعًا للغرض من السرد نفسه، ولكنها اتفقت جميعًا على وجود مملكة في سبأ، على رأسها ملكة ، وليس من العلم، فضلا عن الإيمان بكتب السماء، أن نشك في أمر أجمعت عليه هذه الكتب المقدسة، ومن ثم فإن وجود ملكة سبئية، شمالية أو جنوبية، في عهد سليمان- أي في القرن العاشر قبل الميلاد- حقيقة ترقى فوق كل شك، وبالتالي فإن وجود السبئيين كقوة منظمة وقوية على رأسها ملكة في القرن العاشر ق. م، حقيقة تاريخية.
على أن التوراة مضطربة في أصل السبئيين، فهم مرة من الحاميين، أبناء كوش ابن حام، وهم مرة أخرى من الساميين، وفرق كبير بين الحاميين والساميين، كما هو معروف، ثم إن سبأ "أو شبأ" تقدمه التوراة -وفي سفر التكوين بالذات- مرة على أنه من ولد يقطان، ولكنه مرة ثانية من ولد يقشان، والمعروف أن "يقطان" من ولد عابر، ولكن "يقشان" من أولاد الخليل عليه السلام من زوجه قطورة الكنعانية، وفرق بين الاثنين كبير.
ولعل هذا الاضطراب في نصوص التوراة بشأن السبئيين، هو الذي جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن ما جاء في التوراة بشأنهم، إنما هو من مصادر غير أصيلة لا يمكن الاعتماد عليها، فضلا عن الثقة بها، فهي مادة كدرة، ليس لها نصيب كبير من الصواب، على أننا نرى في نفس الوقت فريقًا من المتخصصين في الدراسات التوراتية يرون في هذا الاضطراب، دليلا على انتشار السبئيين في آسيا وأفريقية، فهناك جاليات قد استقرت في أرتيريا والحبشة، ومن ثم فقد جعلتهم التوراة من أبناء كوش، بينما جعلت المستوطنين منهم في آسيا على فريقين، الواحد ينتمي إلى يقطان والآخر إلى يقشان، ومن ثم فقد صار السبئيون فرقًا ثلاث، طبقًا لأماكن استقرارهم.
ولست أدري كيف قبل هذا الفريق من العلماء هذا التقسيم لشعب واحد، إلا أن يكون الإيمان بحرفية ما جاء في التوراة هو السبب، حتى إن كان الذي جاء فيها يخالف المنطق، فضلا عن حقائق التاريخ وعلم الأجناس، وإلا فخبرني بربك، كيف قبل هذا الفريق من علماء التوراة، أن يكون السبئيون حاميين وساميين في نفس الوقت، وأن يكونوا من ولد يقشان ويقطان في الوقت نفسه مرة أخرى. ثم ألم يرجع سفر التكوين نفسه الكنعانيين إلى حام، وذلك حين تعمد اليهود في توراتهم -كما يقول كارل بروكلمان -إقصاء الكنعانيين عن الانتساب إلى سام بن نوح، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية، والأمر كذلك بالنسبة إلى المصريين الذين جعلوهم من الحاميين "بنو حام كوش ومصرايم وفوط وكنعان".
إذن: فالأمر متعمد سببه العداء التقليدي الذي يكنه اليهود للمصريين بخاصة، والعرب بعامة، وليس أدل على ذلك من أن سكان واحة ديدان، والذين كانوا يتألفون من طائفتين، أولاهما من أهل البلاد الأصليين، والثانية هي الجالية السبئية التي هاجرت من جنوب بلاد العرب، تنظر إليهم التوراة مرة على أنهم من الكوشيين من جنوب بلاد العرب، ومرة أخرى من السلالة السامية من ولد إبراهيم من زوجة قطوره، مما يدل على الإصرار- فضلا عن الاضطراب- على أن السبئيين من كوش من ولد حام.
وأما ما جاء في النصوص الآشورية بشأن السبئيين من عهد "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" و"سرجون الثاني" "722-707ق. م" و"سنحريب" "705-681ق. م" بشأن الجزية التي تلقاها هؤلاء الملوك من الملكات العربيات: زبيبة وشمسي وغيرهن، والملكين السبئيين "يثع أمر" "أتعمارا" و"كرب إيلو"، ربما لم تكن جزية، بقدر ما كانت هدايا، وأن السبئيين إنما كانوا ينظرون إلى أنفسهم كأنداد لملوك آشور، أو حلفاء لهم، وربما كان هناك تحالف بين الفريقين ضد غارات البدو الجامحين في الشمال.
على أن الذي لا شك فيه أن سبأ كان لها نفوذ واسع يمتد إلى نجد وإلى شمال الحجاز، وكانت تسيطر على الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط جنوب غرب شبه الجزيرة العربية بسورية ومصر، وأن هناك حكامًا سبئيين معتمدين في الواحات الشمالية التي تقع على هذا الطريق، فضلا عن الحامية العسكرية التي تضمن بقاءه تحت النفوذ السبئي، وكانت واحة ديدان "العلا" المركز الرئيسي الذي تمارس فيه دولة سبأ نفوذها في شمال بلاد العرب، إلى جانب تيماء ومعان، وإن كانت ديدان هي المقر الرسمي للحاكم السبئي المقيم.
 
أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية
مدخل
يقسم المؤرخون تاريخ سبأ إلى عصور أربعة، معتمدين في ذلك على أن لقب حكام سبأ لم يكن لقبًا ثابتًا، إنما كان يتغير من عصر لآخر، طبقًا لظروف الدولة نفسها، وأما هذه العصور الأربعة فهي:
1- العصر الأول:
ويمتد من حوالي عام 800ق. م إلى عام 650ق. م، وفيه كان حكام سبأ يحملون لقب "مكرب" ذلك اللقب الذي تغلب عليه الصبغة الدينية، وتقابله في العربية الفصحى "مقرب"، وهو أمير كان يقوم بذبح القرابين للآلهة، كما كان يقوم كذلك بدور الوساطة بين الآلهة والناس، وربما كانت وظيفة "المكرب" هذه تشبه إلى حد كبير وظيفة المزواد" عند المعينيين، والقضاة عند بني إسرائيل، وربما لقب "إيشاكو" عند السومريين، وكل هذه الألقاب إنما تعطي أصحابها صفة دينية في حكم بلادهم، أو على الأقل إشارة إلى القداسة التي يرتكزون إليها في ممارسة هذا الحكم، سواء أكان ذلك من الناحية الدينية أو المدنية.
2- العصر الثاني:
ويمتد من حوالي عام 650ق. م، وحتى عام 115ق. م "أو عام 109ق. م"، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك" كما اتخذوا من "مأرب" عاصمة لهم، بدلا من "صرواح" عاصمة الدولة في العصر الأول، وقد بدأ هذا العصر بـ"كرب إيل وتر"، الذي كان آخر من حمل لقب "مكرب"، وأول من حمل لقب "ملك".

3- العصر الثالث:
ويمتد من حوالي عام 115ق. م، وحتى عام 300م، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك سبأ وذي ريدان" إشارة إلى ضم "ريدان" إلى التاج السبئي، وربما يشير كذلك إلى دولة قتبان أو حمير فيما يرى بعض الباحثين، ومن هنا رأينا بعض المراجع تطلق عليه تجاوزًا اسم "عصر الدولة الحميرية الأولى".
4- العصر الرابع:
ويمتد من حوالي عام 300م، وحتى عام 525م، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك سبأ وذي ريدان" وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، "عصر الدولة الحميرية"، وهو آخر دور من أدوار الحكم في سبأ وخاتمة الأدوار، حيث تبدأ البلاد بعد ذلك تقاسي الأمرين من الحكم الأجنبي "الحبشي والفارسي" إلى أن يظهر نور الإسلام في مكة المكرمة، وتنضوي اليمن تحت لوائه في عام 628م، وبهذا ينتهي التاريخ اليمني القديم.
والمفروض -بناء على تطور هذه الألقاب- أن يكون السبئيون قد بدءوا أمراء صغارًا ممن يسميهم الكتاب العرب "الأذواء" وهم يقصدون بذلك جمع "ذو" أي صاحب، التي يضاف إليها اسم المكان، من حصن أو محفد، مثل غمدان وصاحبه "ذو غمدان"، وريدان، وصاحبه "ذو ريدان"، ثم تحولوا إلى أمراء لعدد من الحصون أو المحافد ممن يسميهم الكتاب العرب "الأقيال"، ومفردها قيل، وهم في الطريق إلى أن يسيروا ملوكًا أو أباطرة على البلاد.
أولًا: عصر المكاربة
يرى بعض الباحثين، كما أشرنا آنفًا، أن هذا العصر يقع فيما بين عامي 800، 650ق. م، بينما حدد له آخرون الفترة من "750-450ق. م"، هذا إلى جانب فريق ثالث -وهذا ما نرجحه ونميل إلى الأخذ به- ذهب إلى أنه قد بدأ في القرن العاشر ق. م، وربما في القرن التاسع ق. م، وكانت عاصمة الدولة وقت ذاك مدينة "صرواح"، كما أن ملكة سبأ المشهورة في تاريخ سليمان بن داود، إنما تنتمي إلى هذه الفترة من الناحية الزمنية.
وأما أول المكاربة فهو "سمه علي"، وقد حدد له "فلبي" الفترة "800-780ق. م"، ثم عاد بعد عامين فحدد له عام 820ق. م، كبداية لحكمه، ويذهب بعض الباحثين إلى أن نقش "جلازر1147" إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، فضلا عن نقش "جلازر 926" الذي وردت فيه أسماء سبأ ومأرب وفيشان، وكذا أسماء الآلهة "عثتر والمقة وذات حميم" ثم اسم المكرب طبقًا للعادة المألوفة في التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب أو ملك.
ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن السبئيين إنما كانوا يعبدون "عتثر" "عشتر" الإله العربي الجنوبي على أنه إله ذكر، ويرمزون له بنجم الزهرة، بينما نظائره في جميع الأديان السامية البشرية الأخرى إلهة مؤنثة، كعشتار عند البابليين والآشوريين، وعشتارت عند الكنعانيين، كما أن عبادة "عثتر" هذا لم تكن مقصورة على السبئيين، وإنما كانت منتشرة كذلك بين المعينيين والقتبانيين، أضف إلى ذلك أن النصوص إنما تذكر عادة الآلهة "عثتر وهوبس والمقة" في صيغ التوسل كوحدة متكاملة، فثلاثتها تأتي بعد "ياء" واحدة، وربما تعني بحق "أي بحق عثتر وهوبس والمقة"، بينما تأتي بقية الآلهة، وكل منها له "ياؤه" الخاصة به- أي كل واحد تسبقه بكلمة بحق- أما الإلهة "ذات حمى" "ذات حميم" فمظم الباحثين يرونها -وكذا ذات بعدن -اسمًا للإلهة الشمس، وأن "ذات حمى" ربما كانت بمعنى ذات حرارة، على أساس أن حمى تعني الحرارة.
وهناك نقش -ربما كان هو الذي الذي أشرنا إليه آنفًا -يتحدث عن تقديم المكرب "سمه علي" البخور والمر للإله القومي "المقه" "الموقاة"، مما يشير إلى أن المكرب كان يقدم البخور باسمه، ونيابة عن قبيلته التي قادها من الفيافي والقفار إلى الأرض السعيدة التي تفيض لبنًا وعسلا.
وجاء بعد "سمه علي" ولده "يدع إيل ذريح" الذي يرى "فلبي" أنه حكم حوالي عام 800ق. م، بينما يرى "فون فيسمان" أنه حكم حوالي القرن الثامن ق. م ويضعه "أولبرايت" في النصف الثاني من القرن السابع ق. م "في فترة مبكرة منه أو في أواسطه"، وأخيرًا فهناك من يحدد ذلك بعام 750ق. م.
وقد قدمت لنا الحفائر عدة نقوش ترجع إلى أيام "يدع إيل ذريح"، منها ذلك النقش الطويل الموجود على الجدار الخارجي لمعبد "صرواح"، وقد جاء فيه أن هذا المكرب هو الذي بنى هذا الجدار، كما يذكر النقش كذلك الإله المقة وعثتر، والإلهة "ذات حميم" والذين يكونون معًا "ثالوث المدينة القديمة"، هذا ويرى الدكتور أحمد فخري أن هذا المعبد "معبد صرواح"- والذي يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد- إنما هو أقدم المعابد السبئية التي ظلت قائمة حتى اليوم.
وهناك نقش عثر عليه في "محرم بلقيس" عرف بنقش "جلازر 484" يتحدث عن بناء "يدع إيل ذريح" لجدار في معبد الإله المقة في أوام، وتقديم القرابين للإله "عثتر"، كما أن هناك في منطقة المساجد بمأرب آثار معبد مستطيل الشكل يحمل نقشين من عهد "يدع إيل ذريح" يتضمنان نصًا ينسب إليه بناء هذا المعبد المعروف بمعبد "محرم بلقيس" والمخصص لإله سبأ الرئيسي "المقة".
وجاء بعد "يدع إيل ذريح" ولده "يثع أمر وتر"، وقد جاء في النقش "Coh 490" أنه أنشأ معبد الإله القمر الذي أطلق عليه السبئيون لفظ "هوبس" في قرية "دبير" -في منتصف المسافة بين مأرب والمدن المعينية في الجوف- وإن كان "هومل" يرى أن "دبير" هذه ليست قرية، وإنما قبيلة بنت معبدًا باسمها، وأن "يثع أمر" إنما قام بتجديد هذا المعبد، وسواء أكان هذا أو ذاك، فإنه يعني على أي حال، أن المكرب السبئي بدأ يتدخل في شئون معين منذ تلك الفترة المبكرة، التي ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
وجاء بعده -فيما يرى هومل- ولده "يدع إيل بين"، وهناك ما يشير إلى أنه قام بتحصين مدينة "نشق"- التي عرفها الرومان باسم "نسكا Nesca"، وتعرف الآن باسم "خربة البيضاء" الواقعة في الجوف- وربما قد يتبادر إلى الذهن أنه قد حصنها بعد نصر أحرزه على سكانها، غير أن المؤرخين لا يعرفون متى تم هذا النصر- أفي عهده أم في عهد أبيه- وإن رأى "هومل" أنه إنما كان على يد "سمه علي ينف"، الذي جاء ذكره على بعض النقوش التي عثر عليها في تلك المنطقة، وإن لم يكن هناك من دليل يؤيد وجهة النظر هذه.
وعلى أي حال، فيبدو أن السبئيين إنما كانوا يحاولون الاستيلاء على معين على مراحل، وقد رأينا من قبل أنهم استولوا على "دبير" ثم اتخذوا منها مركزًا للإغارة على المعينيين، غير أن هناك ما يشير إلى أن "دبير" قد انفصلت عن سبأ، ثم عادت مرة أخرى إلى النفوذ السبئي على أيام "كرب إيل وتر".
وجاء بعد ذلك المكرب "يثع أمر"، والذي يرى فيه "هومل" ابنًا لسلفه أو شقيقًا له، وأما "فلبي" فقد ذهب مرة إلى أنه أحد أبناء "سمه على ينف" وذهب مرة أخرى إلى أنه شقيق أو ابن شقيق سلفه، وأنه المعاصر للملك الآشوري سرجون الثاني "722-705ق. م" وأنه قدم إليه الهدايا، بل إن هناك ما يشير إلى أن "تجلات بلاسر الثالث" "745-726ق. م" قد أخذ الجزية من تيماء وغيرها من الواحات العربية، فضلا عن "سبأ" والتي ربما تعني الجالية السبئية التي خلفت المعينيين في ديدان، ومن هنا فإنها ترد في النص بعد تيماء مباشرة.
وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى أن "يثع أمر" كان يحكم كذلك في شمال بلاد العرب، على مقربة من البادية "إما في أعالي الحجاز أو نجد، وإما في المناطق الجنوبية من الأردن"، إلا أن عثور بعثة ألمانية على نقش يفيد تقديم هدايا للملك الآشوري "سنحريب" "705-681ق. م" من "كرب إيلو" السبئي، جعل العلماء يرون أن الملكين اللذين قدما الهدايا للآشوريين، إنما هما المكربان "يثع أمر" و"كرب إيلو"، وأن "يثع أمر" إنما قدم هداياه حوالي عام 715ق. م" ذلك لأننا نعرف أنه في حوالي عام 270ق. م، وربما عام 715ق. م، قد انتشرت القلاقل والاضطرابات في سورية وفلسطين ضد الآشوريين بدرجة كبيرة، وأن معظم سكان الولايات المختلفة هناك قد ساهموا فيها بدرجة كبيرة أو صغيرة، وطبقًا لرواية التوراة، فقد أتى الإمبراطور الآشوري بقوم آخرين من "كوت وبابل وعوا وحماة وسفروايم"، وأسكنهم في هذه الأقاليم، وليس من شك في أن الآشوريين كانوا يهدفون من سياستهم هذه كسر التحالفات القديمة، بإدخال أجانب في البلاد "وربما كانوا في بعض الحالات من الآشوريين أنفسهم"، وبداية لظروف جديدة أكثر ملاءمة للإمبراطورية الآشورية الطموح.
ونقرأ في حوليات سرجون الثاني من هذه الفترة، أنه في السنة السابعة من حكمه، وفي حوالي عام 715ق. م، "وطبقًا لوحي صادق من آشور إلهي، قضيت على قبائل تامود وإيباديدي ومرسيمانو وجبايا والعرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء والذين لا يعترفون برؤساء أو موظفين، والذين لم يكونوا قد جاءوا بجزهم لأي ملك، سبيت الأحياء منهم ونقلتهم إلى السامرة، من بيرعو ملك مصرو، ومن شمسي ملكة العرب، ومن "أتعمارا" "يثع أمر" السبئي"، ومن ثم فربما كان "فلبي" مصيبًا في رأيه حين حدد الفترة "720-700ق. م" لحكم "يثع أمر" هذا، وعلى أي حال، فهناك من يرى أن نفوذ العاهل الآشوري إنما وصل إلى سبأ نفسها، ومن ثم فقد أسرع ملكها بحمل الجزية إلى سرجون، حتى لا تقع بلاده آخر الأمر ضمن أملاك الآشوريين.
وجاء بعد "يثع أمر" ولده "كرب إيل بين"، وطبقًا للنقش "Cih 639" فإن الرجل قد وسع أطراف مدينة "نشق" ربما لأغراض سياسية واقتصادية، هذا ونقرأ في حوليات "سنحريب" أنه تسلم هدايا من "كرب إيلو" ملك السبئيين.
أما الهدايا فقد كانت من الأحجار الكريمة والعطور، وأما "كرب إيلو" فهو المكرب "كرب إيل بين"، وإن كان الآشوريون قد أطلقوا عليه لقب "ملك"، فليس لذلك من تعليل سوى أنهم كانوا يجهلون ألقاب حكام سبأ في تلك الفترة.
وجاء بعد "كرب إيل بين" ولده "ذمار علي وتار"، ونقرأ في نقش "هاليفي 349" أنه أمر بتوسيع مدينة "نشق" فيما وراء الحدود التي اختطها أبوه، كما أمر بتحسين وسائل الري وباستصلاح الأراضي المحيطة بها واستغلالها في الزراعة، وإن جعل ذلك مقصورًا على السبئيين، على أن الاهتمام بمدينة "نشق" "المعينية الأصل" إنما يدل على مدى اهتمام حكام سبأ باستصلاح الأراضي البور فيها، ثم توزيعها على السبئيين من أتباعهم، وبالتالي تحويلها إلى مدينة سبئية بمرور الوقت.
وهناك على مقربة من "مأرب" توجد فتحة لتنظيم تصريف المياه التي كانت تسير في القناة اليمنى "إحدى القناتين اللتين كانتا تخرجان من سد مأرب" وما زالت بقايا جداريها المشيدين بالحجر، باقية حتى الآن في الجهة الجنوبية من المدينة، وهي أمام الباب الرئيسي من السور الذي كان يواجه معبد "أوام" أو محرم بقليس، وعلى الجدار الشمالي من ذلك الأثر النقش رقم "1-44" وقد جاء فيه أن مكرب سبأ "ذمار علي وتار" بن "كرب إيل" "الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد" هو الذي بنى هذه الفتحة، أمام هيكل الإله "عتثر".
وجاء بعد "ذمار علي وتار" ولده "سه علي ينوف" الذي ينسب إليه أنه صاحب فكرة ومنفذ أكبر مشروع للري عرفته بلاد العرب، وذلك بالرغم من أن سكان "مأرب" كانوا ذوي خبرة بشئون الري، إلا أن سدودهم كانت بدائية، حتى جاء "سمه علي ينوف"، وأحدث تطورًا في وسائل الري، وذلك حين شيد "سد رحب" للسيطرة على مياه الأمطار والإفادة من السيول، وهكذا بدأ المشروع العظيم، والذي عرف في التاريخ باسم "سد مأرب" والذي نما على مر الأيام حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام "شمر يهرعش"، فنظم وسائل الري وأضاف مساحات كبيرة للأراضي الزراعية.
ونعرف من نقش "جلازر514" أن "سمه علي ينوف" قد ثقب حاجرًا في الحجر وفتح ثغرة فيه لمرور المياه إلى سد "رحب"، ثم إلى منطقة "يسرن" التي كانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالمياه من حوض السد، وتبتلع مياهها من مسيل "ذنة" فتغذي أرضًا كانت، وما تزال، خصبة، يمكن للقوم الإفادة منها إذا ما استعملوا الآلات الحديثة لإيجاد المياه.
وليس هناك من شك في أن عهد "سمه علي ينوف" من أهم عهود مكاربة سبأ، فيما يتصل بالتأريخ لسد مأرب، وأن أقدم ما لدينا من وثائق عنه، إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، ربما إلى حوالي عام 750ق. م، على رأي، وحوالي عام 700ق. م، على رأي آخر.
وسار ولده وخليفته "يثع أمر بين" على سنته، ويبدو أن سد "رحب" لم يف بجميع احتياجات الأراضي الصالحة للزراعة، ومن ثم فقد عمل، "يثع أمر بين" على إدخال التحسينات على هذا السد، وإنشاء فروع له، ومنها فتح ثغرة في منطقة صخرية حتى تصل المياه إلى أرض "يسرن"، هذا إلى جانب تعلية "سد رحب" وتقويته، أضف إلى ذلك بناء سد "هباذ"، وهو أكبر من سد رحب، والذي كان على الأرجح البوابة الأخرى على اليسار، كما أقام سد الجبار المعروف باسم "سد حبابض" الذي مكن الأرض من الإفادة بأكبر كمية من المياه كانت تجري عبثًا، فلا تفيد زرعًا ولا ضرعًا.
ولعل هذا كله هو الذي دفع بعض الباحثين إلى اعتبار "يثع أمر" وأبيه "سمه علي ينوف" المؤسسين الحقيقيين لسد مأرب، والذي يعتبر أكبر عمل هندسي شهدته بلاد العرب في تاريخها القديم، وقد تم هذا العمل في القرن السابع ق. م "فيما بين عامي 650، 630ق. م"، هذا وقد كان من أثر الاهتمام بإنشاء السدود وتنظيم الري، أن زادت مساحة الأراضي الزراعية، وخاصة حول مأرب، مما كان سببًا في الإعلاء من شأنها وزيادة سكانها، ولما كان الرخاء الاقتصادي في سبأ يعتمد على الحياة النباتية -وليس الحيوانية- فإن الاهتمام بتنظيم الري إنما كان سببًا في الرخاء الذي ساد البلاد، إبان الفترة، وجعل من مأرب مدينة مزدهرة، وبالتالي فقد أوجد الصورة الرومانتيكية لبلاد العرب في عقول المؤلفين الكلاسيكيين، فأطلقوا عليها "بلاد العرب السعيدة، وهكذا أصبحت مأرب تنازع صرواح مكانتها أول الأمر، ثم احتلال هذه المكانة بعد حين من الدهر، فغدت عاصمة "سبأ"، وصاحبة معبد الإله الموقاه، إله سبأ الكبير.
هذا ولم يكن نشاط "يثع أمر" مقصورًا على النواحي الاقتصادية فحسب، وإنما تعداه إلى النواحي الحربية، ومن ثم فإننا نقرأ في نقش "فلبي 77" أنه سَوَّرَ "حريب" وحَصَّنَ قلعتها، وأنه قام بحملات عسكرية ضد القبائل والدويلات المجاورة، التي بدأ الضعف يتسرب إلى كيانها، وأخذت حكوماتها تسير نحو الزوال بخطى حثيثة، فطبقًا للنقوش التي عثر عليها في مأرب، فإن "يثع أمر" قد هاجم قتبان على أيام ملكها "سم وتر"، وقتل منها قرابة أربعة آلاف رجل، ولم يكن حظ معين بأفضل من حظ قتبان، وإن كنا لا نعلم عدد الضحايا من أبنائها، إلا أننا نعرف أنه قد تابع انتصاره عليها بنصر آخر أحرزه على القبائل والمدن التي لم تكن قد خضعت بعد لحكومته، حتى وصل إلى نجران، وهناك وعلى مقربة من نجران دارت رحى الحرب بينه وبين "مهأمرم"، "مهامرم" و"أمرم" حتى قتل من أعدائه 45 ألفًا، وأسر 63 ألفًا من الرجال، وغنم 31 ألفًا من الماشية، ودمر عددًا من المدن والقرى، الواقعة بين رجمت ونجران.
وأما النشاط الديني، فقد أسهم فيه ببناء "معبد نسور" و"معبد علم" و"معبد في ريدان"، هذا فضلا عن معبد للإلهة "ذات حميم" في "حنن"، وعدة أبنية بإزاء معبد "دهب"، كما أقام مذبحًا عند باب "نوم" للاحتفال بموسم "صيد عثتر" الذي لا نعرف عنه شيئًا، وإن كان يبدو أن مكاربة سبأ إنما كانوا يحتفلون بالصيد في مواسم معينة، ثم يعقدون صلة بين هذه المواسم وبين الآلهة، ربما ابتغاء مرضاة هذه الآلهة، ورغبة منهم في أن تمنحهم صيدًا وفيرًا.
وجاء بعد "يثع أمر"، "كرب إيل وتار" والذي يعد عهده من العهود الحاسمة في تاريخ سبأ، فهو خاتمة لعهود المكربين، وفاتحة لعهود ملوك سبأ، أو بمعنى آخر، الانتقال من حكومة دينية إلى حكومة مدنية، حيث بدأ الحكام السبئيون يخلعون لقب "مكرب" -والذي ربما كان يعني أمير كاهن أو الكاهن الأكبر، وربما الملك الكاهن، مما يشير إلى الأساس الـ"ثيو قراطي" الذي قامت عليه الدولة- وعلى أي حال، ففي أخريات عهد هذا الحاكم السبئي "كرب إيل وتار" بدأت الدولة تتحول إلى حكومة دنيوية، وأصبح رئيسها يحمل لقب "ملك".
ويرى "فلبي" أن "كرب إيل وتار" قد حكم في الفترة "620-600ق. م" وأنه غير لقبه من مكرب إلى ملك حوالي عام 610ق. م، بينما يرى آخرون أنه حكم في حوالي نهاية القرن الخامس ق. م، ويعد "نقش النصر" في صرواح، والذي يغطي وجهي جدار مشيد من المرمر قائم في بهو المعبد، من أهم مصادر التاريخ اليمني، ذلك لأن صاحبه "كرب إيل وتار" قد دون فيه كل أعماله الحربية والدينية.
ويبدأ النص: الذي تعد دراسة "نيكلولوس رود كناكيس" أهم دراسة له، بتوجيه الملك السبئي الشكر للآلهة السبئية التي أغدقت نعمائها عليه، فوحدت صفوف قومه، وباركت أرضه، ووهبتها أمطارًا سالت في الأودية وساعدته على إنشاء السدود وحفر القنوات، لري الأرضين التي لم تصلها المياه، ومن ثم فقد نحر الذبائح وقدم القرابين للآلهة -الموقاة وعتثر وهوبس-.
وينتقل النص بعد ذلك إلى مجال السياسة والحروب، فيحدثنا كيف أن "كرب إيل وتار" قام بفتوحات كثيرة في البلاد المجاورة وانتصر على "سأد" و"نقبة"، وأحرق جميع مدن "معافر" وقهر "ضبر" و"ضلم" و"أروى" وأحرق مدنهم وقتل منهم ثلاثة آلاف وأسر ثمانية، وضاعف عليهم الجزية التي يدفعونها -ومن بينها البقر والماعز -هذا فضلا عن انتصاره على "ذبحان ذو قشر" وعلى "شرجب" وإحراق مدنهما، كما استولى على جبل "عسمة: و"وادي صير"، وجعلهما وقفًا للإله الموقاة، ولبني قومه من السبئيين.
ولعل من أهم حروبه تلك التي استعر أوارها بينه وبين "أوسكان" "أوزان"، والتي كان من جرائها قتل  ألفًا، وأسر 30 ألفًا من أوسان -وهي دويلة صغيرة قامت في جنوب بلاد العرب، ثم سرعان ما بدأت تنافس سبأ نفسها من ناحية، وحضرموت من ناحية أخرى، بعد أن ضمت إليها عددًا من الحلفاء مثل سعد ومعافر، وإقليم دثينة ودهس وتبنو، وسائر القبائل النازلة هناك شرقًا حتى حضرموت -وأما سبب تلك الحروب بين سبأ وأوسان، فيرجع إلى أن حضرموت وقتبان كانتا حليفتين لسبأ، فتقدم ملك أوسان واستولى عليهما، ومن ثم فقد وجد "كرب إيل وتار" نفسه مضطرًا لمناصرة حلفائه، وهكذا اتجه إلى أوسان وأعمل السيف فيها حتى أخضعها، والأمر كذلك بالنسبة إلى دهس وتبنو، حيث قتل منهم ألفًا وأسر خمسة آلاف، وأحرق كثيرًا من مدنهم، ثم ضمها إلى سبأ، ثم أعاد إلى الحضارمة والقتبانيين ما كان لهم من أملاك في أوسان.
واتجه "كرب إيل وتار" بعد ذلك إلى "معين"، وطبقًا لما جاء في "نقش صرواح"، فإن مدينة "نشان" "خربة السوداء" قد عارضت "كرب إيل وتار" وناصبته العداء، ومن ثم أرسل إليها جيشًا نجح في إيقاع الهزيمة بها، كما نهب "عشر" و"بيجان" ومجاوراتها، إلا أن نشان سرعان ما أعلنت الثورة من جديد، غير أن ثورتها هذه لم يكتب لها نصيب من نجاح، فضرب الحصار على "نشق" قرابة أعوام ثلاثة، انتهت بضمها إلى سبأ، وسقط ألف قتيل من "نشان"، فضلا عن الاستيلاء على أراضيها الزراعية والسدود التي نظم الري فيها، إلى جانب إسكان السبئيين فيها، وبناء معبد للموقاة.
ويتحدث نقش النصر بعد ذلك عن مدن "سبل" و"هرم" و"فنن"، وأن الملك "كرب إيل وتار" قد أرسل إليها جيشًا كتب له نصر مؤزر عليها، وأن ملوكها قد قتلوا في المعارك التي دارت رحاها بين جيشه وأهل تلك المدائن، كما سقط منهم ثلاثة آلاف قتيل، وأسر خمسة آلاف، وغنم السبئيون 50 ألف رأس من الماشية، وفرضوا الجزية على أعدائهم، فضلا عن وضعهم تحت الحماية السبئية.
ويشير آخر النقش إلى حملة "كرب إيل وتار" على "نجران" فيحدثنا عن أهل "مه أمر"، "مهامر" و"مه أمرم" و"عوهب"، وكيف أن الملك السبئي قد هزمهم، وقتل منهم خمسة آلاف، كما أسر اثني عشر ألف طفل، وغنم اثني عشر رأس من الماشية، وأن "مه أمرم" قد أحرقت وصودرت مياهها، وفرضت الجزية على البقية من سكانها.
وأما الوجه الآخر من النقش، فيقدم لنا بيانًا بأعمال التحصينات التي قام بها "كرب إيل وتار" لتحصين مدن مملكته، كما يتحدث كذلك عن ممتلكات الملوك الذين دانوا لطاعته، وعن خزانات المياه التي أصلحها أو شيدها، وحدائق النخيل التي قام بغرسها.
وهكذا كانت حروب "كرب إيل وتار" فاتحة عهد جديد في تاريخ اليمن القديم، وأصبح مكرب ملكًا على اليمن بأكملها، بما في ذلك حضرموت ونجران، وما كان يسمى بالمحميات، واستمر ذلك الملك الواسع الكبير لسبأ عدة قرون إلا أن هذه الحروب من ناحية أخرى قد أضرت كثيرًا بمدن اليمن، فقد أحرق فيها "كرب إيل وتار" الكثير من المدن، كما قتل الكثير من أبنائها، مما أدى إلى تدهور الأحوال في اليمن، وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى اندثار الكثير من الأماكن بسبب إحراقها، واهلاك سكانها.
بقيت كلمة أخيرة تتصل بمدينة "صرواح" -مقر الإله الموقاة، وعاصمة سبأ في تلك الفترة- وواحدة من أهم المدن السبئية لعدة قرون بعد ذلك- وتقع الآن في موضع "الخربة" و"صرواح الخريبة"، ما بين صنعاء ومأرب، هذا وقد تردد ذكرها في أشعار العرب، ويصفها الهمداني بأنها لا يقارن بها شيء من المحافد المختلفة، كما جمع الكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي الذي ورد فيه اسمها، وفي هذا كله دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرًا لم يستطع الزمن أن يمحوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام.
ويروي الأخباريون أنها حصن باليمن، وأن الجن قد بنوه لبلقيس ملكة سبأ بناء على أمر من سليمان عليه السلام، ولا ريب في أن هذا من نوع الأساطير التي لعب الخيال فيها دورًا كبيرًا، فضلا عن جهل فاضح بالتاريخ، إلى جانب أثر الإسرائيليات في إرجاع أي أثر لا يعرفون صاحبه إلى سليمان وإلى جن سليمان.
وتوجد المناطق الأثرية في صرواح في ثلاثة مناطق متقاربة، واحدة منها هي منطقة البناء "مكان السد القديم"، والثانية هي منطقة "القصر- وهي قرية حديثة البناء استخدموا في تشييد بعض منازلها أحجارًا من المعابد -أما الآثار الباقية المهمة ففي منطقة "الخريبة"، على أن أهم آثار صرواح إنما هي المعبد الكبير، معبد إله القمر "الموقاة" الذي استدرات إحدى ناحيتيه، فجعلت منه بناء نصف بيضي الشكل، ولا يمكن معرفة التصميم الأصلي للبناء الذي يبلغ ارتفاع جدرانه أكثر من عشرة أمتار، إلا بعد عمل الحفائر حوله وتنظيف داخله، لأنه قد استخدم خلال قرون طويلة كحصن في العصور الوسطى، وفتحوا فيه بعض المداخل، كما سدوا بعض أبوابه القديمة، واستخدموا كثيرًا من الأحجار الكبيرة في تلك الترميمات، هذا وقد زار أستاذنا الدكتور أحمد فخري أنقاض معبد الموقاة، وصور عددًا كبيرًا من النقوش التي ترجم بعضها الأستاذ "ريكمانز"، هذا، وإلى جانب معبد الموقاة، توجد بقايا عدة مبان أخرى، نقشت بعض أعمدتها بالكتابات، فهناك دار بلقيس، ومعبد يفعان، الذي نال حظوة كبيرة لدى المكاربة.
ثانيًا: عصر ملوك سبأ
لعل أهم ما يميز هذا العصر أمران:
 الأول: انتقال العاصمة من صرواح إلى مأرب، واتخاذ قصر "سلحين" الشهير قاعدة للعرش السبئي. والآخر: أن حكام سبأ بدءوا يتخلون عن لقب "مكرب"، ويتخذون بدلا عنه لقب "ملك"، وأما توقيت هذا العصر فموضع خلاف، فبينما يذهب "هومل" إلى أنه إنما كان في الفترة "650-115ق. م" -أو حتى عام 109ق. م، فيما يرى ريكمانز- يذهب "فلبي" إلى أنه بدأ في عام 610ق. م، وأن "كرب إيل وتار" إنما كان في الفترة "620-610ق. م" مكربًا لسبأ، وليس ملكًا لها، ويتجه "أولبرايت" إلى أن ذلك إنما كان بعد قرنين، وأن "كرب إيل وتار" قد حكم كملك في حوالي عام 450ق. م، وبالتالي فإن عهد ملوك سبأ إنما يبدأ في تلك السنة.
وأيًّا ما كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن "كرب إيل وتار" هو أول ملوك هذه الفترة، ومن الثابت تاريخيًّا أن هذا الأمير القوي الذي نستطيع أن نقول عنه إنه المؤسس الحقيقي للملكية السبئية كان يحتفظ كذلك بلقب "مكرب" المقدس، -كما احتفظ به الذين جاءوا من بعده- وربم كان لقب مكرب السبئي هذا أصلا لقب أمير قتبان.
وكان "سمه علي ذريح" هو الملك الثاني، وقد ذهب "فلبي" إلى أنه ربما كان ابنًا لسلفه، وأن حكمه قد بدأ حوالي عام 600ق. م، ثم جاء من بعده ولده "الشرح"، ونقرأ في نص "Cih374" أنه أقام جدار معبد الإله الموقاة في محرم بلقيس في مأرب، ورمم أبراجه، وأدى ما كان قد نذره للموقاة ولعثتر وهوبس وذات حميم، وأنه أقام هذا النقش تخليدًا لذكرى والده "سمه علي ذريح" هذا وقد سجل هذا الملك اسم شقيقه "كرب إيل"، الذي لا نعرف عنه شيئًا، وإن كان "هومل" -وفلبي من بعده- إنما جعلاه خليفة لوالده، بينما جعلا "الشرح" خليفة له، كما بدأ "فلبي" حكم "كرب إبل" هذا، بعام 580ق. م.
وانتقل حكم سبأ بعد ذلك إلى "يدع إيل بين" الذي يرى بعض الباحثين أنه إنما حكم في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، معتمدين في ذلك على ذكر اسمه- وكذا حصن "إلو"- في نقش "جلازر 105" الذي يرون أنه يرجع إلى هذه الفترة، وإن كان "فلبي" يرى أنه حكم في الفترة "560-540ق. م"، فإذا كان ذلك كذلك، فإن سبأ لا بد وأن تكون قد فقدت نفوذها في شمال بلاد العرب في تلك الفترة من القرن السادس قبل الميلاد، لأننا نعرف أن "نبونيد" "555-539ق. م"- ذلك الملك المثقف الذي اشتهر في التاريخ القديم بحبه للآثار وعنايته بها -قد قضى عشر سنوات في تيماء في شمال بلاد العرب، بعد أن قام بحملته المشهورة التي أخضع فيها تيماء وديدان وخيبر وأتريبو "يثرب- المدينة المنورة" وكبد فيها العرب خسائر فادحة، ثم أقام قصرًا في تيماء بقي فيه حينًا من الدهر، حتى أصبحت تيماء وكأنها قد غدت خليفة لبابل، ولم يعد من تيماء إلا في عام 546ق. م، عندما دعاه رعاياه الذين كان على خلاف معهم طوال تلك الفترة التي قضاها في تيماء، وربما كانت عودته من هناك بسبب التهديدات الفارسية لبابل.
وعلى أي حال، فلقد جاء بعد "يدع إيل بين" ولده "يكرب ملك وتار"، ولدينا من عهده نقش "هاليفي51"، وهو عبارة عن وثيقة موافقته على قانون صدر أيام أبيه يبيح لشعب سبأ -وكذا لقبيلة "يهبلح"- حق استغلال أرض زراعية في مقابل ضريبة معينة تدفع للدولة، فضلا عن واجباتهما تجاه الخدمة العسكرية، في أيام السلم والحرب سواء بسواء، كما أشار القانون إلى وضع قبيلة "أربعان" التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي، ولها رؤساء يحملون لقب "ملك".
وجاء بعد ذلك "يثع أمر بين"، وقد جاء اسمه في عدة كتابات تتصل بتقديم قرابين للإله "بعل أوام" والإله "عثتر"، وإن كانت الكتابة التي سجلها "تبع كرب" كاهن الإلهة "ذات غضرن" تتحدث عن ثلاثة ملوك "يدع إيل بين، يكرب ملك، يثع أمر بين"، وعلى أي حال، فإن الكتابة إنما تروي قصة الدور الذي قام به صاحبها "تبع كرب"، كقائد عسكري، في الحروب التي أشعلت نيرانها قتبان ضد سبأ، إلا أن هذا القائد الكاهن نجح في أن يصد هجوم القتبانيين، وأن يسترد الأرضين التي استولوا عليها، وأن يضع شروطًا للصلح بين سبأ وقتبان، ثم يرسلها إلى "يثع أمر بين" في مأرب، حيث تمت الموافقة عليها، وأخيرًا يسجل هذا النص، ثم يضعه في معبد الإله الموقاة، المعروف عند السبئيين "بمعبد أوام بيت الموقاة" تمجيدًا لإله سبأ الكبير، وتخليدًا لذكرى عمله الجليل هذا.
ثم جاء "كرب إيل وتار" ولدينا من عهده عدة كتابات، منها ما يتصل بطريقة جمع الضرائب -وهو أمر قد أوكل القيام به إلى رؤساء القبائل- ومنها ما يتصل بالأعمال الزراعية من بناء للسدود وحفر للقنوات، كما ورد اسم الملك مع اسم "سمه علي" في النص المعروف بـ"3Rep Epig".
وهناك كتابة ترجع إلى أيام "ذمار علي" بن "يدع إيل وتار" -وكذا اسم ابنه الذي ضاعت حروفه- وفيها ذكر لآلهة سبأ ومعين في نفس الوقت، فإذا ما تذكرنا أن الرجل من "ريمان" "وهي عشيرة من سبأ" له بيت في "نمران" "بيت نمران الحالية"، ومن ثم اختلط هؤلاء بالمعينيين، مما كان سببًا في ذكر آلهة معين مع آلهة سبأ، وربما كان ملك سبأ هو الذي أسكن هذه الجماعة من الريمانيين عند "نشق" لحماية معين، وللدفاع عنها بعد أن خضعت لسبأ.
وجاء بعد ذلك عدة ملوك منهم "الكرب يهنعم" و"كرب إبل وتار" ثم "أنمار يهأمن"، "أنمار يهنعم"، والذي حدد له "فلبي" الفترة "290-270ق. م"، وإن ذهب "فون فيسمان" إلى أنه حكم في القرن الأول قبل الميلاد "حوالي عام 60ق. م"، ثم جاء من بعده ولده "ذمار علي ذريح".
وانتقل العرش إلى "نشأ كرب يهأمن"، "نشأ كرب يهنعم"، وهناك ما يدل على أن تماثيل الإله "عثتر ذي ذب"، قد أصابها بعض التلف، وأنها قد رممت، وأن الرجل قد قدم إلى "تنف ربة غضران" أربعة وعشرين وثنًا، بغية أن تبعد الضرَّ عنه وعن أهل بيته، "بحق عثتر والموقاة، وبحق شمس تنف ربة ذي غضران"، وفي هذا دلالة على أن المعبد الذي قدمت فيه هذه الأصنام، إنما كان في "ذي غضران" وأنه قد خصص للإلهة "الشمس الفائقة" وأن كلمة "تنف" إنما هي صفة لها.
وهناك نقش يشير إلى أن أعرابًا قد أغاروا على جماعة من السبئيين، وربما أرض سبأ نفسها، وأن الملك قد أرسل قوة من الجيش ومن الأهلين، إلى أرض هؤلاء الأعراب، نجحت في استرداد ما غنموه من أسلاب وأسرى، وأن صاحب النقش "أبو كرب بن أسلم" قد قدم تمثالين من البرونز للموقاة تخليدًا لذكرى هذا الحادث، وشكرًا للإله على نجاته، ويعد هذا النقش من أقدم نصوص المسند التي تشير إلى الأعراب وإلى غاراتهم على السبئيين وقوافلهم، وإن كنا لا ندري أين كانت مساكن هؤلاء الأعراب، ذلك لأن الأعراب موجودون في كل مكان في شبه الجزيرة العربية، ومنها اليمن.
هذا ويتجه بعض الباحثين إلى اعتبار "نشأ كرب يهأمن" من قبيلة "همدان" معتمدين في ذلك على أن اسمه من الأسماء الهمدانية المعروفة، بينما يرى آخرون أنه من "بني جرت" من قبيلة "سمهر" "سمهرام"، ويعارضون في أنه آخر الأسرة السبئية الحاكمة، بل ونراهم كذلك في ريب من أن أباه كان ملكًا فعليًّا في سبأ.
هذا وتبين لنا النصوص أن الملك كان يقيم في "قصر سلحين" بمأرب، وأنه حكم في الفترة "175-160ق. م" -فيما يرى جام- وأنه كان يتقرب إلى "شمس تنف ربة غضران" حتى إبان إقامته في مأرب في قصر سلحين، مما يدل على أنه لم ينس آلهة قبيلته "بني جرت" وعلى رأسها الإلهة الشمس، ومن ثم فقد قدمها على الآلهة الأخرى بل وذكرها مع "الموقاة" إله سبأ الخاص.
وجاءت بعد "نشأ كرب يهأمن" فترة ظلام، يرى "فلبي" أنها ثلاثون عامًا "230-200ق. م"، جاء بعدها "نصرم يهنعم" على رأس طائفة جديدة من الملوك، وقد ذهب "فلبي" إلى أن "نصرم يهنعم" هذا، قد حكم حوالي عام 200ق. م وعلى أي حال، فهناك نصوص جاء فيها اسم الرجل بدون لقب "ملك"، كما أشار بعضها إلى "تالب ريام" رب معبد "حدثان" الذي ينتسب إليه الهمدانيون، وربما كان عدم وجود لقب ملك بعد اسم "نصرم يهنعم" "ناصر يهأمن"، دلالة على أنه لم يكن ملكًا، وإنما كان أميرًا، ومن ثم فإن الدكتور جواد علي يرى أن الرجل -وكذا أخيه"صدقي يهب"- لم يكونا ملكين، وإنما كانا سيدين من سادات همدان، لهما سلطان واسع على قبيلتهما وفي سبأ، وربما كان "ناصر يهأمن" أميرًا على همدان، والأمر كذلك بالنسبة إلى أخيه، وأن السبب في تقديم "ناصر يهأمن" إنما كان لأنه أكبر سنًا، وأن الرجلين قد عاصرا "نشأ كرب يهأمن"، وبقيا حتى عصر "وهب إيل ويحز" ومن ثم فإن "نصر يهأمن" قد عاش فيما بين عامي 175، 150ق. م، على أساس أن "نشأ كرب يهأمن" قد عاش في الفترة "175-160ق. م" وأن حكم "وهب إيل يحز" كان فيما بين عامي 160، 145ق. م، فيما يرى "ألبرت جام".
وأيًّا ما كان الأمر، فإننا الآن أمام ظاهرة جديدة، تبدو واضحة من النصوص التي يتحدث فيها "ناصر يهأمن" وشقيقه "صدق يهب" بصراحة على أنهما من "همدان"، مما يشير إلى أن قبيلة همدان أصبح لها المكانة الأولى بين القبائل، حتى أن أمراءها أصبحوا يلقبون أنفسهم بلقب "ملك" متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين.
ويرجع الإخباريون نسب قبيلة همدان إلى "أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة الخيار بن زيد بن كهلان" على رأي، وإلى همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان" على رأي آخر، وترجع بطون همدان إلى حاشد وبكيل، فأما "حاشد" فتقع مواطنها في الأرض الغربية من همدان، وأما "بكيل" فإنما تسكن المنطقة الشرقية منها، وأن الاثنين "حاشد وبكيل" من نسل "جشم بن خيران بن نوف بن همدان"، وقد اتخذت همدان من "تالب ريام" إلهًا لها، وسرعان ما ارتفع نجمه بارتفاع نجم همدان، واغتصابها لعرش سبأ، ومن ثم فقد أصبح الناس يتعبدون له، كما يتعبدون للموقاة إله سبأ، إلا أن الهمدانيين سرعان ما تنكروا لإلههم هذا، ومن ثم نراهم- كما يقول ابن الكلبي- يتعبدون وقت ظهور الإسلام لصنم هو "يعوق" كان له بيت في "خيوان"، ويجعلون "تالب ريام" بشرًا زعموا أنه جد همدان، وأن أباه هو "شهران الملك"، ثم زوجوه من "ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحصب بن الصوار"، وجعلوا له أولادًا منهم "يطاع" و"يارم"، وهكذا لعب الخيال دورًا قد يرضي أهل الأخبار، ولكنه لا يتفق وحقائق التاريخ.
وعلى أي حال، وأيًّا ما كان نسب همدان، فإن "هومل" يقدم لنا "وهب إيل يحز" بعد "ناصر يهأمن"، وقد تابعه في ذلك "فلبي" الذي رأى أن حكمه كان حوالي عام 180ق. م، ونقرأ في نقش "جلازر 1228" إشارات عن حرب دارت رحاها بين "وهب إيل يحز"، وبين الريدانيين بقيادة "ذمار علي" بغية انتزاع عرش سبأ، ولعل مما تجدر ملاحظته أن نص "جلازر 1228" هذا، إنما يشير، ولأول مرة، إلى مدينة "صنعاء" "صنعو"، والتي سوف يرد اسمها بعد ذلك في نقشي "جام 629، 644"، ويبدو أنها كانت ضمن أراضي قبيلة "جرت" وعلى مسافة قريبة جدًّا من حدود أرض قبيلة "بتع".
ومن عجب، رغم أن هناك العديد من النصوص التي تشير إلى "وهب إيل يحز"، وإلى حروبه ضد الريدانيين، إلا أنه ليس هناك نص واحد يشير إلى أبيه، مما جعل البعض يذهب إلى أن أباه لم يكن ملكًا من الملوك -أو حتى قيلا من الأقيال البارزين- وإنما كان في غالب الظن واحدًا من عامة الناس، وأن ابنه "وهب إيل يحز" إنما نال ما ناله من قوة وسلطان عن طريق السيف، فربما كان واحدًا من الثائرين على ملوك سبأ في زمن لا ندريه على وجه التحقيق، ثم كتب له نجح بعيد المدى في مسعاه، فانتزع العرش من أصحابه، ثم لقب نفسه بألقاب الملوك، بل وجعل والده واحدًا منهم، على أن الأمر لم يكن كذلك، إذ لو كان والده ملكًا لما غفلت النصوص عنه، إلا أن يكون ذلك ما يزال في باطن الأرض، ولعل الاكتشافات تأتي لنا بما يؤيد مزاعم "وهب إيل يحز".
وأيًّا ما كان الأمر، فلقد خلف "وهب إيل يحز" ولده "أنماريهأمن" الذي حدد له "جام" الفترة "145-130ق. م"، غير أن غالبية المؤرخين لم تشر إليهن ووضعت مكانة "كرب إيل وتار يهنعم"، الذي ورد في النصوص اسم إله جديد من عهده لم يكن معروفًا من قبل، وهو الإله "ذو سماوي" أو "ذو سماي" أي صاحب السماء أو رب السماء.
ونقرأ في نقش "جام 564" إشارات عن ثورة قامت في مأرب، ذلك لأن صاحب النص "أنمار" "من غيمان" كان- وكذا "رثد" "من مازن"- يحكمان من قصر سلحين في مأرب، بتفويض من الملك وبأمر منه، وأن هناك اضطرابًا وقع في المدينة ولمدة خمسة شهور، وأن الحاكمَين لم يستطيعا أن يعيدا الأمور إلى نصابها، إلا بعد الاستعانة بقوات من الجيش، هذا ورغم أن النص لم يشر إلى سبب هذه الاضطرابات التي ألحقت بالمدينة أكبر الأضرار، فربما كان السبب تعيين رجل من "غيمان" حاكمًا على العاصمة التي كان أهلها يكنون لهم أشد البغض، منذ وقعت الحروب بينهم وبين "غيمان" على أيام "أنمار يهأمن" شقيق "كرب إيل وتار يهنعم"، ومن ثم فربما ثارت العاصمة السبئية بسبب تعيين "أنمار" الغيماني، مطالبة بخلعه، وأن الملك قد رفض أن يجيب القوم إلى سؤلهم، ومن ثم فقد اشتدت نيران الثورة اشتعالا، ولم تستطع قوات الأمن القضاء عليها لمدة خمسة أشهر، مما اضطر الملك إلى أن يأمر بتدخل الجيش الذي أنهى الثورة.
هذا، ويرى "ألبرت جام" أن حكم "كرب إيل وتار يهنعم" إنما كان في الفترة "130-115ق. م" أو في الفترة "115-100ق. م"، ومن ثم فإن حكم "وهب إيل يحز" وحكم ابنيه "أنمار يهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم" قد امتد فيما بين عامي 160، 115ق. م، أو "160-100ق. م".
بقيت كلمة أخيرة تتصل بمدينة "مأرب" عاصمة الدولة في هذه الفترة، وهي نفس المدينة التي جاءت في الآداب اليونانية والرومانية تحت اسم "ماريوبا" أو "مريابا "Mariaba"، ويرى البعض أن لفظة "مأرب" مأخوذة من "يارب" و"يرب" اللتين وردتا في التوراة، أو أنها آرامية الأصل مركبة من كلمتين "ماء"راب"، أي الماء الكثير أو السيل الكبير، وقد توهم "ياقوت" -وتابعه كثيرون- أن سبأ هي مأرب، على أن الصحيح غير ذلك، فسبأ اسم البلاد والأمة، ولم تكن بلدًا أبدًا، كما توهموا أنها اسم لقصر كان للأزد باليمن، أو أنها اسم لكل ملك كان يلي سبأ، كما أن "تبعًا" اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت.
وتقع مأرب على مبعدة مائة كيلو متر على الشرق من صنعاء الحالية، وعلى ارتفاع 3900 قدم فوق سطح البحر، وتقوم بلدة مأرب الحالية فوق جزء مرتفع من كوم أثري كبير هو خرائب المدينة ذات الشهرة الذائعة الصيت في التاريخ، وقد قدم لنا "جوزيف توما أرنو" رسمًا تخطيطيًّا للمدينة القديمة، وذكر أنها مستديرة وبها ثمانية أبواب، إلا أن وصف "أرنو" إنما يحتاج إلى تعديل، فالمدينة مستطيلة -وليست دائرية- وأركانها مستديرة، وربما لم يكن في أسوراها إلا أربعة أبواب فقط، بوابة في وسط كل سور.
على أن هناك من يرى أن مأرب -شأنها في ذلك شأن صرواح- إنما كانت في الأصل مدينة ذات بابين فقط، ويبدو أن هناك أماكن كثيرة مكسورة في الجدران، اعتبرها "أرنو" أبوابًا، وسماها بالأسماء التي كان يطلقها عليها الأهالي في أيامه، أما الباب الرئيسي في المدينة فقد كان في السور الغربي، وهو الذي يسمى الآن باب المدينة، وما زالت بقاياه موجودة، وعلى كل من جانبيه آثار برج من الحجر، وفي السور البحري باب آخر، وهو الذي يستخدمه أهالي مأرب عند الخروج لدفن موتاهم، في الجبانة الواقعة في الناحية البحرية من الخرائب، ولهذا سموه باسمها، أي باب المجبنة.
ومدينة مأرب- شأنها في ذلك شأن أغلب المدن الكبيرة في اليمن القديم- مدينة مسورة بسور قوي حصين له أبراج، تمكن القوم من الدفاع عن مدينتهم، وأن السور -طبقًا لما جاء في النقوش- قد بني من حجر البلق، وهو حجر صلد قُدَّ من الصخر، فوقه صخور من جرانيت، ومن أسف أننا لا نعرف حتى الآن من النقوش التي تم الكشف عنها في مدينة مأرب اسم الملك الذي أسسها، وربما كانت بعض أجزاء السور الحالي من السور القديم الذي بناه مكربو سبأ القدامى، ونعرف من نقوش كثيرة أن واحدًا منهم "ابن سمه علي ينوف" قد بنى حائطًا حول مأرب، كما نعرف من نقشي "جلازر 418، 419" أن "كرب إيل وتار" "من القرن السابع ق. م" قد أضاف بعض الأجزاء إلى سور مأرب، كما بنى بوابتين وبعض الأبراج.
ويروي الأخباريون أن مؤسس مدينة مأرب إنما هو "سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، كما أشرنا من قبل، ويروي الهمداني في الإكليل أنه كان بمأرب ثلاثة قصور "سلحين والهجر والقشيب" وأهم تلك القصور وأشهرها هو قصر "سلحين"، الذي تردد ذكره كثيرًا في كتب الأدب العربي على أنه قصر الملكة بلقيس، وكثيرًا ما أشاروا إلى أعمدته القائمة وقالوا إنها تحمل العرش، وإن قواعدها تحت الأرض مثل ارتفاعها فوقها، وهي 29 ذراعًا، وأما خارج بلاد العرب فقد جاء اسم قصر سلحين في ألقاب ملوك السيادة التي اتخذها ملوك أكسوم في نقوشهم، ومنها لقب "عيزانا" الذي اعتلى العرش حوالي عام 325م.
ورغم أن هناك من يذهب إلى أن قصر سلحين إنما كان في الخرائب الواسعة في غربي المدينة، فمن الصعب علينا- اعتمادًا على أقوال الشعراء ومبالغات الكتاب العرب -تحديد هذا القصر الذي يسميه الكتاب العرب "قصر بلقيس"؛ ذلك لأن اليمنيين إنما اعتادوا أن يطلقوا اسم بلقيس على كثير من المعابد في "صرواح"، كما اعتادوا أن يطلقوا كذلك اسم "بلقيس" على معبد يبعد عن خرائب مدينة مأرب، بل إن اسم بلقيس كان يطلق أيضًا على آثار أخرى بعيدة عن منطقة أرض سبأ، مثل ما جاء في "معجم ياقوت" من أن عرش بلقيس اسم لمكان على مسيرة يوم من "ذمار"، حيث تقوم فيه ستة أعمدة من الرخام، ومن المرجح أنه يشير هنا إلى أحد المعابد التي كانت في مدينة "ظفار" عاصمة الحميريين.
وهناك، وعلى مبعدة أربعة كيلو مترات إلى الجنوب الشرقي من مأرب الحالية، تقع خرائب معبد الإله الموقاة رب أوام، والمعروف "بحرم أو محرم بلقيس"، وقد زار هذا المعبد "أرنو وجلازر ونزيه العظم وأحمد فخري"، كما قامت بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان بالحفر في هذه المنطقة بالذات، ومن ثم فقد تم نقل كثير من النقوش، فضلا عما اكتشفته البعثة الأمريكية من بقايا معمارية هامة، هذا ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد -مثله في ذلك مثل معبد الموقاة في صرواح، ومعبد المساجد ببلاد مراد، والذي يقع على مبعدة 17 كيلو مترًا من مأرب- إنما تم بناؤه في القرن الثامن ق. م.
وعلى أي حال، فطبقًا لأقدم نقوش الجدار الخارجي للمعبد، فإن "يدع إيل ذريح" بن "سمه علي" ثاني مكاربة سبأ، هو الذي بنى سور هذا المعبد المسمى "معبد أوام"، وأنه قد كرسه لإله القمر الموقاة، كما يسجل نقش آخر في الناحية الغربية من السور أن "إيل شريح" بن "سمه علي ذريح" ملك سبأ، الذي حكم في القرن السادس ق. م" "حوالي عام 570ق. م"، و"يثع أمر بين" بن "يكرب ملك وتار" الذي حكم حوالي عام 520ق. م، قد أتما بناء المعبد، هذا وهناك نقوش أخرى من عصور أحدث لملوك قاموا بأعمال خاصة في ذلك المعبد.
على أن النقوش التي كشفت عنها البعثة الأمريكية في عام 1952م، على مقربة من باب المعبد، إنما ترجع إلى عصور متأخرة، وبعضها يرجع إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد، أي أن هذا المعبد ظل يؤدي وظيفته في عبادة الإله الموقاة في مأرب قرابة ألف من الأعوام.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه، أن هناك من يرى أن بقايا المعابد التي عثر عليها في روديسيا وفي أوغندة، إنما هي من المعابد المتأثرة بطراز معبد أوام "محرم بلقيس"، فإن بين هذه المعابد جميعًا شبهًا كبيرًا في طراز البناء وفي المساحة وفي الأبعاد كذلك.
وهناك على مبعدة 1400م إلى الشمال الغربي من "محرم بلقيس"، وفي المنطقة المعروفة باسم "العمايد" نرى خمسة أعمدة قائمة، ارتفاع الواحد منها خمسة أمتار عن سطح الأرض، ومقاييس كل منها 82 × 63 سم، وقد أحاطت بها الخرائب من كل جانب، وطبقًا لما جاء في حجر مكتوب رآه "أرنو" عام 1843م، نعرف أن اسم معبد العمايد هو "باران"، وأنه -طبقًا لما جاء في نقش "جلازر 479"- قد شيد للإله الموقاة، وإن كانت الأعمدة الباقية- وكذا ما حولها من نقوش- لا تساعدنا على معرفة الملك الذي قام ببناء المعبد، أو حنى تحديد عصره بوجه عام، وليس أمامنا إلا الانتظار حتى تجري حفائر جديدة، قد نعرف منها ما هو في ضمير الغيب الآن.
ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان
يتميز هذا العصر الثالث من تاريخ سبأ، والذي يطلق عليه أحيانًا "عصر الدولة الحميرية الأولى"، بأن الملوك قد حملوا فيه لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولعله يعني -كما أشرنا من قبل- إشارة إلى ضم ريدان إلى سبأ، وربما يشير إلى دولة قتبان أو حمير، غير أن أستاذنا الدكتور سعد زغلول إنما يرى أن الريدانيين هم الذين حققوا الوحدة بعد انتصارهم على السبئيين، والقرينة على ذلك انتقال مركز الحكم إلى مدينتهم "ظفار" عاصمة الدولة المتحدة.
وعلى أي حال، فإن المؤرخين مختلفون في بداية هذه الفترة، فهناك من يذهب إلى أن بدايتها إنما كانت في حوالي عام 118ق. م أو عام 115ق. م، وربما في عام 109ق. م، بينما يرى آخرون أن "الشرح يحصب" أول من حمل هذا اللقب من السبئيين، إنما حكم في أخريات القرن الأول قبل الميلاد، إبان حملة "إليوس جالليوس" الروماني على اليمن في عام 24ق. م، ومن ثم فإن لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، إنما كان في أخريات القرن الأول ق. م، وليس في أخريات القرن الثاني ق. م، وبالتالي فإن عام 115ق. م أو عام 109ق. م الذي يرى البعض أن الحميريين قد اتخذوه تقويمًا ثابتًا يؤرخون به، لأنه العام الذي قامت فيه الدولة الحميرية، أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فقد يكون له صلة بحادث ما غير قيام الدولة، وأن هذا الحادث كان من الأهمية بحيث جعله القوم مبدأ تقويم يؤرخون به، ولهذا رأينا بعض الآراء تذهب إلى أنه ربما كان تاريخ سقوط معين تحت سيادة سبأ بينما رأى آخرون أن هذا العام "عام115ق. م، أو 109ق. م" هو عام انتصار سبأ على قتبان، وضمها إلى حكومة سبأ، وأن "ريدان" هنا إنما هو قصر ملوك سبأ ومقر حكمهم، ونظرًا لأهمية هذا العام، فقد اتخذه القوم مبدأ تأريخ وبداية تقويم، على أننا لو أخذنا بهذا التفسير، لكان ظهور لقب ملوك سبأ وذي ريدان" في حوالي عام 30ق. م، ففي هذا العام -فيما يرى البعض- كان حكم "الشرح يحصب" و"شعر أوتار".
وهنا علينا أن نعود مرة أخرى إلى عهد "وهب إيل يحز" وولديه "أنماريهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم" حيث نجد أن الحكم إنما ينتقل إلى ملك آخر من همدان هو "يريم أمين، ونقرأ في نقشي "جلازر 1359، 1360" أن "يريم أيمن" إنما يقدم ولاءه للإله "تالب ريام"، على توفيقه في المهمة التي كلف بها من قبل "كرب إيل وتار يهنعم"، في التوفيق بين ملوك سبأ وذى ريان وحضرموت وقتبان، وذلك بعد الحروب التي استعر أوارها بينهم، مما يدل على أن حربًا ضروسًا قد قامت في العربية الجنوبية في هذه الفترة، وأن "يريم أيمن" قد كتب له نجحًا بعيد المدى في إطفاء نيران هذه الحرب، وهو لا يعدو أن يكون "قيلا" من الأقيال، ومن ثم فقد نال حظوة لدى العامة، وهيبة لدى الحكومات، مما مهد الطريق أمامه لينازع ملك سبأ عرشه، بعد حين من الدهر. ونقرأ في نقش دونه أحد أقيال قبيلة "سمعي" عرف بـ "Wien 669" ويتصل بنذر للإله "تالب ريام" يطلب فيه- بجانب البركة لقومه وسلامة حصن ريمان- أن يبارك في "يرم أيمن" و"كرب إيل وتار" ملكي سبأ، وأن يهلك أعداءهما، وأن ينزل سخطه على من يريد بهما شرًّا.
ويرى "فون فيسمان" أن "يرم أيمن" كان معاصرًا لـ "أنمار يهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم"، وأن الأخيرين كانا معاصرين لـ "شمر يهرعش" الأول من ملوك حمير أصحاب ظفار، كما يرى أن "كرب إيل وتار يهنعم" معاصرًا "لكرب إيل بين" ملك سبأ الشرعي في مأرب، وأن "يرم أيمن" كان معاصرًا لـ"مرثد يهقبض" من "جرت ومرثد" الذي ذكر بعد "نبط يهنعم" آخر ملوك قتبان، ولـ "يدع إيل بين" ملك حضرموت، وأخيرًا فإنه يرى أن حكم "يرم أمين" إنما كان في الفترة "130-140م".
وأيًّا ما كان الأمر فلسنا ندري على وجه التحقيق، متى أعلن يرم أيمن نفسه ملكًا على سبأ؟ وربما كان ذلك في عهد "كرب إيل وتار يهنعم" وأنه استمر يحمل اللقب حتى وفاته، فخلفه ولده "علهان نفهان" الذي عاصر، كرب إيل وتار يهنعم وابنه "فرعب ينهب"، هذا ويفرق "نشوان الحميري" بين "علهان" و"يهفان" ويرى أنهما أخوان ولدا "ذى بتع بن يحصب الصوار".
وعلى أي حال، فإن المؤرخين مختلفون في فترة حكم "علهان نهفان" هذا، فبينما ذهب "فلبي" إلى أنها كانت حوالي عام 135ق. م، يذهب "ألبرت جام" إلى أنها كانت في الفترة "85-65ق. م"، هذا إلى أن آخرين يرون أنها كانت في النصف الأول من القرن الأول ق. م، بل إن "وليم أولبرايت" إنما يحددها بعام 60ق. م7، وأخيرًا فإن "فون فيسمان" يذهب بعيدًا عن الآخرين، فيرى أنها كانت في حوالي عام 160م8، والأمر كذلك إلى "أدولف جرومان" الذي جعل حكم ابنه "شعر أوتر" في حوالي عام 50 أو 60م، وهذا يعني أن "علهان" إنما كان يحكم في القرن الأول الميلادي.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن "علهان" قد نجح في أن ينتحل لقب "ملك سبأ"، وإن كانت النصوص التي تشير إلى ذلك لا ندري شيئًا عن تأريخها، كما أننا لا ندري متى أشرك "علهان" ولده "شعر أوتر" معه في الحكم، فهناك من النصوص ما يشير إلى أن الرجلين قد حملا لقب "ملك سبأ"، وربما كانت القلاقل التي كانت تمر بها البلاد، والخصومات التي كانت تسود العلاقات بين حكام سبأ وحضرموت وحمير والحبشة، هي السبب في ذلك.
وعلى أي حال، فلقد نجح "علهان" في أن يضم إلى جانبه "يدع أب غيلان" ملك حضرموت، ومن ثم فقد وجه جهده ضد الحميريين حتى انتصر عليهم في "ذات العرم"، ثم اتجه بعد وفاة "يدع أب غيلان" إلى عقد معاهدة مع "جدرة" ملك الحبشة، والذي كان فيما يرى فون فيسمان -يسيطر على ساحل البحر الأحمر الشرقي من ينبع حتى عسير، فضلا عن باب المندب.
وانفرد "شعر أوتر" بالحكم، وهناك ما يشير إلى أنه حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وإن كانت بعثة "وندل فيلبس" قد عثرت على كتابة ترجع إلى أوائل عهده، نشرها الدكتور خليل يحيى نامي، بدأت بجملة "شعر أوتر ملك سبأ بن علهان نهفان ملك سبأ"، وفيها إشارة إلى حرب ربما امتدت إلى أرض حمير، وقد انتصر فيها، ومع ذلك كله فإن نص "جلازر 1371" يشير إلى أن كلا من "علهان نهفان" وولده "شعر أوتر" قد حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، مما يدل على أن اللقب قد ظهر على أيام "علهان"، وليس على أيام ابنه "شعر أوتر".
ونقرأ في نص "Ch 334" إشارات عن حرب شنها "شعر أوتر" ضد ملك حضرموت وانتصر فيها، ويرى الدكتور جواد علي أن "شعر أوتر" قد وجه جيشًا من السبئيين والحميريين، ومن قبائل أخرى إلى حضرموت للقضاء عليها، وقد نجح في أن ينزل خسائر فادحة بقوات "العز" ملك حضرموت بعد معركة مريرة دارت رحاها في "ذات غيل"، وحين أعاد الملك الحضرمي الكرة أصيب بهزيمة أخرى، وهنا قام الردمانيون بهجوء مفاجئ على قوات "شعر أوتر" ولكنهم لم يفلحوا في إيقاع الهزيمة بها.
ونعرف من نصي "جام 636، 637" أن "شعر أوتر" قد انتصر على الحضارمة واستولى على عاصمتهم "شبوه"، ومن ثم فقد قدم لمعبد" أوام" تمثالا، تعبيرًا عن شكره له، واعترافًا بفضلهن هذا ونعرف كذلك من نص "جام 632" أن جيش "شعر أوتر" قد استولى على "شبوه"- وكذا على "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي- بل إن هناك ما يشير إلى أن الهجوم على حضرموت قد تم عن طريق البر والبحر معًا، وأن مدينة "قنا" إنما هوجمت عن طريق البحر.
ونقرأ في نص "Geukens" أن الردمانيين -كما أشرنا آنفًا- قد اهتبلوا فرصة انشغال "شعر أوتر" بمحاربة الحضارمة وانقضوا عليه من المؤخرة، وأنهم، وإن لم ينجحوا في إيقاع الهزيمة به، فقد كبدوه خسائر ليست بالقليلة، وفي نفس الوقت أغار الأحباش -وربما باتفاق مع بني ردمان- على جيش شعر أوتر كذلك، فضلا عن الإغارة على أرضين تابعة له، وألحقوا بهما أضرارًا بالغة، وطبقًا لما جاء في نقش "جام 631" فإن "شعر أوتر" قد أوكل إلى قائده "قطبان أوكان" أمر الانتقام من الأحباش، ومن ثم فإن هذا القائد سرعان ما توجه إلى "بني ردمان" وأنزل بهم من العقاب ما يستحقون، جزاء وفاقًا لما ارتكبوه من خيانة للملك "شعر أوتر"، ثم اتجه بعد ذلك إلى الأحباش، وبمساعدة من قوات سبئية جاءت تعينه على مهمته هذه، نجح في حصارهم، ثم في مهاجمتهم على غرة، ثم أعمل السيف فيهم، حتى اضطرهم آخر الأمر إلى أن يتركوا منطقة ظفار، وأن يتجهوا إلى المعاهر "معهرتن"، ثم سجل ذلك كله شكرًا للموقاة، داعيًا إياه أن يحفظ سيده "لحيعثت يرخم" ملك سبأ وذي ريدان وأن يمد في عمره، وأن يقهر أعداءه، وأن يبارك له ولأهله.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أمور عدة في هذا النص، منها :
"أولًا" أن الملك إنما أمر قائده أن يسير على رأس قوة إلى أرض الحبشة هنا؟ يحارب فيها "جدرة" ملك الحبشة وأكسوم، فماذا يعني النص بأرض الحبشة هنا؟ أهي الأرض الإفريقية المعروفة؟ أم موضعًا في العربية الجنوبية؟ إن الدكتور جواد علي يرى أنها أرض الحبشة في إفريقيا، وذلك لأن "جدرة" لم يكن يقيم في بلاد العرب، وإنما في إفريقيا، هذا فضلا عن أن الأحباش الذين كانوا في بلاد العرب إنما كانوا تحت قيادة "بيجث" ولد النجاشي، وليس النجاشي نفسه، ثم يفترض بعد ذلك أن "قطبان أوكان"، ربما أبحر من "الحديدة" إلى السواحل الإفريقية، وباغت القوم هناك بغزو غير متوقع، ثم جمع ما استطاع الاستيلاء عليه، وعاد سريعا ليشترك في المعارك التي دارت رحاها ضد "بيجت" ومن معه من قوات، وفي الواقع أن هذا الرأي قد يبدو مقبولا في ظاهره، إلا أن التكتيك العسكري قد يرفضه، ذلك لأنه من الخطورة بمكان أن يجازف جيش "شعر أوتر" بهذه المغامرة غير المأمونة العواقب، في وقت تدق الحرب طبولها في اليمن نفسها، ثم كيف أمكن تحديد الإبحار من "الحديدة" بالذات، وأخيرًا فإننا لا نملك دليلا تاريخيًّا يؤكد زعم الدكتور جواد علي هذا، بخاصة وأن هناك من يشك في أن "جدارة" كان ملكًا أفريقية، بل ربما كان زعيما لفرقة من الأحباش كانت تقيم في بلاد العرب نفسها.
"ثانيًا" أن "فون فيسمان" قد استدل من عدم ذكر اسم الملك "شعر أوتر" في نهاية النص، فضلا عن وجود اسم لحيعثت يرخم "كملك لسبأ وذى ريدان" على أن "شعر أوتر" قد مات في أثناء تدوين النص، وأن "لحيعثت يرخم" قد خلفه على العرش.
"ثالثًا" أن النص لم يقل لنا شيئًا عن مصير "بيجت" ابن ملك الحبشة وأكسوم، بعد هزيمته في ظفار وفي أرض معافر، فربما بقي في أرض المعاهر، وأن الجيش السبئي لم يكتب له نجحا في تطهير هذه الأرض من الأحباش، ومن ثم فقد بقوا فيها بعد انتهاء المعارك، بل إن نقش "جام635" ليحدثنا عن معارك دارت رحى الحرب فيها خلف "مدينة نجران" بين جيش "شعر أوتر" والأحباش، وربما كان في ذلك إشارة إلى أن "نجران" إنما كانت في أيدي الأحباش في تلك الأونة.
هذا ويشير نفس النقش "جام635" إلى أن "شعر أوتر" قد كلف "أبا كرب أحرس" بقياة جيش من "خولان حضل" وبعض أهل نجران وبعض الأعراب، لمحاربة المنشقين من بني يونم "بني يوان" ومن أهل قريتم "قرية لبني كهل" وأن الرجل قد نجح في مهمته إلى حد كبير، ويرى بعض العلماء أن "بني يونم" إنما هم قوم من اليونان استوطنوا بلاد العرب، وقد جاء ذكرهم في نص "جلازر 967" وأنهم كانوا يحالفون "قرية" بني كهل هذه، ومن ثم فقد هبوا لمساعدتهم ضد "شعر أوتر".
وأيًّا ما كان الأمر، فليس من شك في أن "شعر أوتر" قد نجح في السيطرة على غالبية الحكومات والأقيال في العربية الجنوبية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في العربية الغربية، والتي تطل على سواحل البحر الأحمر، حيث كان الأحباش أصحاب النفوذ فيها، وأما فترة حكمه، فقد كانت- فيما يرى "ألبرت جام"- في الفترة "65-55ق. م"، كما كان شقيقه "حيوعثتر يضع" في الفترة "55-50ق. م" ثم يبدأ السلطان ينتقل من أسرة "يرم أيمن" إلى أسرة "فرعم ينهب"، والتي بدأت حكمها في مجاورات "صنعاء"، ثم سرعان ما أصبحت صاحبة سبأ وذي ريدان.
وليس من شك في أن النص "Cih 398" من النصوص الهامة في تاريخ سبأ، ذلك لأنه يتحدث عن "شعر أوتر" كملك لسبأ وذي ريدان، وفي الوقت نفسه يتحدث عن "الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، بصفتهما ملكي سبأ وذي ريدان، وهذا يعني ببساطة أن الملوك الثلاثة، إنما كانوا يحملون في آن واحد لقب "ملك سبأ وذي ريدان".
وقد أثار هذا النص جدلا طويلا بين العلماء، فذهبت آراؤهم فيه مذاهب شتى، وكذا في معاصرة "علهان نهفان" لـ "فرعم ينهب"، فضلا عن حكم "شعر أوتر"و"لشرح يحصب" وشقيقه، وبدهي ألا يكون مقبولا أن تكون "مأرب" عاصمة لـ "شعر أوتر" و"الشرح يحصب" وشقيقه في نفس الوقت، وأن يكون الثلاثة قد حكموا حكمًا مشتركًا، رغم ما بين أسرتيهما من تنافس قديم، فضلا عن أن يحمل الجميع لقب "ملك سبأ وذي ريدان" برضى من الثلاثة.
وقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن النص لا يشير إلى أن الثلاثة قد حكموا في آن واحد، إنما يشير إلى أن "الشرح يحصب" وأخاه، قد حكما بعد "شعر أوتر"، وهنا فالأمر لا غرابة فيه، وذهب فريق ثان إلى أن حكم الأخوين إنما كان مستقلا عن "شعر أوتر"، وأنهما كانا يعتبران نفسيهما خلفين شرعيين لأبيهما "فرعم ينهب"، وذهب فريق ثالث إلى أن "فرعم ينهب" قد اتخذ من منطقة تقع إلى الغرب من "مأرب" مركزًا لنفوذه، وأن ولديه قد خلفاه عليها، وحين سنحت الفرصة لهما اتخذا لقب، "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اختفاء "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع" -الذي شاركه في حمل اللقب- من مسرح الأحداث، وإن كان ملكهما إنما كان مقصورًا على جزء من المملكة.
على أن هذه الألقاب الملكية التي كان يحملها "شعر أوتر" و"الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، فضلا عن "لعززم يهنف يصدق"، والذي رأى فيه بعض الباحثين ملك "ظفار" ومجاوراتها، هذا إلى جانب ملك خامس يدعى، "لحيعثت يرخم"، كل ذلك يدل على أن واحدًا لم يستطع أن يحمل اللقب بمفرده، وأن هناك آخرين ينازعونه سلطانه، وربما استطاعوا آخر الأمر انتزاع العرش نهائيًّا، كما فعل "الشرح يحصب" وأخوه.
أضف إلى ذلك أن النصوص من تلك الفترة، إنما تدل على أن البلاد كانت تمر بفترة اضطراب وقلق، وأن الحرب ما تكاد تضعب أوزراها في مكان، حتى تدق طبولها في مكان آخر، ثم تشتعل نيرانها في مكان ثالث، وفي أغلب الأحايين كانت سجالا بين المتحاربين، وأن المغلوب منهم، سرعان ما يعود بعد حين، فيقف على قدميه ويحمل سيفه من جديد، على أن الخاسر الوحيد فيها دائمًا، إنما كان هو الشعب، يدفع ثمنها من دمه وماله، حيث تساق العامة منه إلى ميدان القتال فتسمع وتطيع، وإلا صب عليها من العذاب ألوانًا، أشد قسوة من أهوال الحروب، وفي كل ذلك لا هدف يرجي إلا إشباع شهوات الحكام، وإرضاء رغباتهم في تحقيق أمجاد شخصية، سرعان ما تزول بعد رحيلهم عن هذه الدنيا، وربما في أحايين كثيرة قبل أن يرحلوا إلى عالم الآخرة.
وإلى هذه الفترة العصيبة من تاريخ اليمن، ترجع -فيما يرى كثير من الباحثين- حملة الرومان على العربية الجنوبية، فإذا كان ذلك كذلك، فإن ملوك سبأ وذي ريدان ما كانوا بقادرين على صدها، فالفرقة من ناحية، وضعف الإمكانيات من ناحية أخرى إنما يقفان حجر عثرة في سبيل ذلك.
ويحدثنا التاريخ أن الرومان بعد أن استولوا على أرض الكنانة، بعون من الأنباط، استطاع به "يوليوس قيصر" أن يقبض على ناصية الأمور في الإسكندرية عام 47ق. م، بدأ الرومان في نفس الشيء بالنسبة إلى بلاد العرب، وهكذا كان مشروع حملة "إليوس جالليوس" عام 24ق. م، للاستيلاء على اليمن، لكثرة خيراتها، ولاحتكارها طرق النقل التجاري بين العالم، ولجعل البحر الأحمر، بحرًا رومانيًّا، وللقضاء على المنافسة العربية الخطيرة، والتي كان الملاحون الروم يعملون لها ألف حساب عند اجتيازهم باب المندب، أو عندما ترسو سفنهم على بعض المواني في تلك المناطق. ولو تم المشروع على نحو ما حلم به "أغسطس" "31ق. م-14م" لكان حكم روما قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل أفريقية كذلك، إلا أن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة بلاد العرب وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش الرومانية النظامية من المجابهة فيها، وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبة المشروع منذ اللحظة الأولى، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة روما، وفي مشاريعها التي أرادت تنفيذها في شبه الجزيرة العربية.
على أن "سترابو" مؤرخ الحملة، إنما يرجع فشلها إلى خيانة "صالح" -الوزير النبطي الذي صاحب الحملة كدليل لها-، بأن أقنع قائدها بتعذر الوصول إلى اليمن برًّا، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، مما عرض الحملة لمخاطر جسيمة عند عبورها البحر الأحمر، فضلا عن عدم طرق برية لمرور الجيش الروماني، وكان صالح -فيما يرى سترابو- يهدف من ذلك إلى إضعاف الروم وإذلالهم، فضلا عن إضعاف القبائل العربية نفسها، ليكون سيد الموقف يتصرف فيه كيف يشاء ومتى شاء، وهكذا عمل صالح "سيلئيوس" إلى السير بالحملة في طريق مقفر، وفي أرضين لا زرع فيها ولا ماء، مما أدى في نهاية الأمر إلى فشل الحملة، وإلى أن يحكم الروم على صالح بالإعدام.
وأيًّا ما كانت الأسباب في فشل الحملة، التي تعد أول -بل وآخر- غارة ذات بالٍ، قصدت بها دولة أوربية اكتساح داخل الجزيرة العربية، فإن الحملة استطاعت أن تحدث بعض الخراب والدمار في نجران ونشق وكمناء ومأرب ولوق، وربما حريب، وهي أبعد مدينة وصلتها الحملة.
ومن الغريب أن المصادر العربية الجنوبية، قد التزمت الصمت التام إزاء هذه الحملة، وقد تساءل "إدوارد جلازر" عن سبب سكوت هذه المصادر عن حملة لا بد وأنها قد تركت أثرًا بعيد المدى في نفوس السبئيين -بل وفي غيرهم من قبائل اليمن والحجاز -ثم رأى بعد ذلك أن نص "هاليفي 535" إنما يتحدث عن حرب دارت رحاها بين "ذ شمت" و"ديمنت"، وربما كان المراد بالأولين الرومان، وبالآخرين السبئيين، ومن ثم فإن النص إنما يتحدث عن حملت "إليوس جالليوس" هذه، على أن الدكتور جواد علي إنما يستبعد هذا الرأي، ويرى أن سر الحملة ربما كان لا يزال تحت التراب، وإن كانت الحفريات قد فشلت حتى الآن في العصور على شيء يتصل بها، كما فشل هاليفي وفلبي في العصور على شيء يميط اللثام عنها.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن الروم بعد أن فشلت حملتهم هذه، بدءوا يغيرون سياستهم نحو العربية الجنوبية، فتخلوا نهائيًّا عن السيطرة العسكرية، وإن اتجهوا في الوقت نفسه نحو تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، ويقول سترابو أنهم كانوا يرسلون سنويًّا ما لا يقل عن 120 سفينة إلى الهند، وهو عدد لم يتعودوا إرساله فيما مضى، كما عثر في الهند على نقود رومانية، أضف على ذلك أن وجود معبد لأغسطس في "موزيريس" بساحل "مالابار" يدل على أن عددًا غير قليل من التجار اليونان والرومان كان يقيم هناك.
هذا وقد عمل الروم في نفس الوقت على تقوية علاقاتهم بالعربية الجنوبية، فاحتلوا ميناء عدن إبان حكم "كلاوديوس" "41-54م"، أو قبله، وهكذا كان التحالف مع أمير ظفار، مقرونًا بوجود حامية رومانية في "عدن"، أمرًا لا شك في أنه كان ضمانًا كافيًا لسلوك العرب الجنوبيين مسلكًا طيبًا، يضمن للروم نفوذًا تجاريًّا في عدن. وإن كان الرومان -دون شك- لم يحتلوا جنوب شبه الجزيرة العربية في يوم من الأيام.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن عهد ملوك سبأ وذي ريدان، إنما يبدأ حقيقة إبان النزاع بين "الشرح يحصب" وأخيه "يازل بين" من ناحية، وبين "شعر أوتر" من ناحية أخرى، وليس من شك في أن المصادر الإسلامية إنما تحدثت عن "الشرح يحصب" أكثر من غيره من ملوك تلك الفترة، أو التي سبقتها، فصاحب الإكليل يسميه "إلى شرح يحصب" وينسب إليه بناء قصر غمدان، وأن "بقليس" ابنته، فضلا عما ينسبه إليه من شعر مزعوم كالعادة، وأما "ياقوت الحموي"، فيدعوه "ليشرح بن يحصب"، كما ينسب إليه كذلك -نقلا عن ابن الكلبي- بناء قصر غمدان، ولم يفت "ابن جرير" أن ينسب إليه بلقيس، وإن كان "حمزة الأصفهاني" قد جعلها حفيدته؛ لأنها فيما يزعم- "بنت هداد بن شراحيل"، والذي يعني به "الشرح يحصب".
ولا ريب في أن القول بأن "الشرح يحصب"، كان أبًا لبلقيس التي عاصرت سليمان، أمر غير مقبول، فالأخير قد عاش في القرن العاشر ق. م، وأن الشرح يحصب -طبقًا لأعلى التقديرات- إنما كان في القرن الثاني ق. م، وإن تأخر البعض به إلى القرن الرابع الميلادي، هذا فضلا عن أن القرن العاشر قبل الميلاد، إنما هو تاريخ متقدم جدًّا -في نظر بعض الباحثين- لقيام دولة سبأ نفسها، حتى على أيام المكاربة، وليس الملوك، فضلا عن أن يكون ذلك على عهد "ملوك سبأ وذي ريدان" الذي ينتمي إليهم "الشرح يحصب".
ويبدو أن الشرح كان محاربًا، اشترك في كثير من المعارك، ونقرأ في نقش "جلازر 119" أنه غزا حمير وحضرموت وعاد بالكثير من الغنائم والأسرى، وهو ما يزال في درجة "كبير"، ويبدو أن الحميريين كانوا في تلك الفترة قوة فعالة في السياسة العربية الجنوبية، وأنهم كانوا لا يهتمون كثيرًا في أن يحاربوا في جانب هذا الفريق أو ذاك، وأما حضرموت فكانت تقف في جانب "شعر أوتر" ضد "الشرح يحصب"، ونقرأ في نقوش "جام 574، 575، 590، 595" عن حرب نشبت في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، بين "الشرح يحصب" وأخيه "يازل بين" من ناحية، وبين الأحباش من ناحية أخرى، وأن الشرح يحصب وأخاه، قد انتصرا على الأحباش في "وادي سهام" و"وادي سردد" -على مبعدة 40 كيلو مترًا إلى الشمال من الحديدة -وفي غير ذلك من المناطق التي كان يوجد فيها أحباش.
وتشير نقوش "جام 578، 580، 581، 589" إلى حرب دارت رحاها بين "الشرح يحصب" وأخيه، وبين "كرب إيل ذي ريدان" وحلفائه في أرض "حرمة" وفي "عروش" أو بلاد العروش -وتقع على مبعدة 95 كيلوا مترًا إلى الجنوب الغربي من مأرب -وكذا في موقع يحمل نفس الاسم في منتصف المسافة بين صرواح وذمار، وغير ذلك من الأماكن، ونقرأ في نقش "جام 586" أن الشرح يحصب قد سحق عصيانًا قامت به حمير، وأنزل بها خسائر فادحة، والأمر كذلك بالنسبة إلى قوات "كرب إيل"، ويسجل نقش "جام 576" انتصار الشرح يحصب على ملك كندة وحلفائه من إمارة "خصصتن"، وكذا على قوات حبشية، وعلى عشائر حمير بقيادة "شمر ذي ريدان".
ويفهم من نص "Cih 314" أن "شمر ذي ريدان" من حمير -وكانت عاصمته ظفار -قد نازع الشرح يحصب عرشه، وأنه استعان في ذلك بالأحباش، إلا أنه لم يحقق نجاحًا فيما أراده، هذا ويشير الدكتور جواد علي إلى أن في النص إشارات إلى تدخل الحبشة في شئون العربية الجنوبية وقت ذاك، وإلى وجودهم في مواضع من الساحل، وإلى تكوينهم مستعمرات فيها، تتمون من الساحل الإفريقي المقابل، وربما كان الروم على اتفاق مع الأحباش، يوم أرسلوا حملة "إليوس جالليوس" على اليمن عام 24ق. م، وربما اشترطوا أن يسهل الأحباش مهمة الحملة في العربية الجنوبية، وأن يقدموا لها المساعدات اللازمة، وأن يتعاونوا جميعًا في الأمور السياسية والاقتصادية، وفي مقابل ذلك على الروم أن يضمنوا مصالح الحبشة في العربية الجنوبية.
ويبدو من النصوص أن الأحباش إنما كانوا يغيرون سياستهم نحو العربية الجنوبية طبقًا للظروف، فهم مرة مع الحميريين، وتارة عليهم، وهم مرة ثالثة في حلف مع "شعر أوتر"، ومرة رابعة ضده، وهم في مرة خامسة على علاقة طيبة مع "الشرح يحصب"، ثم مرة سادسة من ألد أعدائه، وهكذا كانت سياستهم قلقة غير مستقرة، بسبب الاضطرابات التي كانت تسود العربية الجنوبية، ولكنها في كل الأحوال، إنما كانت تخضع لمصالح الأحباش أولًا وأخيرًا، وتهدف إلى بسط سلطانهم على العربية الجنوبية، وتوطيد هذا السلطان.
هذا، وهناك من يذهب إلى أن "شمر ذي ريدان"، الذي طالما خاض غمار الحرب ضد الشرح يحصب وأخيه، إنما هو الملك "شمر يهرعش"، وهذا يعني أنه عاش في القرن الرابع الميلادي، ومن ثم فإنهم يتأخرون بتاريخه حوالي 250 عامًا1، بينما يذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان معاصرًا لامرئ القيس، صاحب نقش النمارة، وأن "مراقس" المذكور في نقش "ريكمانز 535" هو "امرؤ القيس"، إلا أن غالبية الباحثين تعارض هذا الاتجاه.
وعلى أي حال، فإن "ألبرت جام" يرى أن "الشرح يحصب" وأخاه "يأزل بين" قد حكما حكمًا مشتركا في الفترة "50-30ق. م"، ثم حكم "الشرح يحصب" بمفرده حتى حوالي عام 20ق. م، أو بعد ذلك بقليل، إلا أن غالبية الباحثين تذهب إلى أنه كان قبل ذلك، حتى أن "جون فلبي" يذهب إلى أن حكمه إنما كان في الفترة "125-105ق. م".
وقد اختلف العلماء في خليفة "الشرح يحصب"، فذهب فريق إلى أنه شقيقه "يأزل بين"، ثم ولده "نشأ كرب يهأمن يهرجب"، وذهب فريق آخر إلى أنه "وتريهأمن" ولد "الشرح يحصب" وأنه كان في الفترة "5ق. م-10م"، بل إن هناك من يقدم "وتريهأمن" على أخيه "نشأكرب يهأمن يهرجب"، وأخيرًا فهناك من يرى أن الشرح يحصب قد تبنى القيلين الجريئين "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد"، وقد أصبح هذان القيلان من ملوك سبأ وذي ريدان، نتيجة لهذا التبني السياسي الذي جعلهما ينسبان نفسيهما بعبارة "سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد ملكا ذي ريدان، ابنا الشرح يحصب سبأ وذي ريدان"، وأن الرجلين قد آزرا "وتريهأمن" أخاهما بالتبني، إلا أن الأمور رغم ذلك كانت في أيدي الحميريين من بني "ذي ريدان".
وعلى أي حال، فرغم ما تنسبه النقوش من انتصارات إلى "الشرح يحصب" ثم ابنه "نشأكرب" الذي نجح السبئيون على أيامه في الاستيلاء على ما كان عند الحضارمة من خيل وجمال وحمير، ومن كل حيوان جارح، فإن الدولة السبئية انتهت فعلا على أيام "نشأكرب" هذا، بأيدي الحميريين.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في عهد "الشرح يحصب" لمع اسم "صنعاء" "صنعو"، فقد تردد اسمها في النصوص التي ترجع إلى ذلك العهد مثل نص "جام 575"، وفي أيام الحروب التي دارت رحاها بين "الشرح يحصب" و"شمر ذي ريدان"، كما يشير إلى ذلك نقش "جام 577" و"ريكمانز 535"، هذا وتشير الكتابة "Cih 429" إلى قصر غمدان "غندان" -بجانب قصر سلحين- كمقر للملوك، ولعل في هذا إشارة إلى أن الشرح يحصب إنما كان يقيم في كلا القصرين "أي في مأرب وصنعاء"، كما يشير كذلك إلى الهمداني وابن الكلبي، ربما كانا على صواب فيما ذهبا إليه من أن الشرح يحصب هو الذي بنى قصر غمدان، وأن "شعر أوتر" هو الذي بنى سور صنعاء، وإن كانت هناك رواية تذهب إلى أنه من أبناء سليمان، وعلى أي حال، فكل هذا يدل على أن قصر غمدان من القصور الملكية السبئية القديمة، وأن صنعاء بدأت تظهر بين مدن اليمن من تلك الفترة، وأن مكانتها قد زادت على مر الأيام، حتى صارت عاصمة اليمن ومقر الحكام حتى الآن.
وبدهي أن ذلك لا يتفق وروايات الإخباريين من أنها كانت تدعى "أزال"، وأن "وهرز" القائد الفارسي هو الذي أطلق عليها اسم "صنعاء"، حين قال إبان دخوله إياها "صنعة صنعة"، يريد أن الحبشة قد أحكمت صنعها، أو أن التسمية إنما كانت نسبة إلى بانيها "صنعاء بن أزال بن عبير بني عابر بن شالخ" على رواية، و"غُمدان بن سام بن نوح" على رواية أخرى، فكانت تعرف تارة بأزال، وتارة بصنعاء، بل إن بعض الإخباريين لم يقف عند هذا الحد، فزعم أنها واحدة من مدن النار الأربع "أنطاكية والطوانة وقسطنطينية وصنعاء" في مقابل مدن الجنة الأربع "مكة والمدينة وإيلياء ودمشق".
وعلى أية حال، فلقد جاء بعد فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق "ذمار علي بين"، ورغم أنه لم يحمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، فإن ابنه قد حمل اللقب العظيم، ومن ثم فهناك من يرى التريث في الحكم على أنه كان ملكًا، ويضعه ألبرت جام" في الفترة "30-45م"، ثم خلفه ولده "كرب إيل وتار يهنعم" الذي أشرك معه ابنه "هلك أمر" في الفترة الأولى من حكمه -والتي كانت في منتصف القرن الأول الميلادي- ثم ابنه الثاني "ذمار علي ذريح" الذي جاء اسمه في عدد من النصوص في الفترة الثانية، وقد حدد له "فلبي" الفترة "75-95م".
وفي أيام "يهقم" بن "ذمار علي ذريح" كثرت الفتن والاضطرابات في البلاد، ونقرأ في نقش "جام 644" أن الثوار من قبيلة شداد "شددم" قد هاجموا قصر سلحين نفسه واستولوا عليه، إلا أن الملك سرعان ما استعان بأمير قبيلة غيمان الذي كتب له النجح في القضاء على الثوار، وطردهم من قصر سلحين، بل ومطاردتهم حتى مأرب، إلا أنهم سرعان ما نظموا صفوفهم مرة أخرى، وتحصنوا في مواضع جديدة، مما اضطر الملك إلى أن يلجأ مرة ثانية إلى عشائر "غيمان" وأن يطلب منهم مهاجمة أرض شداد، وقد نجح أبناء "غيمان" في هزيمة الثوار عند "كومنان" واستولوا منهم على غنائم كثيرة من إبل وخيل ودواب.
وجاء بعد ذلك "كرب إيل بين" وتدل النصوص من عهده على أن العلاقة بينه وبين حضرموت لم تكن طيبة، وأن هناك حربًا دارت رحاها بين الفريقين انتهت بعقد صلح تعهد فيه ملك حضرموت بالمحافظة على حسن الجوار، وأن يكون إلى جانب ملك سبأ إذا ما حدث ما يستدعي ذلك، وأن يضع قوة من حراس "يعكران" "وهو ملك صغير من ملوك حضرموت" تحت تصرف ملك سبأ، إلا أن ملك حضرموت سرعان ما نكث بالعهد، بحجة أن ملك مأرب قد عمل ضد مصالحه، حين أرسل بعض قواته إلى منطقة "هينان الحالية"، التي كان ملك حضرموت يريدها خالية من الجند -رغم أنها منطقة سبئية، وليست حضرمية- وربما كان يهدف من ذلك أن يجعلها غير قادرة على الدفاع، حتى يستطيع التدخل في شئونها، وتنفيذ مشروعاته التي كان يرمي من ورائها إلى الاستيلاء على القسم الجنوبي الشرقي من سبأ، مستغلا ضعف ملوك سبأ وقت ذاك لمصلحته.
وهكذا منع ملك حضرموت قوات ملك مأرب من أن تعسكر في المدينة السبئية "حنان" بل واتجه إلى أرض "معين" ليهدد سبأ، وسرعان ما هاجم "يثل" "المدينة المعينية القديمة" واستولى عليها، ثم ضرب الحصار على مدينتي "نشق" و"نشان"، ولم يفك الحصار عنهما إلا بعد وصول القوات السبئية، وهنا رأى ملك سبأ وذي ريدان "كرب إيل بين" أن يهاجم خصمه بنفسه، ومن ثم فقد اتجه إلى "يثل"، كما أمر قواته المعسكرة عند نشق ونشان بالهجوم عليهما، وهكذا وجد ملك حضرموت "يدع إيل" نفسه، محاصرًا من ناحيتين بقوات سبأ، مما اضطره إلى الانسحاب من "يثل"، والاتجاه إلى "حنان"، ولكنه حاول نهب مقتنيات المعبد "محرم بلقيس فيما يرى "ألبرت جام" إلا أن القوات السبئية الزاحفة من نسق تمكنت من إنقاذ المعبد من النهب.
وفي تلك الأثناء وصلت قوات إضافية من مأرب، فواصل الملك السبئي زحفه إلى "حنان"، حيث دارت هناك معارك رهيبة بين الفريقين، كتب النصر فيها للسبئيين، ودفع ملك حضرموت ثمن هزيمته ألفين من جنوده لقوا مصرعهم في ميدان القتال، فضلا عما استولى عليه السبئيون من خيل وجمال وحمير، وكل حيوان جارح عند الحضارمة -كما أشرنا آنفًا.
وتمر فترة لا يستطيع المؤرخون فيها ترتيب الملوك أو معرفة فترات حكمهم، فإذا ما رجعنا إلى "ريكمانز" على سبيل المثال، لوجدنا أنه قد ترك فراغًا بعد "هلك أمر" و"ذمار علي ذريح"، إشارة إلى فترة لا يدري من حكم فيها على وجه اليقين، ثم يذكر بعد ذلك "وتريهأمن"، ثم فراغًا، دون بعده اسم "شمدر يهنعم"، ثم فراغًا ثالثًا بعد اسم "الشر يحمل"، ثم فراغًا رابعًا، ثم اسم "عمدان بن يهقبض"، ثم فراغًا خامسًا يأتي بعده اسم "لعزنوفان يهصدق" ثم فراغًا سادسًا دون بعده "ياسر يهصدق"، وإن كان "فلبي" يرى أن هذا الأخير جاء بعد "وتريهأمن" وربما كان والده، وأنه بدأ حكمه حوالي عام 60ق. م.
وأيًّا ما كان الأمر، فلدينا من عهد "ياسر يهصدق" هذا، نص "Cih 41" وقد دونته جماعة من قبيلة، "مهانف" "مهانفم" من "ضافط" بقاع جهران، شمال ذمار، ويذهب "فون فيسمان" إلى أنه أول نص يصل إلينا لقب فيه واحد من ملوك "حمير" بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وهذا يعني أن ملوك حمير قد نافسوا ملوك سبأ، ثم نازعوهم عرشهم، بل وحملوا ألقابهم كذلك. ثم يذهب "فون فيسمان" بعد ذلك إلى أن الرجل قد حكم في الفترة "75-80م"، وأنه اتخذ من "ظفار" مقرًّا له، وأن خليفته إنما كان "الشرح"، وأنه حكم حوالي عام 90،، وأن نص "Cih 140" إنما يرجع إلى أيامه، غير أن "جام" إنما يضع حكم "ياسر يهصدق" في الفترة "200-205م"5.
ونقرأ في نص "Cih 365" أن "ذمار علي يهبر" بن "ياسر يهصدق" -والذي ربما كان هو صاحب الاسم الذي جاء على بعض النقو- قد شن حربا ضد الأسرة السبئية المالكة، استولى فيها على حصن "ذات المخاطر"، ولعل هذا هو الذي اعتمد عليه "فون فيسمان" في أن الحميريين قد استولوا على مأرب، ولمدة عشر سنين.

وهناك عدد من النصوص جاء فيها اسم "ذمار علي يهبر" بجانب اسم أبيه، وأخرى جاء اسمه بجانب اسم ولده "ثاران يعب يهنعم"، ويفهم منها أنه أشركه معه في الحكم، كما يفهم منها كذلك أنه أعاد بناء سد ذمار، وأما الكتابة المعروفة بـ "Rep Epig 4909"، فتتحدث عن وفد أرسله هذا الملك ليهنئ "العزيلط" ملك حضرموت باعتلائه العرش، وأن ذلك كان في حوالي عام 20ق. م، على رأي، و200م، على رأي آخر، بل إن "جام" إنما يحدد لحكم "ثاران يعب يهنعم" الفترة "265-275م"، بينما يرى "فون فيسمان" أنها في الفترة "230-240م".
وجاء "ذمار علي يهبر" الثاني، بعد أبيه "ثاران يعب يهنعم"، ثم جاء "شمر يهرعش"، والذي لقبه "فون فيسمان" بالأول، تمييزًا له عن "شمر يهرعش" المشهور" والذي جاء بعده بفترة طويلة.
ويذهب "جون فلبي" إلى أن عرش سبأ وذي ريدان، إنما جلس عليه في الفترة "115-245م" ملوك من أسرة "بني بتع" من حاشد -وحاشد كما هو معروف من الهمدانيين- وأن عددهم كان اثني عشر ملكًا، ثم جاءت من بعدهم أسرة من "بكيل"، كان أول رجالها "العز نوفان يهصدق" الذي حكم في الفترة "245-265م"، ثم جاء من بعده "ياسر يهنعم" والد "شمر يهرعش" الملك المشهور بين الإخباريين، وبذلك ينتقل العرش إلى أسرة جديدة، بل إلى عهد جديد، عهد تسود فيه سيطرة الحميريين على بلاد العرب الجنوبية، دون غيرهم من حكام اليمن؛ ذلك لأن هذا العصر الثالث "115ق. م-300م" إنما كان النفوذ فيه لسبأ ولحمير معًا، بعكس العصر الرابع "300-525م" الذي تسود فيه السيادة الحميرية.
ويعرف "ياسر يهنعم" في المصادر العربية باسم "ناشر النعم" أو "ياشر ينعم" أو "ياسر ينعم" أو "ياسر أنعم" لإنعامه عليهم "أي الحميريين" بما قوى من ملكهم وجمع من أمرهم، أو لإنعامه على الناس بالقيام بأمر الملك ورده بعد زواله، أو لأنه رد ملك حمير بعد أن انتقل إلى سليمان بن داود عليه السلام، وهو "عمرو بن يعفر بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ" أو" يعفر بن عمرو بن حمير بن السباب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"، أو "عمر ذو الأدغار" أو "عمرو بن يعفر بن شرحبيل بن عمرو ذى الأدغار" أو "مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حمير بن السباب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسكة المقعقع بن وائل بن حمير، إلى غير ذلك من أنساب، الخطأ فيها أكثر من الصواب.
وقد ذهبت بعض المصادر العربية إلى أنه قد حكم بعد ابنة أخيه أو ابنة عمه، "بلقيس بنت الهدهاد" صاحبة سليمان، لأن الهدهاد قد أوصى له بالملك في عهد بلقيس وبعدها، فأجابته حمير وقدموه، أو أنه قد حكم بعد فترة تتراوح ما بين الثلاثين والأربعين عامًا من حكم سليمان لحمير، حيث أخذه منه وأعاده إلى حمير، وبقي صاحبنا هذا على عرشه قرابة خمس وثلاثين سنة، وهذا يعني -في نظرهم- أن "ياسر يهنعم"، والذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، إنما كان معاصرًا لسليمان ملك إسرائيل في القرن العاشر قبل الميلاد، والفرق بينهما، كما نرى، جد شاسع، إذ أن سليمان عليه السلام، إنما سبق "ياسر يهنعم" بزمن قد يزيد في مداه عن اثني عشر قرنًا.
وأما الرواية التي ذهبت إلى أن سليمان قد حكم حمير، فلست أدري- علم الله- من أين جاء بها أصحابها، وليس هناك نص واحد- سواء أكان هذا النص من النصوص الحميرية، أو حتى من توراة اليهود، أو غيرها من المصادر اليهودية- يمكن الاعتماد عليه لتدعيم زعم الإخباريين هذا.
هذا وقد روى القرآن الكريم -وكذا التوراة والإنجيل، قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام في سورة النمل، ومنها نعرف أن الملكة العربية حين تأكدت أنها أمام واحد من المصطفين الأخيار، يريد لها ولقومها الهداية إلى سواء السبيل، وليس رجلا غرته قوته، فأراد أن يجعل من بلادها جزءًا من ممتلكاته، فتقرر الذهاب بنفسها إلى النبي الكريم، ويستعد سليمان لاستقبال الملكة العظيمة، فيعد لها أمرًا يخرج عن قدرة البشر العاديين، ويدخل في عداد معجزات تلك الصفوة المختارة، من رسل الله وأنبيائه الكرام، فيأتي بعرشها إلى قصره، حتى إذا ما وصلت: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}  ثم مفاجأة أخرى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}.
وهنا كانت الملكة قد رأت كل ما يبعد عنها أية ريبة في أنها أمام نبي الله الكريم، سليمان عليه السلام، وليس، كما كانت تظن -بادئ ذى بدء- أنها أمام ملك يطمع في دولتها، أو يبغي الاستيلاء عليها، ثم يجعل من أعزة قومها أذلة، وكذلك يفعل الطامعون والمستعمرون، وهنا أراد الله لها الهداية والإرشاد، ومن ثم: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وليس في كل هذا ما يفيد من قريب أو بعيد، أن اليمن قد أصبحت مستعمرة لإسرائيل على أيام سليمان، أو أن بلاد العرب قد أصبحت ضمن دولة اليهود، وكذا ليس في قصة التوراة ما يفيد ذلك، ومن ثم فإذا كان ذلك قد حدث، فهو من خيال الأخباريين، طبقًا لإسرائيليات أوحى إليهم بها مسلمة أهل الكتاب، وليس من حقائق التاريخ وأخباره الصحيحة.
وعلى أية حال، فإن الروايات العربية تنسب إلى "ياسر يهنعم" الفتوحات العظيمة، فتزعم أنه خرج إلى ما حوى آباؤه من التبابعة العظام، فوطئ من الأرض موطئًا عظيمًا، ودوخ الشام ومصر وقبض أقواتهما، ثم توجه إلى المغرب لرؤيا رآها، يريد أن يبلغ وادي الرمل الذي يسيل، وهكذا أخذ يسير حتى إذا ما بلغ البحر المحيط "ولعله هنا البحر الأبيض المتوسط"، أمر ولده "شمر يرعش" أن يركب هذا البحر حتى يعبره، ثم يرجع إليه بما رأى في وادي الرمل، ويصدع "شمر يرعش" بأمر أبيه، فينزل على صنم ذي القرنين، ثم يبعث بعساكره إلى الإفرنج والسكس والصقالبة، حيث يكتب لها النجح فيما أرادت، فتعود وقد غنمت الأموال وسبت الذراري من كل أمة من جزر البحر، على رواية، وأن هذه الجيوش، والتي كانت في عشرة آلاف مركب، كانت بقيادة واحد من أهل بيت "ياسر يهنعم" -يقال له عمرو بن زيد بن أبي يعفر- وأنها ذهبت إلى وادي الرمل فلم تجد مخرجًا ولا مجازًا؛ لأن الوادي لا يسكن إلا يوم السبت فلا يجري، وهكذا ضاعت هذه الجيوش، وهنا أمر الملك بصنع تمثال من نحاس كتب عليه بالمسند "أنا الملك الحميري ياسر ينعم اليعفري، ليس وراء ما بلغته مذهب، فلا يجاوزه أحد فيعطب"، على رواية أخرى.
ولم تقتصر فتوحات "ياسر ينعم" -فيما تزعم المصادر العربية- على ذلك، وإنما امتدت إلى الحبشة وإلى بلاد الروم والترك، فضلا عن التبت والصين والهند، وأخيرًا مات في "دينور" حيث دفنه ابنه هناك، ثم جلس على عرشه من بعده، وإن قفزت بعض هذه المراجع، فجعلت من "تبان أب كرب أسعد" خليفة له، كما أبت مراجع أخرى إلا أن تنسب للرجل شعرًا فيه فخر وفيه حماسة، كما نسبت لوالده "شمر يرعش" شعرًا كذلك، يرثي فيه أباه، ولم تنس هذه القرائح أن تقدم لنا نماذج من كلامه العربي الفصيح، لترينا أنه كان -كسائر ملوك اليمن- يتكلم بلسان عربي مبين.
وليس من شك في أن كل ما جاء في هذه الروايات عن "ياسر يهنعم"، إنما هو من أساطير "ابن منبه" وغيره من الأخباريين الذين سودوا صفحات كتبهم عن هذه المرحلة من التاريخ العربي القديم بكل غث وسمين، وإن كانت هناك روايات تاريخية عن حملات عسكرية قام بها الحميريون في وادي النيل الأوسط وشمال إفريقيا، وقد أشار "ده برسيفال" إلى حملة قادها أبو مالك بن شمر يرعش إلى معادن الزمرد في أرض البجة، ومن المحتمل أن يكون قد لقي حتفه هو ومعظم جيشه، حوالي منتصف القرن الأول الميلادي.
وعلى أي حال، فهناك الكثير من النصوص التي تحدثت عن "ياسر يهنعم" هذا، منها نص "Cih 46"، والذي عثر عليه في "يكاران" -ويرجع تاريخه إلى عام 276م- وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر"، واسم قبيلتي، "مهانف" و"شهر"، كما جاء اسمه واسم ولده "شمهريهرعش" في نص مؤرخ بعام 276م كذلك، ولعل في هذا إشارة إلى اشتراكه معه في الحكم، حيث لُقِّبَا بملكي سبأ وذي ريدان. هذا ويجب الإشارة هنا إلى أن القوم وقت ذاك، إنما كانوا يؤرخون وفق تقويمين مختلفين، وأن الفرق بينهما خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة، ثم أهمل أحد التقويمين وبقي الآخر، وهو تقويم "مبحض بن أبحض"، وتقع بدايته فيما بين عامي 118، 110ق. م، وإن لم يستعملوه في الكتابة إلا في القرن الثالث الميلادي، ويرى "ريكمانز" أن نصوص "ياسر يهنعم" وولده "شمر يهرعش"، تختلف في تأريخها عن التأريخ السبئي المعروف، والذي يبدأ في رأيه في عام 109ق. م، ومن ثم يمكن إثابتها وفق هذا التقويم.
ونقرأ في نقش "Cih 353" عن ثورة حمل لواءها الحميريون ضد "ياسر يهنعم" وولده حوالي عام 300م، في منطقة "ضهر" -والتي لا تبعد كثيرًا عن صنعاء- هذا فضلا عن اشتباكات جديدة بين "ياسر يهنعم" والهمدانيين، والذين تعانوا مع بني ريدان لمهاجمة مأرب، إلا أن الملك الحميري سرعان ما هاجم الهمدانيين غربي صنعاء وانتصر عليهم.
ولعل مما تجدر ملاحظته أن عهد ملوك سبأ وذي ريدان من أصعب العهود في تاريخ سبأ، ورغم أن النصوص التي عثر عليها ليست بالقليلة، إلا أنها لا تفيدنا كثيرًا، ثم إن بعضها قد أصابه التلف، ومن هنا كان الاختلاف البين بين العلماء في تأريخ هذه الفترة، هذا إلى جانب فترات مظلمة تمامًا في كتابة هذا الفصل، نتيجة اضطراب المؤرحين فيه، وعدم اتفاقهم على رأي بشأنه، وليس هناك من حل إلا من مزيد من الحفائر، ثم مزيد من الحفائر، حتى يستطيع العلماء تقديم التاريخ العربي القديم في صورة متكاملة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق