الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الثاني عشر

الجزء الثاني عشر: المدينة المنورة
مدخل
المدينة المنورة، ثاني مدن الحجاز بعد مكة دون ريب، ودار الهجرة التي نصرت الإسلام، وأعزت كلمة المسلمين، فاستحقت التكريم والتخليد حتى يقوم الناس لرب العالمين، ثم شاءت إرادة الكريم المنان ذي الفضل العظيم-أن تعطي المدينة ما لم تعطه لغيرها من المدائن، وأن تخصها بميزة لا تتطاول إليها واحدة من مدن الدنيا، حيث شرفت بأن تضم في ثراها جثمان سيد الأولين والآخرين، جدنا ومولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
هذا إلى أن بالمدينة المنورة ثاني الحرمين الشريفين، فضلا عن أنها البلد الذي اختاره الله، ليكون أول عاصمة إسلامية في التاريخ، تخرج منها جيوش النور، تحمل راية الإسلام، وهداية القرآن، إلى جميع أنحاء المعمورة، فتنشر التوحيد والحب والعدل والإخاء والمساواة، ومن ثم فقد كانت وما زالت -وسوف تظل أبد الدهر إن شاء الله- قلوب المؤمنين في كل أنحاء الدنيا تنبض بحب المدينة، وتهفو إلى زيارتها، وتتعبد إلى الله في مسجدها، وتنعم بالصلاة في روضته الشريفة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.
هذا وقد حبت الطبيعة المدينة المقدسة بمزايا لم تعرفها مكة المكرمة، من طيب الهواء وجودة التربة، كما أنها لم تكن على طريق القوافل التي تحمل الطيوب بين اليمن والشام فحسب، بل كانت واحة حقيقية ذات تربة صالحة لزراعة النخيل، وهو كثير فيها، ومن ثم فقد أصبحت المدينة واحدة من أمهات المراكز الزراعية في بلاد العرب.
والمدينة المنورة لم تكن تعرف بهذا الاسم قبل نصرتها للإسلام، وهجرة المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إليها في عام 622م، وإنما كانت تسمى "يثرب"، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} ، وقد ذكرت يثرب في الكتابات المعينية، ربما بسبب وجود جالية معينية كانت تقيم هناك خلفتها أخرى سبئية، بعد أن ورث السبئيون دولة معين في اليمن، ومستعمراتها في شمال غرب شبه الجزيرة العربية، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالنسابين من بعد أن يروا في سكان يثرب من العرب، أزدا من قحطان.
ولعل أقدم إشارة إلى "يثرب" في النصوص البابلية، إنما ترجع إلى القرن السادس ق. م، إذ تحدثنا كتابة عثر عليها في "حران" عام 1956م، تتحدث عن أعمال الملك البابلي "نبونيد" "555-539ق. م" في بلاد العرب، فتروي أن ذلك الملك المثقف الذي اشتهر بحبه للآثار، قد قام بحملة في العام الثالث من حكمه إلى شمال غرب شبه الجزيرة العربية، احتل فيها تيماء وديدان وخيبر ويثرب، والتي جاءت تحت اسم "أتريبو"، وكانت آخر موضع وصل إليه العاهل البابلي في بلاد العرب، وربما كان السبب في هذه الحملة، إنما كان مهاجمة العرب لمناطق خاضعة للبابليين، وربما كان رغبة البابليين في السيطرة على الطريق التجاري البري بين الشام وجنوب بلاد العرب.
وأيا ما كان السبب، فإن العاهل البابلي قد استقر في "تيماء" فترة تقرب من سنوات عشر، بعيدًا عن عاصمته "بابل" التي لم يعد إليها إلا بسبب التهديدات الفارسية لها، فضلا عن بلاد العرب نفسها، وإلا بعد دعوة رعاياه الذين كانوا على خلاف معه طوال تلك الفترة.
هذا وقد جاء اسم "يثرب" كذلك في جغرافية بطليموس، وعند "إصطفيانوس البيزنطي" تحت اسم "يثربة 2Jathripa"، أما الأخباريون فيعرفونها باسم "أثرب" و"يثرب"، وأن يثرب -في رأيهم- إنما هي "أم قرى المدينة، التي حددوا امتدادها من طرف وادي قناة شرقًا، إلى طرف الجرف غربًا، ومن زبالة الزج جنوبًا، إلى البساتين التي كانت تعرف بالمال شمالا، وأما وادي قناة فيقع في الناحية الشمالية من المدينة، ويبعد عنها بأربعة كيلو مترات ونصف، ويقع في شمال جبل أحد، الذي يبعد عنه بنحو كيلو متر واحد تقريبًا، وأما المال فهو بعض بساتين العيون في الشمال الغربي، وأما زبالة الزج فهي قرية من قرى المدينة كانت بشمالي "سلع" إلى قرب وادي قناة، اندثرت آثارها فلم تعد معروفة، وذلك اعتمادًا على رواية السمهودي عن "زبالة الزج" بأن "كان لأهلها أطمان"، على روايته، وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب، ومن ثم فإن حدود المدينة المنورة -طبقا لرواية السمهودي- إنما كانت تتمثل في الأرض كثيرة النخل غربي مشهد سيدنا حمزة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وشرقي البركة التي هي مصرف عين الأزرق، قريبًا من مسجد قباء.
وعلى أي حال، فلم ينس أصحابنا الأخباريون أن يختلقوا تعليلا للاسم، فهي "يثرب" نسبة إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل من ولد سام بن نوح" أو "يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلائيل"، هو أول من نزل بها عند تفرق ذرية نوح، على زعم، وهي من الثرب بمعنى الفساد، أو الترثيب أي المؤاخذة بالذنب، على زعم آخر، هي نسبة إلى رئيس العماليق الذين نزلوا بها بعد أن طردوا منها بني عيبل، من ولد سام كذلك، على زعم ثالث، بل إن هناك رواية رابعة -تنسب إلى ابن عباس- وتذهب إلى أن يثرب في الأصل إنما كان اسما لابن عبيل، الذي هو أول من نزل المدينة.
وأما اسم المدينة، والذي جاء في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}  ويقول: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه}  ويقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة} ، فهو اسم شرفها به المصطفى -صلى الله عليه وعلي آله وسلم- حتى وإن رأى البعض أن الاسم مأخوذ من الكلمة الأرامية "مدينتا "Medinto Mcdinta"  بمعنى "الحمى" أي المدينة، على رأي من يرى أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرامية، أو بعض المتهودة من بني إرم الذين نزلوا يثرب، هم الذين دعوها "مدينتا"، وأنها ربما عرفت بمدينة يثرب -كما جاء في اصطيفان البيزنطي- ثم اختصرت إلى "مدينتا أي المدينة"، ثم عرفت بمدينة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، بعد هجرته إليها.
هذا ويرى "البتنوني" -طبقًا لرواية سوف نناقشها فيما بعد وتتصل بغزو إسرائيلي للمدينة بأمر من الكليم عليه السلام- أن الجنود الإسرائيليين هم الذين أطلقوا عليها اسم "يثرب"، تحريفًا لكلمة مصرية هي "اتريبس"، كما أن اسم طيبة الذي استعمل اسما للمدينة مأخوذ عن طيبة المصرية.
على أن هذا الرأي يحتاج إلى:
"أولًا" أن تكون قصة الغزو المزعومة حقيقية، وهو أمر تقوم كل الأدلة التاريخية على نقيضه.
"ثانيًا" إلى إيجاد اسم آخر ليثرب قبل هذا الاسم، على أيام العماليق الذين تزعم قصة الغزو المزعومة أنهم كانوا يسكنونها، الأمر الذي لم يشر إليه صاحب هذا الرأي.
"ثالثًا" إذا كان صحيحًا أن الجنود الإسرائيليين هم الذين أطلقوا على المدينة اسم "يثرب"، لكان من الأولى أن يطلقوا عليها واحدًا من أسماء المدن التي كانت في المنطقة التي كانوا يعيشون فيها في مصر -هناك على أطراف الدلتا الشرقية- مثل "بي رعمسيس" العاصمة المصرية وقت ذاك، أو "تانيس" التي جاءت في التوراة تحت اسم "صوعن"
وأما أن يثرب تحريف للكلمة المصرية "أتريبس"، ولعله يعني "أتريب" "بنها الحالية"، فليس هناك من دليل على ذلك، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن تكون تحريفًا لـ "أتريبو"، التي جاءت في نص نبونيد الآنف الذكر، كما أن القول بأن اسم "طيبة" منقول عن اسم العاصمة المصرية الشهيرة "طيبة" أمر يحتاج إلى نظر؛ لأسباب منها:
"أولًا" أن طيبة كانت وقت ظهور الإسلام، قد ودعت أمجادها التليدة، يوم أن كانت عاصمة للإمبراطورية المصرية لمئات السنين.
"ثانيًا" أننا حتى لو افترضنا أن المسلمين كانوا يعرفون شيئا عن المدن المصرية القديمة الكبرى في تلك الفترة، بسبب العلاقات بين مصر وبلاد العرب، والتي بدأت منذ فترة مبكرة في التاريخ، واستمرت حتى الفتح العربي لمصر "عام 20هـ -640م".
فإن طيبة إنما تقع في منطقة نائية هناك في الصعيد الأقصى، وأن القادمين من بلاد العرب ينتظر أن يكونوا على معرفة بالإسكندرية، عاصمة مصر وقت ذاك، فضلا عن مدن الدلتا القريبة من سيناء -حلقة الاتصال بين مصر وبلاد العرب- ثم إن اسم طيبة نفسه قد لا يشجع على القول بأن المسلمين قد أخذوه عن العاصمة المصرية القديمة، فهو اسم وثني يرتبط بالإله آمون على رأي، ومأخوذ عن اسم المدينة اليونانية "طيبة" على رأي آخر.
وأيا ما كان الأمر، فلقد كثرت أسماء المدينة المنورة في العصر الإسلامي، حتى بلغت عشرة أسماء على رأي، وأحد عشر اسما على رأي آخر، وتسعة وعشرين على رأي ثالث، وأربعة وتسعين على رأي رابع، وإن كان أهمها جميعًا: المدينة ويثرب وطيبة وطابة والعاصمة والقاصمة والجدية والمحبوبة والمؤمنة والمباركة والمحفوظة والمختارة والجابرة والعذراء والغراء والبارة والمقدسة والناجية وذات الحرار ومدخل صدق وقرية الأنصار وسيدة البلدان والخيرة وأرض الهجرة ودار الهجرة ودار الأخيار ودار الإيمان ودار الأبرار ودار السنة وبيت الرسول ومدينة الرسول ومضجع الرسول وحرم رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أسف أن تاريخ يثرب القديم مجهول، فلا توجد مدونات يمكن الرجوع إليها، ولم تقم بها حفريات علمية يمكن أن تقدم لنا معلومات ذات قيمة عن تاريخ المدينة المقدسة القديم، وإن كانت هناك حفريات قد أجريت دون أن يقصد بها ذلك الهدف العلمي -كالتي حدثت في الأعوام 1333، 1335، 1352هـ- في أحد البساتين، وإبان حفر أساس القسم الشمالي لمدرسة العلو الشرعية الواقعة بقرب باب النساء، وفي المناخية جنوبي السبيل، إلا أنها قد كشفت عن بعض أشياء قد تشير إلى أن المدينة الحالية، إنما قامت على أنقاض مدينة أخرى -الأمر الذي اشار إليه اليهود منذ القرن التاسع الهجري- ومن ثم فإن معلوماتنا الحالية، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على روايات الأخباريين، وأكثرها من ذلك النوع الذي عرفناه من قبل.
سكان المدينة:
يروي الأخباريون أن سكان يثرب إنما كانوا من العماليق، ثم اليهود، ثم العرب -من أوس وخزرج- وأن العماليق إنما كانوا أول من زرع الزرع واتخذ بها النخيل، وعمر بها الدور والآطام، واتخذ الضياع، وأنهم يرجعون في نسبهم إلى عملاق ابن أرفخشد بن سام.
1- اليهود:
وقصة اليهود -طبقًا لرواية الأخباريين، ومن تابعهم من المؤرخين المحدثين- أمرها عجب، إذ تذهب رواياتهم إلى أن موسى -عليه السلام- بعد أن أظهره الله على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها من الكنعانيين، أو أنه بعث إليهم بعثا أهلك من بها، ثم بعث بعثا آخر إلى الحجاز، للعماليق الذين كانوا يسكنون المدينة قبل بني إسرئيل، وكانوا أهل بغي وغزو، ملكوا على أنفسهم رجلا يقال له "الأرقم" وتذهب الرواية إلى أن موسى كان قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى، فضلا عن جيش من بني إسرائيل كان قد بعثه إلى العماليق، وأمره أن يقتل القوم جميعًا ولا يستبقي منهم أحدا، وأن هذا الجيش قد كتب له نجاح بعيد المدى في مهمته هذه، فقتل العماليق جميعًا، ولم يبق على أحد منهم إلا ولدا للأرقم كان وضيئا فأشفقوا على شبابه، ومن ثم فقد حملوه إلى موسى ليرى رأيه فيه، غير أن موسى كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل عودة الجيش بولد الأرقم، وقد اعتبر الإسرائيليون أن إبقاء الجيش على حياة ولد الأرقم خروج على تعليمات موسى، ومن ثم فقد رفضوا أن يسمحوا للعائدين بدخول الشام، مما اضطر هذا الجيش إلى العودة إلى المدينة والإقامة فيها، ومن ثم فقد كانوا أول من سكن المدينة من يهود.
والقصة على هذا النحو توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، هذا إذا لم تكن هي نفسها شبهة؛ وذلك لأسباب كثيرة: منها:
"أولًا" أن هذا الرأي الذي ذهب إلى أن موسى عليه السلام قد وطئ الشام وأهلك الكنعانيين، لا أقول يتعارض مع الحقائق التاريخية فحسب، وإنما يتعارض كذلك مع آيات القرآن الكريم- فضلا عن نصوص التوراة- ولتقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة، يقول سبحانه وتعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
والأمر كذلك بالنسبة إلى التوراة التي تحدثت عن كل صغيرة وكبيرة في حياة موسى، وهكذا فإن كل النصوص المقدسة -آيات القرآن وإصحاحات التوراة- تشير إلى أن الإسرائيليين الذين صحبوا موسى في رحلة الخروج من مصر، لم يكتب لواحد منهم- بما في ذلك موسى وهارون عليهما السلام -أن يدخل الأرض المقدسة أبدًا، إذا استثنيا يشوع بن نون وكالب بن يفنه، وقد ناقشنا ذلك كله بالتفصيل في كتابنا إسرائيل.
"ثانيًا" أن القرآن الكريم -والتوراة من قبل- يكذبان إرسال جيش إسرائيلي إلى الحجاز، فالقوم الذين جبنوا عن أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ويصفون أنفسهم بأنهم "كالجراد في أعين الجبابرة من بني عناق" من سكان كنعان، هؤلاء القوم ليسوا هم الذين يجتازون صحراوات بلاد العرب حتى يصلوا إلى يثرب، ثم يقوموا فيها بمجزرة بشرية تنتهي بإفناء بلد بأسره، إلا ولد الأرقم ملكها، ثم أليسوا هم أنفسهم الذين حاول الكليم عليه السلام أن يحرضهم على القتال، حتى يصدعوا بأمر الله ويدخلوا الأرض التي كتبها لهم، إلا أنهم كانوا مع كثرتهم "تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى"، كانا يخافون الحرب ويهابون القتال، بعد أن تمكنت منهم المذلة والصغار، ومن ثم فقد صاحوا بموسى -كما تروي توراتهم -"ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر، ولماذا أتى بنا الرب لنسقط بالسيف".
وليت الأمر اقتصر على هذا، فإن التمرد سرعان ما يمتد إلى حد الثورة على موسى شخصيا، والمناداة بخلع رياسته وقيام سلطة جديدة تعود بهم إلى مصر، تقول التوراة على لسان الإسرائيليين: "أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر، فقال بعضهم نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر". هذه هي النصوص القرآنية والتوراتية وكلها تتحدث عن جبن الإسرائيليين وتقاعسهم عن القتال، أفليس من الغريب بعد ذلك أن يأتي بعض المؤرخين -ويا للعجب فهم من المسلمين- فيزعم لليهود أمجادا عسكرية ما كانت لهم أبدًا، والحق يقال أنهم ما زعموها لأنفسهم أبدًا.
"ثالثًا" أن التوراة تحدثنا عن معارك دارت رحاها بين اليهود والعماليق، ولكن ليس في المدينة المنورة -كما يزعم بعض المؤرخين المسلمين القدامى، ومن تابعهم من المحدثين- وإنما في سيناء، حيث كان يقيم فريق من العماليق، في منطقة منها تدعى "رفيديم"، وأن العماليق استمروا يضايقون الإسرائيليين حتى أيام شاؤل "1020-1000ق. م"، أول ملوك إسرائيل، كما يروي سفر صموئيل الأول.
"رابعًا" أن الرواية تقدم لنا موسى عليه السلام في صورة لا تتفق ومكانة الكليم، فليس من شيم الأنبياء أن يرسلوا الجيوش لتقتل الناس جميعًا، كنت أفهم أن يدعو الكليم العماليق إلى عبادة الله الواحد القهار، فإذا ما رفضوا كانت الحرب ولينصرن الله من ينصره، أما أن يرسل النبي الكريم -فيما يزعم الرواة- جيشا إلى المدينة ليقوم فيها بمجزرة بشرية مروعة، تنتهي بإفناء القوم جميعًا، إلا طفل ضنوا عليه من الموت لوضاءته، فأمر لا يمكن أن يقبل على علاته من عامة الناس، فضلا عن أن يكون ذلك من كليم الله عليه السلام، وحتى هذه، فما شأن موسى بالعماليق في وسط بلاد العرب، أنسي أصحاب هذه الرواية أن موسى قد أرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وليس العماليق بالتأكيد من بني إسرائيل، كما أنهم هنا في المدينة المنورة -بعيدًا عن مصر وعن فلسطين، فضلا عن صحراء التيه- لم يعترضوا دعوته، وربما لم يسمعوا بها أبدًا، وحتى لو كانوا قوما جبارين-كما تذهب الرواية- أفكان موسى مكلفا بالقضاء على الجبارين في الأرض، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا القضاء على العماليق بالذات، وليسوا هم وحدهم الجبارين في الأرض، ثم ما هو الموقف بالنسبة إلى العماليق في غير يثرب؟
"خامسًا" أن بعض المؤرخين المسلمين أنفسهم إنما يشكون في صحة الرواية.
"سادسًا" أن هناك رواية أخرى -إخبارية كذلك- تقدم سببًا مختلفا لإقامة اليهود في المدينة، ذلك أن موسى -طبقًا لهذه الرواية- قد حج إلى بيت الله الحرام ومعه أناس من بني إسرائيل، وعند العودة رأوا في موضع المدينة صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين، ومن ثم فقد أقاموا في موضع سوق بني قينقاع، ثم تآلفت إليهم أناس من العرب، فرجعوا على دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة، وهكذا يبدو التضارب واضحًا في روايات الأخباريين، بل إن البعض منهم قد ذهب إلى أن هارون عليه السلام قد دفن بالمدينة كذلك، وهنا تتجه الروايات اتجاها غريبا، حيث تذهب إلى أن موسى وهارون قد خرجا حاجين أو معتمرين، حتى إذا ما قدما المدينة خافا من يهود، فنزلا أحد، وهارون مريض، فحفر له موسى قبرا بأحد، وقال: ادخل فيه فإنك تموت، فقام هارون فدخل في لحده فقبض فحثى عليه موسى التراب.
ولست أدري كيف يخاف موسى وهارون من اليهود، أما كان الأولى أن يقول أصحاب هذه الرواية أن النبيين الكريمين قد خافا من العماليق، بخاصة وأن أصحاب الرواية نفسها، إنما يرون أن الذين كانوا بالمدينة من يهود من بني قينيقاع، وهم من أوفى شيعة موسى وهارون، وفي نفس الوقت كان العماليق -طبقًا للرواية نفسها- يملأون السهل والجبل، وفيهم بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق، ثم كيف علم موسى أن هارون سوف يموت، وعلم ذلك عند ربي وحده، ثم كيف يأمر موسى هارون بدخول القبر قبل أن يموت، ثم أليست هذه الرواية هي رواية التوراة -كما جاءت في سفر العدد "20: 22-29"- وإن غير أصحابنا الأخباريون فيها، بأن جعلوا في موت هارون على جبل أحد في المدينة المنورة، بدلا من موته على جبل هور في أرض التيه، وإن كانت رواية التوراة جعلت ذلك بوحي من الله لموسى، وإن انحرفت عن الجادة من الصواب بعد ذلك، فجعلت الموت إنما كان سببه العصيان.
"سابعًا" أن سكنى اليهود في يثرب -طبقًا لهذه الرواية- بعيد جدًّا، بخاصة إذا ما تذكرنا أن موسى عليه السلام قد خرج ببني إسرائيل من مصر حوالي عام 1214ق. م3 -ولا أقول في عام 1447ق. م، كما ترجح بعض الآراء.
بل إن هناك من يذهب إلى أن الخروج إنما كان في حوالي عام 1575ق. م، طبقًا للآراء التي تربط بين اليهود والهكسوس.
ولعل سؤال البداهة الآن: إذن ما هو أصل هذه الروايات التي جعلت موسى عليه السلام يرسل جيشا إلى المدينة المنورة يقضي على سكانها؟ ومن أين جاء بها الأخباريون؟.
والرأي عندي أن مصدرها التوراة، وأنها وصلت إلى الإخباريين محرفة حتى، ثم افترض بعد ذلك مصدرين لهما من قصص التوراة، الواحد قصة موسى والمديانيين، والآخر قصة شاؤل والعماليق، وأن المؤرخين المسلمين لم يطلعوا حتى على أي من القصتين في التوراة، ومن ثم فقد نقلوها عن مصادر غير علمية بما جاء في التوراة، وربما عن مسلمة أهل الكتاب.
وعلى أي حال، ففي الأولى نرى رب إسرائيل يأمر موسى بالانتقام من المديانيين، ومن ثم نرى الجيش يخرج إلى مديان فيقتل الذكور منهم، ويسبي النساء، ثم ينهب المواشي ويحرق المدن ويهدم الحصون، ثم يعود ومعه "الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم"، فيخرج إليهم موسى غضبان أسفا، مهددا ثائرا، آمرا إياهم "أن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر"، وهكذا يأبى كاتبوا التوراة -المتداولة الآن- إلا أن يصوروا موسى عليه السلام، حريصًا على قتل رجال مديان، فضلا عن السبايا من نسائهم، والذين لم يبلغوا الحلم من ذكورهم.
وفي الرواية الأخرى يأمر رب إسرائيل ملك إسرائيل بأن يقضي على العماليق الذين استذلوا يهود، ومن ثم فإن شاؤل سرعان ما يخرج على رأس جيشه فيبيد عماليق، وإن أبقى على "أجاج" ملكهم، فضلا عن خيار الغنم والبقر، وعن كل ثمين غال مما يملكون، وهنا يغضب "يهوه" رب إسرائيل، فيتراءى لصموئيل النبي، معلنا أنه قد "ندم على أن جعل شاؤل ملكًا" لأنه خالف أمره، فلم يقض على عماليق وما يملكون، وكانت النتيجة أن ذبح ملك العماليق في الجلجال، ورفعت بركة رب إسرائيل عن شاول، وأعطيت لواحد من يهود من غير بيت شاؤل.
ولا ريب في أن أقاصيص التوراة هذه ليس لها ظل من حقيقة، وإنما هي روايات سجلها يهود الأسر البابلي "586-539ق. م"، وبعد حدوثها بقرون وقرون، ولعل في بعد الشقة ما بين وقوع الأحداث وتسجيلها ما يشفع في هذا الخلط العجيب، بل ما يشفع في المغالات والتفاخر بما ارتكبت يهود من مجازر، لم يكن لها من أساس إلا في أذهان مؤلفيها، الذين شهدوا بربرية الآشوريين والبابليين، فخيل إليهم أن أسلافهم مارسوا نفس اللون من القهر والإذلال.
ويبقى بعد ذلك سؤالنا: متى أتى اليهود إلى يثرب؟
في الواقع إن الآراء متضاربة في هذا الأمر إلى درجة أننا لا نستطيع التوفيق بينهما، إذ تذهب بعض الآراء إلى أن ذلك إنما حدث في القرن الثالث عشر ق. م، بينما تذهب آراء أخرى إلى أنه إنما كان في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، والفرق بينهما جد شاسع، قد يصل إلى حوالي أربعة عشر قرنًا، ومن هنا كانت الصعوبة في التوفيق بين هذه الآراء المختلفة أحيانًا، والمتضاربة أحيانًا أخرى.
لقد رأينا من قبل كيف أن بعض الروايات إنما تذهب إلى وجود اليهود في يثرب، إنما كان منذ أيام موسى عليه السلام، ورأينا كذلك كيف أن هذه الروايات لا تستطيع حتى أن تقف على قدميها، ومن ثم فإننا نتجه إلى رواية أخرى، تذهب إلى أن اليهود إنما قدموا على أيام داود عليه السلام "1000-960"، ذلك أن الإسرائيليين -فيما يرى البعض- قد خلعوا طاعة داود وانضموا إلى ولده "أبشالوم"، وأن النبي الكريم قد لجأ إلى أطراف الشام، ثم لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم أعد العدة لاستعادة ملكه فحارب ولده وانتصر عليه، ثم انتهى الأمر بقتل أبشالوم على يد "يؤاب" قائد جيش داود، فضلا عن قتل عشرين ألفا من بني إسرائيل، ولعل "دوزي" يتجه نفس الاتجاه، وإن رأي أن الأمر كان ممثلا في هجرة سبط شمعون قبيل أيام داود، ومن ثم فالهجرة لا علاقة لها بداود -الأمر الذي ناقشناه من قبل.
وعلى أي حال، فإن رواية الإخباريين الآنفة الذكر، لا تعدوا أن تكون تحريفًا لأحداث جاءت في التوراة، حيث تروى أن أخريات أيام داود قد تميزت بعدة ثورات، امتدت حتى إلى أهل بيته، ومنها ثورة ولده أبشالوم الذي نجح في أن يضم إليه قبائل إسرائيل الثائرة ضد أبيه، دون سبب ندريه على وجه اليقين، ثم تمكن أبشالوم من خلع أبيه، وتنصيب نفسه ملكًا على إسرائيل في مكانه، مما اضطر داود إلى أن يذهب إلى "محانيم" في شرق الأردن، حتى لا يفاجأ بأبشالوم وأتباعه داود إلى أن يذهب إلى "محانيم" في شرق الأردن، حتى لا يفاجأ بأبشالوم وأتباعه في أورشليم، إلا أن تصرفات أبشالوم المخزية مكنت داود من استعادة ولاء بعض القبائل الإسرائيلية القوية، والانتصار على أبشالوم وقتله كذلك، على الرغم من أوامر داود الصريحة لجنوده بعدم قتله، مما أدى إلى حزن داود المرير على ولده.
وهكذا يبدو واضحًا أن الإخباريين لم يفعلوا أكثر من نقل القصة التي روتها التوراة، وإن غيروا فيها بما يجعل اليهود يصلون إلى بلاد العرب على أيام داود عليه السلام، بل إن هناك من يذهب به الخيال إلى أن يرى أن داود قد غزا يثرب، وكان يسكنها صلع وفالج، وأنه قد أخذ من سكانها مائة ألف عذراء، وان الله قد سلط الدود على أهل يثرب بعد ذلك فأهلكهم، ثم دفنوا في السهل والجبل في ناحية الجوف.
غير أن أصحابنا الأخباريين لم يقولوا لنا ماذا فعل النبي الأواب بهذه المائة ألف من عذاري يثرب، فضلا عن السبب في سبيهم، ثم وهل صحيح أن يثرب كان بها في تلك الآونة من القرن العاشر قبل الميلاد مائة ألف من العذاري؟، ثم وهل صحيح كذلك أن الله قد أهل يثرب جميعًا؟ وأخيرًا ماذا فعل هؤلاء الناس ليصب عليهم داود نقمته إلى هذا الحد؟، وهكذا يبدو لنا بوضوح ما في هذه الرواية من بعد عن الصواب.
وهناك فريق ثالث يذهب إلى أن اليهود إنما قدموا إلى بلاد العرب في القرن الثامن قبل الميلاد، بعد سقوط السامرة -عاصمة إسرائيل- في أيد الآشوريين عام 722ق. م، وليس من شك في أن هذا الاتجاه قد تأثر إلى حد كبير بسقوط السامرة في يوم ما من شهر ديسمبر عام 722ق. م3، وأن العاهل الآشوري "سرجون الثاني" "722-705ق. م" قد هجر أكثر عناصر السكان أهمية، وربما النبلاء والإغنياء، غير أن التهجير إنما كان -طبقًا لرواية التوراة- إلى "حلج وخابور ومدن مادي"، وحين تكررت العملية في عام 720 أو 715ق. م، فإن العاهل الآشوري قد جاء بقوم من "بابل وكوت وحماة"، ومن سوسة وعيلام، فضلا عن قبائل ثمود "تامود" ومرسيمانو وجبايا، والعرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء وأسكنهم في السامرة، وذلك رغبة من العاهل الآشوري في كسر التحالفات القديمة في سورية وفلسطين، بإدخال إلى البلاد، وهكذا يبدوا واضحًا أنه ليست هناك أية إشارة في التوراة، أو في النصوص الآشورية، إلى تهجير يهود من السامرة إلى يثرب، وإلى غيرها من بلاد العرب، ومن ثم فإن المؤرخين يرفضون هذا الاتجاه.
وهناك فريق رابع يرى أن هجرة اليهود إلى يثرب إنما كانت بعد سقوط اليهودية وتدمير الهيكل في القرن السادس قبل الميلاد، على يد "نبوخذ نصر" في عام 586ق. م -وربما في أغسطس 587ق. م- وإبعاد كثير من اليهود إلى بابل، وهو ما عرف في التاريخ "بالسبي البابلي"، وعندما قتل اليهود "جداليا" نائب نبوخذ نصر في أورشليم، أدركوا مدى الكارثة الت حلت بهم، وخوفا من انتقام العاهل البابلي، فقد كان الهروب إلى مصر هو سبيل النجاة الوحيد أمامهم، ونقرأ في التوراة "فقام جميع الشعب من الصغير إلى الكبير ورؤساء الجيوش وجاءوا إلى مصر، لأنهم خافوا من الكلدانيين"، ومرة أخرى ليس في هذه الأحداث إشارة إلى هروب يهود إلى يثرب، كما تذهب الروايات العربية.
على أنه في هذه الاضطرابات، لا يمكنا القول إن مصر كانت هي سبيل النجاة الوحيد أمام اليهود -كما تقول التوراة- ومن ثم فربما فر فريق من يهود إلى بلاد العرب، وإن كنا لا نستطيع -بحال من الأحوال- أن نقول أنهم قد ذهبوا إلى يثرب بالذات، ولعل الذهاب إلى تيماء وإلى وادي القرى ومجاوراتهما، ربما كان أقرب إلى الصواب من الذهاب بعيدًا إلى يثرب؛ ذلك لأن الطريق إلى الحجاز لم يكن مقفلا أمام يهود في تلك الفترة، بخاصة وأن اليهود كانوا هاربين من فلسطين، يبحثون عن ملجأ يقيهم شر العذاب الذي يمكن أن يصبه عليهم العاهل البابلي، والحجاز أقرب المناطق إلى فلسطين، كما أن وجود بعضًا من يهود على طرق التجارة بين جنوب بلاد العرب وشمالها فيما بعد في العصر الروماني، قد يدعم الرأي القائل بوجود هجرة يهودية إلى بلاد العرب منذ تلك الفترة.
غير أن حملات البابليين المتكررة بعد ذلك على شمال بلاد العرب، فضلا عن استقرار "نبونيد" في تيماء، ولمدة قد تقرب من سنوات عشر، كما أشرنا من قبل، قد يضعف هذا الاتجاه، ورغم أن هناك من يذهب إلى أن حملة نبونيد على بلاد العرب، قد ضمت بين رجالها بعضًا من يهود، وأن هذا النفر من يهود، إنما أقاموا في شمال الحجاز -وحتى يثرب- إقامة دائمة استمرت حتى ظهور الإسلام، فإن العاهل البابلي لم يشر أبدًا إلى عناصر يهودية في جيوشه، أو أنه قد أسكن يهود في تلك المناطق، كما أننا لا نملك من الأدلة ما يؤيد وجهة النظر هذه.
وهناك فريق خامس يذهب إلى أن وجود اليهود في يثرب إنما يرجع إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وليس من شك في أن الأدلة التاريخية، إنما هي في جانب هذا الاتجاه أكثر من غيره، ولعل من أهم هذه الأدلة أن الظروف السياسية التي كانت يهود تمر بها في تلك الفترة -بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول ق. م، وعلى يهودية ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد -قد ساعدت هذه الظروف على هجرة أعداد من يهود إلى شبه الجزيرة العربية، التي ساعدت هذه الظروف على هجرة أعداد من يهود إلى شبه الجزيرة العربية، التي كانت بعيدة عن السيطرة الرومانية، فضلا عن أن بلاد العرب إنما كانت ما تزال في بداوة تشبه ما كان عليه اليهود إلى حد ما، هذا إلى أن اليهود أنفسهم إنما كانوا ينظرون إلى العرب على أنهم من ولد إسماعيل، وبما أنهم -أي اليهود- من ولد إسحاق، فهم جميعًا إذن من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام، وبالتالي فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة من قربى، هذا فضلا عن أن أمر هروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم إليه أمر سهل ميسور، فالأرض واحدة وهي متصلة، والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد مانع يمنع اليهود، أو غير اليهود، من دخول الحجاز، ولا سيما أن اليهود كانوا خائفين، فارين بأنفسهم من فتك الرومان، وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز.
غير أن الهجرة الحقيقية إنما كانت بعد الثورة اليهودية ضد الرومان، ثم إخماد هذه الثورة بأشد العنف وأقسى أنواع التدمير على يد "تيتوس" في عام 70م، حيث دمرت المدينة المقدسة، وأحرق المعبد اليهودي الذي بناه "هيرودوس" إحراقًا تامًّا، حتى أن القوم نسوا بعد حين من الدهر، إن كان المعبد قد بنى على التل الشرقي أو الغربي من أورشليم، وحتى أن محاولة بنائه -اعتمادًا على وصف التوراة له- قد فشلت نهائيًّا، كما منع بقية السكان من مجرد الاقتراب من أورشليم، ومن ثم فقد هاجرت مجموعات من السكان إلى بلاد العرب، ووصلت إلى يثرب.
غير أن الثورة سرعان ما تجددت مرة أخرى على أيام هدريان، فيما بين عامي 132، 135م، وانتهت الثورة إلى القضاء تمامًا على اليهود، ككيان سياسي في فلسطين، وتغير اسم المدينة المقدسة "القدس" إلى "إيليا كابتيولينا" وتحول المعبد اليهودي إلى معبد لإله الرومان "جوبيتر"، ثم بيعت النساء اليهوديات كإماء، وضاع اليهود في غياهب التاريخ، وسرعان ما فر -من أسعده الخظ فنجا- إلى مكان يحتمي به من غضبة الرومان القاسية، وكان من هؤلاء المحظوظين فريق من يهود وصلوا إلى يثرب، وكان هؤلاء -إلى جانب من وصلوا بعد تدمير القدس على يد تيتوس- هم الذين كونوا الجالية اليهودية في شمال الحجاز، وفي يثرب بصة خاصة، وزاد عددهم بمرور الزمن، حتى إذا ما ظهر الإسلام كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود، هذا وهناك في الحجر، وفي مواضع أخرى من أرض الأنباط، كتابات نبطية، يرجع بعضها إلى القرن الأول الميلادي، وبعضها الآخر إلى القرن الرابع الميلادي، وردت بها أسماء عبرية تشير إلى أن أصحابها من يهود.
وتؤيد المصادر العربية هذا الاتجاه، فتذكر أنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام فوطئوهم ونكحوا نساءهم، خرج بنو النضير وبني قريظة وبنو هدل "بهدل" هاربين إلى من بالحجاز من يهود، فلما فصلوا عنهم بأهليهم اتبعهم الروم فأعجزوهم، وهلك جند الروم في المفاوز والصحاري الخالية من الماء، وهذه الروايات مأخوذة عن يهود المدينة أنفسهم، ثم أخذت جموع اليهود في الجزيرة العربية تزداد وتكثر بعد اضطهاد الروم لهم، ثم قصد بنو النضير وقريظة منطقة يثرب، وارتادوا حتى تخيروا أخصب بقاعها فسكنوها.
وهكذا سكنت جاليات يهودية منطقة يثرب، والطرق المؤدية إلى الشام، وإن تركزت كتل اليهود الكبرى في يثرب بالذات، حيث كان فيها ثلاث قبلائل، ربما بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين، وهي قينقاع، والنضير وقريظة، إلى جانب بطون وعشائر يهودية أخرى، ذهب الأخباريون إلى أنها بلغت أكثر من عشرين بطنا، منهم بنو عكرمة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو الشظية وبنو جشم وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص "العصيص" وبنو ثعلبة.
هذا وهناك من يرجع بنسب بني النضير وبني قريظة إلى طبقة الكهان -سلالة هارون عليه السلام- وأما بقية يهود بلاد العرب، فبعضهم يرجع إلى نفس طبقة الكهان، وبعضهم الآخر إنما ينتمي إلى نسل الأسباط العشرة المفقودة.
غير أننا لا نستطيع أن نوافق على هذا الاتجاه، ذلك لأن الأسباط العشرة -والذين كانت تتكون منهم دويلة إسرائيل التي قامت عقب انفصال الدولة عشية موت سليمان في عام 922ق. م، إلى إسرائيل وعاصمتها السامرة، ويهوذا وعاصمتها أورشليم- إنما ضاعوا في غياهب التاريخ بعد الاحتلال الآشوري للسامرة في عام 722ق. م، ثم قيام سرجون الثاني بتهجير أكثرهم إلى مناطق أخرى من الإمبراطورية، ثم أتى بقبائل أخرى من بابل وعيلام وسورية وبلاد العرب، لتحل محل الإسرائييلين المسبيين، ثم أسكنهم في السامرة ومجاوراتها، ومن هذا الخليط الجديد ظهر في التاريخ ما سمي "بالسامريين".
وهكذا وضع سرجون الثاني نهاية لكيانهم كأمة، وأنهى وجود الأسباط العشرة كدولة، ولم يقدر لهم العودة مرة أخرى إلى المنطقة التي أخذوها غيلة واغتصابا من أصحابها، ثم سرعان ما اندمجوا مع غيرهم من السكان الأصليين في المناطق التي أجبروا على الإقامة فيها، وليست هنا أية إشارة على أن بلاد العرب كانت ضمن هذهه المناطق وإن ذكرت نصوص العاهل الآشوري أن من بين من أتى بهم إلى السامرة قبائل من بلاد العرب -كما أشرنا من قبل- فهل أتى سرجون بجزء من الأسباط العشرة في مكان هؤلاء المهجرين من بلاد العرب؟ هذا ما سكتت عنه النصوص تمامًا، ومن ثم فإننا لا نستطيع القول بأن بعضًا من يهود بلاد العرب كانوا من الأسباط العشرة.
وعلى أي حال، فإن فريقًا من المؤرخين إنما يذهب إلى ن يهود بلاد العرب، إنما هم عرب تهودوا، وإن لم يكونوا مزودين بمعلومات كافية في التوحيد، وأنهم لم يكونوا خاضعين لقانون التلمود كله، حتى أن بعضًا من يهود دمشق وحلب في القرن الثالث الميلادي أنكروا عليهم يهوديتهم، وإن كانوا مع ذلك شديدي التمسك بدينهم.
هذا ويذهب فريق من المؤرخين إلى أن بني النضير وبني قريظة فرعان من قبيلة جذام العربية، تهودوا وسموا باسم المكان الذي نزلوا فيه، وطبقًا لرواية الأخباريين، فإن "جبل بن جوال" من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، قد تهود هو وقومه، وعاش مع بني قريظة، حتى ظهور الإسلام، ثم هداه الله إلى الدين القويم فأسلم.
ويكاد يجمع المؤرخون على أن يهود بلاد العرب إنما هم من يهود فلسطين، وأنهم تركوها فيما بين عامي 70، 135م2، كما أشرنا من قبل -ويذهبون إلى أن يهود بني النضير وبني قريظة من نسل هارون، وأن بقية البطون اليهودية من أسباط بني إسرائيل الأخرى، وأن يهود خيبر من نسل "يهونا داب بن ركاب، وأنهم قد هاجروا إلى خيبر بعد خراب الهيكل الأول في عام 586ق. م، ثم بقوا فيها حتى عهد الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" "13-23هـ-634-644م"، وأن كلمة "خيبر" كلمة عبرانية بمعنى الطائفة والجماعة، وبمعنى الحصن والمعسكر، وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الأخباريون، وإن نسبوها إلى رجل دعوه "خيبر بن قانية بن مهلاثيل"، رأى فيه البعض "شفطيا بن مهللثيل" من بني فارص، على أن هناك من يفسرها بمعنى مجموعة من المستوطنات، وإن رأى أن اللفظة عبرية.
على أن الاستدلال ببحث لغوي على جنسية يهود بلاد العرب، طبقًا لما تشير إليه الأسماء التي يحملها اليهود -قبائل وأفرادا- لا يمكن أن يعتد به ويعول عليه، فمن الحق أن بعض أسماء القبائل اليهودية عربية محضة، ولكنها لا تدل على أنها عربية الجنس، إذ يمكن أن تكون جموع اليهود التي هاجرت إلى بلاد العرب، قد اتخذت أسماء الأماكن التي نزلت بها أسماء لها، بل إن الواقع إنما يدلنا على أن اليهود كانوا قد تركوا منذ أمد طويل الانتساب إلى قبائلهم، وأصبحوا يعرفون بأسماء القرى والأقاليم التي جاءوا منها، فكان يقال فلان الأوشليمي أو فلان الحبروني.. وهكذا، ومن ثم فالطريقة المثلى -فيما يرى إسرائيل ولفنسون- إنما هي النظر في الأخلاق والتقاليد، واتجاه الأعمال والأفكار، وهنا فسوف نجد أن يهود بلاد العرب يهودا أكثر منهم عربًا، هذا إلى جانب أن فكرة إقامة الحصون والآطام على قمم الجبال في شمال بلاد العرب، إنما أتى اليهود بها من فلسطين، حيث تكثر هناك الحصون المنيعة في الجبال.
أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم إنما وجه الخطاب إلى اليهود بتعبير "بني إسرائيل"، ونعي عليهم مسلك اليهود الأقدمين مع موسى والأنبياء من بعده، وما كان منهم من تعجيز وإحراج وكفر وتكذيب وغدر، ونقض للشرائع وتحريف للكلام عن مواضعه، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وذلك في صدد التنديد بموقفهم من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وفي كثير من الآيات جعل اليهود المعاصرين والقدامى موضوع خطاب وسياق وسلسلة واحدة، حيث يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل أو إلى اليهود بصيغة المخاطب القريب، فيقص ما كان من الأقدمين وما كان من المعاصرين بأسلوب يرجح أن المقصود به تقرير الصلة النسبية بين هؤلاء وأولئك، وربط ما بدا من أخلاق المعاصرين ومواقفهم بما كان من أخلاق القدماء، كأن الجميع يصدرون عن جبلة واحدة وأخلاق متوارثة، وإذن: فتوجيه الخطاب في القرآن الكريم إلى يهود يثرب بـ"بني إسرائيل" يسوغ الترجيح، بل الجزم، بأن اليهود الذين كانوا في الحجاز، بصفة عامة، هم نازحون وأنهم إسرائيليون، وأنهم ليسوا قبائل عربية تهودت، وإن كان هناك عرب تهودوا، فإنهم لم يكونوا جماعة محسوسة، وليسوا إلا أفرادا.
على أنه يجب ألا يفهم من هذا كله، أن كل يهود بلاد العرب من أصل يهودي، فهناك الكثير من العرب المتهودين، ولا سيما القبائل اليهودية المسماة بأسماء عربية أصيلة، لها صلة بالوثنية، مما يدل على أنها إنما كانت وثنية قبل أن تتهود، وهناك الكثير من البطون العربية التي تهودت3، فقد تهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام، وقوم من "بلى"، فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن المرأة المقلات في الجاهلية كانت تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، ومن ثم فقد تهود بعض منهم، فلما جاء الإسلام أراد الأنصار إكراه أبنائهم عليه، فنهاهم الله عن ذلك2، حيث يقول سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} ، كما أن اليهود قد عملوا على التبشير بدينهم بين العرب إلى حد ما.
2- العرب:
يروي الأخباريون أن القبائل العربية -من أوس وخزرج- قد هاجرت من اليمن إلى يثرب على إثر حادث حادث سيل العرم، وهناك في يثرب وجدت تلك القبائل أن الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، فضلا عن العدد والقوة، فأقام الأوس والخزرج مع اليهود، وعقدوا معهم حلفا يأمن من بعضهم إلى بعض، ويمتنعون به ممن سواهم.
وهكذا فإن هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، إنما كانت -طبقًا لرواية الأخباريين- بسبب سبل العرم، الأمر الذي لا يمكن تحديد زمنه بسهوله؛ ذلك لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات، خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده في منتصف القرن السابع ق. م- وربما الثامن ق. م- وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543م، على أيام أبرهة الحبشي طبقًا لما جاء في نصي "جلازر 618" و"Cih 451"، إذ أن هناك عدة إشارات إلى تهدم السد وإصلاحه، منها ما حدث على أيام "شمر يهرعش"، ومنها ما حدث على أيام "ثاران يهنعم" عندما تهدم السد عند موضع "حبابض" و"رحبتن"، وأن القوم قد كتب لهم نجحا كبيرًا في إصلاحه.
ولعل التهدم الذي حدث على أيام "شرحبيل يعفر" في القرن الخامس الميلادي، إنما كان واحدًا من أشد تهدمات السد خطورة، لأن آثارة تعدت الآثار الجانبية، إلى هروب سكان المنطقة إلى الهضاب والجبال، ثم هجرتهم من هذه المنطقة إلى أرضين أخرى، ربما لأنه كان بسبب كوارث طبيعية، كالزلازل والبراكين، وليس لمجرد سقوط أمطار غزيرة، ومع ذلك فقد نجح القوم بعد كل هذا في تجديد بناء السد وترميمه، على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن حفر مسايل للمياه، وبناء القواعد والجدران، كما أشرنا من قبل، وقد تم ذلك في عام 449/ 450م، وأخيرًا ذلك التهدم الذي كان على أيام أبرهة الحبشي.
وهكذا يبدو بوضوح أن تحديد تاريخ معين لخراب سد مأرب، وهجرة القبائل العربية من اليمن إلى وسط بلاد العرب وشمالها، أمر لا يمكن -على ضوء معلوماتنا الحالية- أن نقول فيه كلمة نظن أنها القول الفصل، أو حتى قريبًا من هذا القول، وأن الأمر ما يزال في مرحلة الحدس والتخمين، حتى تقدم لنا الأرض الطيبة في اليمن أو في غيرها، ما ينير أمامنا الطريق.
وأما الروايات العربية، فإن بعضًا منها إنما يشير إلى أن ذلك إنما قد حدث قبل الإسلام بأربعة قرون، بينما يشير البعض الآخر إلى أن تلك الهجرات إنما تمت في القرن الخامس الميلادي، وعلى أيام "حسان بن تبان أسعد"، علي أن هناك فريقًا ثالثًا إنما يقترح أخريات القرن الرابع الميلادي، معتمدا في ذلك على نسب "سعد بن عبادة الخرزجي"، وجعله مقياسا للزمن الذي ربما تكون الهجرة تمت فيه، فنسب سعد -طبقًا لرواية النسابين- إنما هو "سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخرزج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة"، فمن سعد إلى الخزرج الأكبر أحد عشر جيلا، وإذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة وعشرين عامًا، كانت المدة بين الهجرة النبوية الشريفة "في عام 622م"، وبين الخزرج الأكبر، حوالي مائتين وخمسين وسبعين سنة، أي أن هجرة الأوس والخزرج، ربما كانت في أخريات القرن الرابع، هذا ويحدد "سديو" هذه الهجرة بعام 300م، ثم الاستيلاء على المدينة في عام 492م.
وأما أن تهدم السيل كان بسبب "جرذ" له مخالب وأنياب من حديد4، فتلك أساطير لا تدور إلا في رءوس أصحابها، ومن ثم فهي لا تعرف نصيبًا من صواب، أو جانبا من منهج علمي، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" كما أن "كيتاني" قد جانبه الصواب كثيرًا حين ظن أن خراب سد مأرب، إنما كان بسبب الجفاف الذي أثر على السد، بل إن ضغط الماء على جوانب السد، ثم حدوث سيل العرم، إنما هو في حد ذاته لدليل على فساد نظرية الجفاف هذه5، فضلا عن معارضتها لما جاء في القرآن الكريم عن حادث السيل هذا.
على أن المؤرخين إنما يشككون كثيرًا في أن يكون السيل وحده هو سبب هجرة الأوس والخزرج؛ ذلك لأن السد إنما كان يسقي ربوة من الأرض لم تكن مسكنا لكل بطون الأزد، ومن ثم فإنه يصبح من الصعب أن نتقبل القول، بأن جميع البطون الأزدية قد هاجرت إلى شمال شبه الجزيرة العربية بسبب انهيار السد وحده، وإنه لمن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى تعاونت مع سيل العرم، واضطرت بعض هذه البطون إلى ترك وطنها مهاجرة إلى الأرجاء النائية.
ولعل أهم هذه الأسباب إنما هو ضعف الحكومة، ثم تحول الطرق التجارية، فضعف الحكومة في اليمن أدى إلى تزعم سادة القبائل والرؤساء، وانشقاق الزعامة في البلاد، فضلا عن المشاحنات الدينية بين أتباع النصرانية وأتباع الموسوية في اليمن، وزاد الطين بلة أن صاحب تلك القلاقل الداخلية تدخل الحبشة ثم الفرس في شئون اليمن الداخلية، وكان نتيجة ذلك كله اضطراب الأمن في البلاد، وظهور ثورات داخلية وحروب، كما تدلنا على ذلك نقوش النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بواجباتها، مما أدى إلى إهمال السد، ومن ثم فقد تصدعت جوانبه، وكان السيل الذي أغرق مناطق واسعة من الأرض الخصبة، التي كان القوم يعتمدون عليها في حياتهم الاقتصادية، فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن اليمن لم تصبح في تلك الفترة صاحبة السيادة على الطرق التجارية، كما أنها لم تعد الوسيط الوحيد في نقل التجارة إلى المناطق الشمالية، بل ربما لم يعد دور اليمن -بعد سيطرة الرومان على البحر المتوسط ونقل تجارة الهند عن طريق هذا البحر، فضلا عن ظهور القرشيين وقيامهم برحلتي الشتاء والصيف المشهورتين، إلا دورا ثانويا، وهكذا تجمعت العوامل السياسية والاقتصادية معا على إهمال الزراعة وكساد التجارة، مما دفع بقبائل عربية غير قليلة إلى الهجرة إلى بلاد العرب الشمالية، وكان من بين المهاجرين الأوس والخزرج.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القول بأن قبائل الأزد هاجرت دفعة واحدة، أمر غير مقبول؛ ذلك لأن خزاعة -وهي بطن من الأزد- كانت لا تزال تحكم مكة حوالي عام 450م، وكانت قد استمرت مدة طويلة تلي هذا الأمر- رأى البعض أنها حوالي ثلاثة قرون، ورأى آخرون أنها خمسة قرون- وهذا يعني أنها هاجرت من اليمن حوالي منتصف القرن الثاني، وربما منذ القرن الثالث، في عام 207م.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن الأخباريين يذهبون إلى أن الأوس والخزرج أخوان، فهما أبناء "حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق، بن ثعلبة بن مازن بن الأز"، الذي ينتهي نسبه إلى "يعرب بن قحطان"، ولكن القوم إنما كانوا ينسبون إلى أمهم "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، ولهذا كانوا يدعون "أبناء قيلة"، مما يدل على أن هذه المرأة إنما كانت تتمتع بشهرة عريضة، دفعتهم إلى الانتساب إليها.
وعلى أي حال، فلقد أقام الأوس والخزرج في المدينة، وربما لم يكونوا في أول الأمر يملكون من القوة وكثرة العدد، بحيث يخشى اليهود بأسهم، هذا ويبدو أن اليهود قد عملوا على الإفادة من خبراتهم التي اكتسبوها منذ فترة طويلة، في مجال الزراعة والتجارة في مواطنهم القديمة في اليمن، ومن ثم فقد سمحوا لهم بالإقامة في مجاوراتهم، إلا أن وجود الثروة والسلطان في أيدي اليهود جعل الأوس والخزرج يعيشون حياة قاسية، ومن ثم فقد كان الواحد منهم، إما أن يعمل في مزارع يهود، وإما أن يستغل خبرته السابقة في الزراعة، فيعمل في أرض لا تنتج الكثير من الغلات، لأنها في غالب الأحايين إنما كانت أرض موات تركها اليهود، وفي كلا الحالين فقد كان القوم غير ميسر عليهم في الرزق.
وما أن يمضي حين من الدهر، حتى استطاع أصحابنا من أوس الخزرج وخزرج أن يكونوا أصحاب مال وعدد، حتى أن يهود بني قريظة والنضير أحسوا أنهم لو تركوهم على حالهم هذا، فقد يشكلون في وقت قريب خطرا، قد يهدد مصالح يهود في المدينة، وربما قد يهدد القوم أنفسهم، ومن ثم فقد "تنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان، من بني سالم بن عوف بن الخزرج، فكان سببًا في أن يسود الحيان، الأوس والخزرج".
وهنا تجنح المصادر العربية إلى رواية -علم الله- أننا ما كنا براغبين في التعرض لها، لولا أنها -وأمثالها- قد تكررت بصورة أو بأخرى في مواضع وأزمنة مختلفة، وفي مراجع لها من القيمة مالها عند الناس، ورغم ذلك فهي لا تتعارض مع المنطق والتاريخ فحسب، ولكنها تتعارض كذلك مع العادات والتقاليد العربية التي يعترف الأعداء بها قبل الأصدقاء، والمخالفون قبل الموافقين، فضلا عن الحاقدين والمتشككين في كل خلة عربية كريمة.
تزعم المصادر العربية -دون غيرها من المصادر، حتى اليهودية- أن واحدًا دعوه "الفيطون" "الفطيون أو الفطيوان" كان ملكًا على يهود في يثرب، وأنه كان جبارًا عشوما، فاجرا فاسقا، حتى أن المرأة من الأوس والخزرج- وكذا من اليهود في بعض الروايات- كانت لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه أولًا، فيكون هو الذي يفتضها، ثم إن أختا لابن العجلان -دعوها فضلاء- قد تزوجت برجل من قومها، فلما كان يوم زفافها، خرجت على مجلس قومها، وفيه أخوها مالك بن عجلان، فكشفت عن ساقيها، فغضب مالك، ولكنها ردت عليه إن "الذي يراد بي الليلة من هذا، أدخل على غير زوجي"، وهنا أضمر مالك في نفسها أمرًا، أسر إلى أخته.
وهكذا ما أن ذهبت النسوة بفضلاء إلى الفيطون، حتى كان مالك معهن في زي امرأة، وانتظر هناك في مخدع العروس، حتى خرجت النسوة ودخل الفيطون، فما أن أراد أن يقضي من فضلاء وطره، حتى صرعه مالك بسيفه فأرداه قتيلا، ثم ولي هاربًا إلى الشام، مستنجدًا بأبي جبلة ملك غسان، الذي أسرع بنجدته، فأقبل في جيش كثيف من الشام، حتى إذا ما وصل يثرب، نزل "بذي حرض".
وبدأ يكتب ليهود يتودد إليهم ويدعوهم لزيارته، حتى إذا ما لبوا دعوته انقض عليهم وقتلهم، ثم قال للأوس والخزرج "إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء لأحرقنكم"، ثم رجع إلى الشام، ومنذ ذلك اليوم بدأت كفة العرب ترجح على يهود، وأصبح الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فتفرقوا في عالية يثرب وسافلها يتبوؤن منها حيث يشاءون، واتخذوا الديار والأموال والآطام، غير أن يهود ما لبثت غير قليل حتى بدأت تعترض الأوس والخزرج وتناوشهم، فرأى مالك أن الغلبة لم تكتمل لهم بعد على يهود فكادهم كيدًا شبيها بكيد أبي جبلة، وقتل منهم من قتل، فذلوا وقل امتناعهم، وضاع سلطانهم على الأرض، وأخذوا يصورون مالكًا في بيعهم وكنائسهم في صورة شيطان رجيم، يلعنونه كلما دخلوا هذه البيع وكلما خرجوا منها، فضلا عن ذكره في شعرهم في أقبح هجاء قالوه.
ولعل من الأفضل هنا أن نناقش هذه الروايات، على أنها تتكون من شقين.
الواحد يتصل بقصة الفيطون، وعرائس يثرب العربيات، والآخر يتصل بغلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب.
وقد اختلفت الآراء في الرواية الأولى، فذهبت جمهرة من المؤرخين على رفضها، فالدكتور إسرائيل ولفنسون يذهب إلى أن القصة ملفقة، معتمدًا في ذلك على أدلة، منها
"أولًا" أن أصحابها لم يكن لهم إلمام كاف بحياة العرب في الجاهلية، بل كانوا يعتبرونهم متوحشين همجيين لا يعرفون من النظم الاجتماعية شيئًا، ولا يفهمون من الآداب قليلا ولا كثيرًا، ولا ينقادون إلا لما يدعو إليه الخرق والسفاهة، ولا شك أن قولا كهذا ليس إلا طعنًا فاحشًا في قبائل العرب في الجاهلية، وإنكارًا شنيعًا لما هو معروف عنهم من الأنفة والغيرة وإباء الضيم والشجاعة والبسالة، إلى حد التضحية بكل شيء في سبيل العرض وحفظ الشرف والكرامة.
"ثانيًا" أن يهود الحجاز إنما كانوا أصحاب دين سماوي يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي جريمة منكرة كهذه تناقض روح التوراة وتخالف الإيمان بإله موسى، دون أن يجد مقاومة عنيفة وإنكارًا شديدًا من شعبه وأبناء جلدته.
"ثالثًا" أنه لم يوجد في المدينة ملوك من يهود.
"رابعًا" أن الطبري يذكر قصة تشبه هذه عن طسم وجديس.
"خامسًا" أننا لا نجد صلة بين هذه القصة وبين "يوم بعاث" الذي جاء بعدها، بل على العكس من ذلك، فإننا نستطيع أن نستنتج- اعتمادًا على الأخبار التي وصلتنا عن يوم بعاث- أن اليهود كانوا متمتعين بجميع حقوقهم السياسية والاجتماعية، وكانت مزارعهم وأموالهم وآطامهم كاملة غير منقوصة.
ويخلص الدكتور إسرائيل ولفنسون من ذلك كله إلى أن الباعث على اختلاق هذه القصة وتلفيقها، إنما هو محاولة إخفاء الحقيقة في حادثة غدر ابن عجلان، بدليل أن ابن هشام، والواقدي، وصاحب الأغاني، قدموا أسبابًا أخرى -غير حادث الفطيون- لتغير الأحوال بين العرب واليهود في المدينة، ومن ثم فالقصة -في رأيه- لا تعدو أن تكون واحدة من الخرافات عند أمم الشرق في قصصهم وتواريخهم.
وذهبت قلة من المؤرخين -ومنهم الدكتور عبد الفتاح شحاتة- إلى أن القصة حقيقية، وأن حكم الدكتور ولفنسون عليها بالخرافة والتلفيق ليس عجبًا، فاسمه يغني عن التعريف به، وإنما العجيب حقًّا محاولته إخفاء التاريخية من أخلاق اليهود والعرب، ثم يقدم أدلة على صحة رأيه، منها:
"أولًا" أن العرب من أوس وخزرج لم يسكتوا على هتك الأعراض وثلم الشرف، ودبروا الخطة للتخلص من الفيطون وقتلوه دفاعًا عن شرفهم، وإذا كانوا قد رضوا بالسكوت على العار حينًا من الدهر، فإنما كان ذلك تحت جبروت الملك وبطش السلطان، ويشهد لذلك أن مالكًا لما هم بقتل الملك لم يتمكن من ذلك علانية، بل تنكر في زي النساء.
"ثانيًا" أن كون دين اليهود ينهي عن الفحشاء والمنكر، لا يمنع من أن يخرج على تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق الفاضلة من يتبع هواه ويركب رأسه، ثم هل كل من يعتنق دينًا ينهى عن الفحشاء منزه عن الإثم والخطأ؟
"ثالثًا" أن رواية الطبري وغيره عن أمثال هذه القصص ليست دليلا على أنها من الأساطير، وقد تكون من العادات التي شاعت في تلك العصور الأولى عند الملوك والرؤساء، ثم يتساءل الدكتور شحاتة بعد ذلك عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق قصة الفيطون؟ ثم يجيب بعد ذلك عن تساؤله: بأنه إذا كان المراد منها إخفاء غدر مالك بجيرانه اليهود، كما يزعم ولفنسون، فذلك أمر بعيد، فمالك ليس قديسًا من القديسين، بل رجل جاهلي، الظلم عنده قوة، وسفك الدماء بطولة وشجاعة.
ولعل أفضل ما نفعله في موقفنا هذا أن نناقش حجج الطرفين -قبل أن ندلي بدلونا في القصة- حتى نتبين في كل منها موقف القوة والضعف، فضلا عن جانب الخطأ والصواب، بخاصة وأن الطرفين يمثلان اتجاهين مختلفين، لا التقاء بينهما، فالأول إسرائيلي يهودي، والثاني عربي مسلم.
يرى الدكتور إسرائيل ولفنسون أن أخلاق العرب تتعارض وقصة الفيطون، وهو أمر لا نشك فيه لحظة واحدة، وأن اليهود لم يكن لهم ملوك في يثرب، وتلك حقيقة أخرى نوافقه عليها تمامًا، كما نوافقه كذلك على أن قصة الفيطون تشبه إلى حد كبير قصة طسم وجديس -كما رواها الطبري- وعلى أن يهود كانوا أصحاب دين سماوي ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي.
غير أننا نختلف معه تمامًا أنه ليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي ما يناقض روح التوراة، دون أن يجد مقاومة عنيفة من اليهود أنفسهم، وسوف نحتكم إلى التوراة نفسها التي يحتج بها الدكتور ولفنسون، لنرى رأيها فيما تعرض له ولن نلجأ إلى الغزل المكشوف فيها، الذي ينتمي إلى مدرسة "عمر بن أبي ربيعة" وإلى كل مدرسة غزلية إباحية لا تهتم إلا بالجسد وحده، كما أننا لن نلجأ إلى ما جاء في التوراة -المتداولة حاليًّا- من تهم بذيئة ألصقتها بالمصطفين الأخيار، والتي تتصل بمثل هذه الأمور، ولكننا سوف نقدم بعض الأدلة المحدودة.
تقول توراة اليهود -المتداولة اليوم، وليست توراة موسى بالتأكيد- أن راؤبين بكر إسرائيل، قد زنى ببلهة، زوج أبيه يعقوب وأم أخويه دان ونفتالي، ولم تحدثنا التوراة عما فعل يعقوب وبنوه إزاء تلك الجريمة النكراء، حتى أننا لا ندري سببًا مقبولا أو غير مقبول لسكوتها، هذا إلى جانب مأساة أخرى تسجلها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- تذهب فيها إلى أن يهوذا- رابع أبناء يعقوب- قد زنى بزوجة ابنه "ثامارا"، وموقف التوراة هنا، هو موقفها في القصة الأولى، رغم أن نصوصها صريحة، في أنه "إذا اضطجع رجل من امرأة أبيه، فقد كشف فقط كشف عورة أبيه، إنهما يقتلان، وكلاهما دمهما عليهما"، وأنه "إذا اضطجع رجل مع كنته "زوجة ابنه" فإنهما يقتلان كلاهما، فقد فعلا فاحشة، دمهما عليهما"، وأخيرًا فإن التوراة التي حرمت الزنا في الوصايا العشر، هي نفسها التوراة التي تصمت تمامًا عن زنى "راؤيين" بزوج أبيه، وزنى "يهوذا" بزوج ابنه، وهي نفسها التي تمجد الفتاة اليهودية "أستير" على ما ارتضته من أن تكون محظية الملك الفارسي وعشيقته، ما دام في ذلك تحقيق لمصلحة مبتغاة، بل لقد وصل هذا التمجيد بالتوراة إلى أن تفرد لها سفرًا خاصًا من أسفارها، هو سفر أستير.
وتلك مأساة ثالثة ترويها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- حين تروي أن "أمنون" بن داود عليه السلام، قد أحب أخته "ثامارا" إلا أنه لم يستطع أن يشبع منها شهوته، لأن الفتاة إنما كانت عذراء، ومن ثم فإنه يلجأ إلى إعمال الحيلة، وبمشورة ابن عم لهما، حتى تصل الفتاة إلى مخدعه، فيراودها عن نفسها، فترفض، ومع ذلك فإنها تقترح عليه أن "كلم الملك فإنه لا يمنعني منك"، ولكن أمنون يأبى إلا أن ينالها اغتصابًا، وليت الأمر اقتصر على ذلك -وما أشنعه وأخزاه- بل إن أمنون بعد أن ينال وطره منها، يأمر خادمه أن يطردها ويقفل الباب من ورائها، وهنا لا تملك الفتاة المجروحة إلا أن تهيل التراب على رأسها، ويسمع أبوها بالمأساة فيغضب، ولكن غضبه لا يمتد إلى عقاب الجاني، مما اضطر شقيقها "أبشالوم" إلى أن يثأر لعرضها، فيقتل أمنون، غير أنه سرعان ما يتجاوز كل حدود الشرف، فيثور على أبيه وينتزع منه عرشه، ثم لا يتورع عن أن ينتهك عرضه على مرأى من عامة القوم، وفي خيمة نصبت له على سطح بيت أبيه.
ولعل الدكتور إسرائيل ولفنسون لا ينسى ما جاء في توراة يهود بشأن قصة داود، و"بتشبع" امرأة أوريا الحيثي، وكيف تصور توراة قومه النبي الأواب، وقد قضى منها وطره، ثم دبر أمر قتل زوجها في ميدان القتال، ثم ضمها آخر الأمر إلى حريمه.
هذه أمثلة عن رأي التوراة فيما تعرض له "ولفنسون"، وهو رأي لا يسر على أي حال، ونحن نؤمن -الإيمان كل الإيمان- أن هذه الأكاذيب قد دستها طغمة باغية من يهود، ومن ثم فقد لعبت أصابع التحريف بتوراة موسى عليه السلام، وبالتالي فقد بعدت نسبتها إليه، فضلا عن أن تكون من لدن عَلِيٍّ قدير، فَجَلَّ اللهُ عما يقول المبطلون من بني إسرائيل ويفتري الظالمون من يهود، ومن ثم -والحال كما قدمنا، وفيها من النصوص ما رأينا -فلا يصح أن يتخذ منها "ولفنسون"، دليلا على أن من يرتكب جريمة تناقض روح التوراة، لن يجد من يهود، إلا كل المقاومة، وكل الإنكار، وانطلاقًا من هذا، فإن كذب رواية الفيطون، ليس لأن مرتكبها، يؤمن باليهودية ويقرأ التوراة، وإنما كذبها -فيما أرى- لأنها لم تحدث أصلا، وما أكثر ما ارتكب اليهود من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فضلا عن الشرف والكرامة.
ثم هناك التلمود -وهو في نظر اليهود يقف على قدم المساواة مع التوراة- يرى أن اليهودي إذا اعتدى على عرض الأجنبية لا يعاقب، لأن كل عقد نكاح- فيما يرى التلمود- عند الأجانب "أي الأمميين" فاسد؛ وذلك لأن المرأة غير اليهودية، إنما تعتبر بهيمة، والعقد لا يصح بين البهائم، ومن ثم فلليهودي الحق في اغتصاب النساء غير المؤمنات، أي غير اليهوديات؛ لأن الزنا بغير اليهود -ذكورًا وإناثًا- لا عقاب عليه؛ لأن كل الأجانب إنما هم من نسل الحيوان.
وهكذا يبدو بوضوح أن الاعتماد على كتب اليهود الدينية -سواء أكانت توراة أو تلمودًا- إنما تؤكد قصة الفيطون ولا تنفيها، وإنما يمكن نفيها- كما أشرنا من قبل- عن طريق دراسة أحوال العرب وتقاليدهم في تلك العصور الخالية، بل وفي كل عصور التاريخ قاطبة، وحتى يومنا هذا.
وأما الدكتور عبد الفتاح شحاتة فلم يقدم لنا في الواقع أدلة مقنعة تثبت هذه الرواية، وإنما أخذ أضعف مواقفها واتخذها حججًا له، فقتل الفيطون- كما جاء في القصة- لا يثبت شرفًا، ولا ينفي عارًا، وأما أن أمثال هذه القصة حدثت في أوربا في العصور الوسطى، ومن ثم فقد تكون عادة شائعة في تلك العصور القديمة عند بعض ملوك الشرق ورؤسائه، فليست حجة يحتج بها لإثبات قصة الفيطون وأمثالها، فليس هناك من شك في أن ما يحدث في بلد قد لا يحدث في بلد آخر، لاختلاف العادات والتقاليد، فضلا عن الظروف السياسية والاقتصادية، ولست أدري كيف قبل الشيخ الجليل أن يجعل تاريخ أوربا في عصورها الوسطى نموذجًا يحتذى عند بعض ملوك الشرق القديم ورؤسائه، والفرق بين العادات والتقاليد في المنطقتين كان -وما يزال- جد شاسعًا، بل إن أمور العرض حتى اليوم هذه قد يختلف الناس عليها في بلد واحد، وفي عصر واحد، فما أشد الخلاف حتى اليوم في كيفية معالجة هذه الأمور -خطأ أو صوابًا- في صعيد مصر، وفي غيره من أقاليم الكنانة.
وأما عن تساؤله عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق مثل قصة طسم وجديس وغيرها، فليس ذلك إثباتا لها، وما أكثر ما جاء في كتب المؤرخين من روايات لا تتفق مع المنطق والتاريخ، فضلا عن تعارضها في بعض الأحايين مع الخلق والدين، وليس من المنطق، فضلا عن التاريخ الصحيح، القول بأن كل ما جاء في كتب المؤرخين صحيح، لمجرد التساؤل عن الدوافع التي دعت إلى هذا القول أو ذاك، أو حتى عدم معرفة هذه الدوافع، وأخيرًا فنحن لسنا مسؤلين عن هذه الدوافع، فضلا عن الدفاع عنها.
والرأي عندي أن القصة مختلقة تمامًا؛ وذلك لأسباب منها:
"أولًا" أنها تتعارض مع حقائق التاريخ، تلك الحقائق التي لا تعرف لليهود في يثرب ملكًا، وبالتالي فليس هناك ملك يدعى الفيطون، وحتى لو وجد الشخص بذاته، فلا يعدو أن يكون رئيس قبيل، وفي أحسن الظروف زعيم يهود في يثرب، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض من أن كلمة "الفيطون" إنما تعني "ملك"، وأنها تقابل النجاشي عند الأحباش، و"خاقان" عند الأتراك.
"ثانيًا" أن تاريخ الغساسنة لا يعرف ملكًا باسم "أبي جبلة"، والذي يزعم الإخباريون أن "مالكان بن العجلان" قد لجأ إليه، يستنصره ضد يهود، ومرة أخرىن حتى لو عرف هذا الشخص بذاته، فربما كان واحدًا من المقربين لأمراء بني غسان، وإن صدقت "نسبة أبي جبلة" هذا إلى الخزرج، وأنهه رحل إلى الشام وأقام عند الغساسنة، فأكبر الظن أن الرجل قد أصبح واحدًا من رجال البلاط الغساني، وربما كان ذا مكانة عند ذوي قرباه.
"ثالثًا" أن بعضًا من المؤرخين -كالسمهودي- إنما ينكر هذه القصة، بل إن هذا الفريق من المؤرخين إنما يرى أن الفيطون كان يمارس هوايته الدنئية هذه في غير الأوس والخزرج، وعندا أراد ذلك مع بنات "بني قيلة" قتله مالك بن العلجان.
"رابعًا" أن بعضًا آخر من المؤرخين المسلمين -كابن هشان والواقدي والأصفهاني- إنما تجاهلوا الرواية تمامًا.
"خامسًا" أن الإخباريين لم يستقروا على رأي واحد، بشأن ذلك الذي لجأ إليه ابن العجلان، فبينما يذهب فريق إلى أنه "أبو جبلة"، كما رأينا، يذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان "تبع الأصغر بن حسان"- الذي رأوا فيه "أسعد أب كرب" أو "تبع بن حسان" -ملك اليمن، وليس ملك غسان.
"سادسًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين على جنسية الفيطون هذا، فهناك آراء ذهبت إلى أنه يهودي،كما أشرنا من قبل، بينما ذهبت آراء أخرى إلى أنه عربي، ومن اليمن كذلك، وأنه يدعي "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة"، وينتهي نسبه إلى "عمرو مزيقياء" .
"سابعًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين فيمن أرسله القوم إلى الشام، أهو "مالك بن العجلان" نفسه، أم هو شخص آخر دعوه "الرمق بن زيد بن امرئ القيس الخزرجي".
"ثامنًا" أن عنصر الخيلا قد لعب دورا في هذه القصة، ومن الغريب أن نقرأ قصصا -كقصة الفيطون- يرويها الإخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء وعمل المنكر بهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ -"بلقيس" صاحبة سليمان عليه السلام- وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي، وكلها تشبه قصة الفيطون، أضف إلى ذلك أننا نجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه الإخباريون، وما قصة الفيطون إلا واحدة من هذا القصص الذي تلعب الغرائز الجنسية فيه مكانة بارزة، على أن الشبه أكثر وضوحا بين قصة الفيطون هذه، وبين قصة "عملوق" ملك طسم، الذي كان يفعل بالعذارى من بنات جديس، ما يفعل الفيطون ببنات الأوس والخزرج، فضلا عن عذاري يهود.
"تاسعًا" أن الطريقة التي قدمتها الرواية عن قتل زعما يهود في "ذي حرض" طريقة ساذجة، لا تتفق وما عرف عن يهود من مكر وخداع ودسيسة، فضلا عن أن يهود إنما كانوا يتخذون دائمًا جانب الحذر والحيطة من الروم وعمالهم بسبب ما لاقوه من الروم الذين قضوا عليهم في فلسطين، ثم شردوا البقية الباقية منهم في جميع أنحاء الدنيا، بل إن وجودهم نفسه في يثرب لم يكن إلا بسبب الروم.
"عاشرا" أن القصة، كما يرويها الأخباريون، تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة، يمكن أن تفسر على أنها تسيء إلى الكرامة والشرف، فضلا عن تعارضها مع أخلاق قوم يصل بهم الحفاظ على العرض إلى ارتكاب أكثر الجرائم قسوة، حتى كان بعض منهم يلجأ إلى وأد بناتهم، خوفا من عار قد تجلبة هذه البنت أو تلك، إذا ما كبرت وتعرضت للسبي، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون}.
"حادي عشر" أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "فضلا" أمام قومها وقد كشفت عن ساقيها، فيغضب أخوها، وهنا تذكرة أخته بأمر هذه الليلة، وكيف أنها سوف تزف ليلة عرسها إلى غير زوجها، ومن ثم فإن مالكا إنما يتذكر شرفه وشرف قومه المستباح، فيغضب ويقتل الفيطون، وهذا يعني ببساطة أن القوم ما كانوا يأنفون من أن ينتهك الفيطون أعراضهم، ولكنهم يثورون أشد الثورة إذا ما بدت ساقا أخت مالك هذا، أمام بعض رجالات قومها، فهل هذا صحيح؟ ثم كيف استطاع اليهود أن ينزلوا بالعرب كل هذا الهوان، وفي وسط بلاد العرب، أي في عرين الأسد كما يقولون؟
وهل صحيح أن اليهود كانوا بقادرين في أي فترة من فترات التاريخ أن يفعلوا بالعرب ما تصوره قصة الفيطون؟ إن التاريخ يحدثنا -واليهود يشهدون بذلك- أن العكس هو الذي حدث، وأن كل شعوب المنطقة إنما فعلت ذلك باليهود، فالفراعين يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، والآشوريون والبابليون يأخذون نساء اليهود سبايا، بل إن انتهاك أعراض اليهود إنما تم في مصر وفي فارس برض من اليهود أنفسهم، ونقرأ في كتاب يهودي، أن الإسرائيلي الذي كان يريد الراحة في مصر يهب زوجته لمن يقوم عليه من المصريين، حتى تحمل منه فيردها لزوجها بحملها، ونقرأ في كتاب آخر، أن رؤساء العمل كانوا يأخذون النساء الإسرائيليات ليضطجعن معهن حتى يحبلن، فإذا حبلت المرأة اليهودية ترد إلى زوجها فتلد له ابنا ينسب إليه، وأما في فارس فما جاء في التوراة عن "أستير" ليس في حاجة إلى بيان، والأمر كذلك بما فعله الرومان ببنات يهود -طوعا أو كرها، ومن عجب أن يحدثنا التاريخ بكل هذا -ويقر اليهود به- ثم يأتي بعض مؤرخي المسلمين، فيجعلوا بنات يثرب العربيات متاعا مباحا لشخص- لا يدري التاريخ عنه شيئًا -دعوه الفيطون، ثم يأتي بعض المؤرخين المحدثين، فيجهدوا أنفسهم في إثبات تلك الأكذوبة، لا لسبب، إلا ليثبتوا أن مؤرخينا القدامى فوق الخطأ، وكأن تاريخ أمة يمكن أن يدنس، رغبة في إثبات أن مؤرخيها ما عرفوا الخطأ أبدًا.
"ثاني عشر" أن المرأة -وليس الرجل- في كل هذه الروايات، هي التي تأنف من العار، وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، فبلقيس سبأ تقول لقومها "أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته" و"عفيرة" جديس تقول:
لا أحد أذل من جديس .................................................... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعل حر ......................................... أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ............................................. نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ................................... ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه .................................... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ......................................... خلقتم لأثواب العروس وللنسل

و"فضلاء" يثرب تقول: "الذي يراد بي الليلة أشد من ذلك، أهدى إلى غير زوجي، فهل حقًّا كانت النساء تغير على العرض أكثر من الرجال؟ ثم وهل حقًّا هذا الحديث -نثرًا وشعرًا- قالته النسوة اللآتي أشرنا إليهن؟، أم أن الأمر كله لا يعدو أن يكون أسطورة من أساطير الأخباريين، ولكنها هذه المرة مؤلمة، أشد ما يكون الألم، حيث تجعل أعراض العرب مستباحة ليهود.
"ثالث عشر" أن الذين يذهبون إلى صحة هذه الروايات الكذوب، لا يعرفون أم مسألة العرض مسألة تتصل بنفس الأصول التي قامت عليها العصبية القبلية بالمعنى المفهوم القديم، باعتبارها عاملا دمويا حيويا، فأساس العصبية هو الرباط الدموي القائم بين الأفراد، وأساس العرض هو الحرص -كل الحرص- على ألا يدنس هذا الرباط الدموي بحال من الأحوال، ومن ثم فإن صيانة المرأة صيانة لعرض العشيرة كلها، بهدف الرغبة في الإبقاء على نقاء الدم فيها بعدم دخول غريب عليها مهما علا قدره، فما بالك إذا كان دخول هذا الغريب إلى دماء القبيلة ليس عن طريق الزواج، وإنما كان الاغتصاب وسيلته، وبأحط الطرق وأعنفها، وذلك بأن يقدم القوم ابنتهم بأنفسهم إلى هذا الرجل أو ذاك، ليفترعها أمام أعين أبناء القبيلة، وعلى مسمع من الشيبة والشبان فيها، فضلا عن الصبايا وذوات البعول.
"رابع عشر" هذا التشابه العجيب بين قصة الفيطون وقصة عملوق، فف كل منهما تنتهك أعراض القوم، حتى لا تهدى بكر إلى زوجها قبل أن تدخل على الفيطون أو عملوق فيفترعها، وفي كل من الروايتين للعروس أخ ذو حسب وجاه في قومه، يقتل الفاعل ثم يهرب إلى تبايعة اليمن، وإن ترددت قصة الفيطون بين ملوك اليمن وأمراءغسان، وفي كل من الروايتينن فإن المرأة هي التي تثور لشرفها، وتحرض الرجال من قومها على الانتقام لعرضها المستباح، وفي كل من الروايتين ينتهي الأمر بنصرة المظلومين عن طريق قوة تأتي من خارج القبيلة ... إلخ.
وسؤال البداهة الآن: والذي كان يجب أن يسأله لأنفسهم هؤلاء المتعصبون لصحة هذه الرواية وأمثالها، كيف قبل هؤلاء الإخباريون أن يجعلوا أعراض العرب مباحة لكل من يريدها؟ فمرة بينهم وبين بعضهم الآخر، كما في قصة بلقيس وقصة طسم وجديس، ومرة أخرى لعبد حبشي دعوه "عتودة"، ومرة ثالثة ليهودي دعوة الفيطون أو القيطوان، وليست واحدة من هذه الروايات لها ظل من حقيقة، حتى نقبلها على مضض، ثم نسدل الستار على هفوة في تاريخ العروبة المجيد، ولكن أن تكون الرواية مجرد زعم كذوب، ردده بعض الأخباريين في كتبهم، ثم جاء من بعدهم من تابعهم في هذا دون أدنى تمحيص أو تحقيق، وكذبه المؤرخون المحققون، وحتى الأعداء منهم، ثم يأتي بعض مؤرخينا في العصر الحديث فينبري للدفاع عن هذه الرواية المختلقة، فشيء آخر تمامًا، وكان الأولى بهم أن يسألوا أنفسهم: أيستحق تصديق مؤرخ -كائنا من كان- أن يسود تاريخنا المجيد من أجله، وأن نسلب الأسلاف العظام كل مقومات الشرف والكرامة، لتكون روايات الأخباريين تاريخًا صحيحًا، اللهم له، وألف لا.
وأما الشق الثاني من الموضوع: فهو غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب
وهنا فيما يبدو لي، فإن العامل الاقتصادي قد لعب دورا مهما فيما آلت إليه الأمور فيما بعد، وتقدم لنا المصادر العربية ما يشير إلى أن العرب في المدينة قد قبلوا الحياة القاسية في أول الأمر؛ لأنهم ما كانوا بقادرين على مجابهة اليهود، فلما اشتد ساعدهم وقويت شوكتهم، سرعان ما تطلعوا إلى وضع اقتصادي أفضل عن طريق مشاركة يهود في تملك الأرض الخصبة أو مغالبتهم عليها، وهناك رواية تذهب إلى أن "عمر بن النعمان البياضي الخزرجي" قال لقومه بني بياضه: "إن أباكم أنزلكم منزل سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل أو قتل رهنهم"، وهذا القول، وإن كانت المصادر العربية قد أوردته في ذكر "يوم بعاث" بين الأوس والخرزج، ومن حالف الطرفين من يهود، إلا أنه يعطينا فكرة عن اتجاه العلاقات العامة بين السكان في يثرب، وأن العامل الاقتصادي إنما كان هو الموجة لها.
على أن "إسرائيل ولفنسون" إنما يحاول أن يربط هذه الأحداث التي كانت تجري في يثرب، سواء أكانت بين اليهود والعرب، أو بين العرب أنفسهم، من أوس وخزرج، بالسياسة الدولية وقت ذاك، وبين الصراع الديني بين اليهودية والمسيحية، ويجعل من نكسة اليهود في حمير، سببًا في نكستهم في يثرب، وأن الدولة البيزنطية إنما كانت من وراء ذلك كله، فقضت على اليهودية في اليمن بعد حملة أبرهة المعروفة، والتي أدت إلى جعل اليمن مستعمرة حبشية، ثم دفعت بالغساسنة إلى التدخل في شئون يثرب، وتعضيد الأوس والخزرج ومناصرتهم ضد يهود.
وربما كان "ولفنسون" متأثرًا في هذا، بما ذهب إليه من قبل "جريتز" حين رأى أن الأوس والخزرج لم يصارحوا اليهود بالعداوة والمعصية إلا بعد النكبة التي حلت بيهود في اليمن، لأنه من غير المقبول -فيما يرى- أن يضطهد اليهود في الحجاز، في الوقت الذي كان فيه ملوك متهودون يسيطرون على اليمن ويتعصبون لدينهم، ويناهضون كل من يناهضهم أو يعتدي عليهم، أضف إلى ذلك أن مؤرخي العرب -كما أشرنا من قبل- يرون أن شمال الحجاز، إنما كان في شبه تبعية للحميريين، حتى أنهم كانوا لهم بمثابة الخلفاء الراشدين للمسلمين، ويضيف "كوسان ده برسيفال" أن واحدًا من الأسرة المالكة في اليمن كان يشرف على شئون الطوائف المختلفة في شمال الحجاز.
ويخرج "ولفنسون" من ذلك كله بأن البطون العربية بقيت في يثرب عصورا طويلة على موالاة اليهود ومناصرتهم، دون أن يظهر عليهم شيء يدل على أنهم يتربصون لهم الغوائل، إلى أن أخذت دولة غسان تنصب لليهود المكايد وتحرض عليهم زعماء الأوس والخزرج ليفتكوا بهم، وأن غسان إنما فعلت ذلك بإيعاز من الروم، الذين أرسلوا أسطولهم لمساعدة الحبشة في الاستيلاء على اليمن، والذين كانت لهم سياسة واضحة في شبه الجزيرة العربية أثناء القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد.
على أن المؤرخين المحدثين إنما يعارضون هذا الاتجاه، ويرون أن النزاع كان محليا بين العرب واليهود في يثرب، وأنه كان بسبب الظروف الاقتصادية، واعتماد السكان في المدينة على استثمار الأراضي الزراعية، ويقدمون على ذلك عدة أدلة، منها:
"أولًا" استمرار هذا النزاع بين الأوس والخزرج أنفسهم بعد تغلبهم على اليهود، واشتراك كل طوائف المدينة فيه تبعا لمصلحتها الاقتصادية.
"ثانيًا" أننا لا نستطيع تحديد تاريخ هذا النزاع، وهل كان بعد استيلاء الأحباش على اليمن، أم كان قبله؟، على أننا لو أخذنا بوجهة نظر "سديو" في أن سيادة الأوس والخزرج على المدينة إنما كانت في عام 492م، وما ذهبت إليه المصادر العربية من أن الحرب بين الأوس والخزرج قد استمرت مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام، وأن هذه الحرب لم تبدأ بين الحيين العربيين إلا بعد سيادتهم على المدينة، فإن الاتجاه الذي ذهب إلى أن هذه السيادة إنما حدثت قبل استيلاء الحبشة على اليمن، ربما كان أقرب إلى الصواب.
غير أننا سوف نواجه هنا بمشكلة موقف الحميريين أما القضاء على نفوذ أبناء دينهم في يثرب، وأكبر الظن عندي -إن صح هذا الأمر- أن ظروف اليمن الداخلية، وتهديدات الأحباش لها، ربما لم تمكنها من التدخل في هذا النزاع، أو أن الحميريين لم يروا معاداة العرب بتدخلهم ضد الأوس والخزرج -وهم في نفس الوقت من قبائل الأزد اليمنية- ومناصرة يهود الذين أصبحوا يرتبطون بهم برباط الدين.
"ثالثًا" أن العلماء يكادون يجمعون -كما أشرنا من قبل- أن أبا جبلة لم يكن ملكًا في غسان، وإنما كان زعيما من الخزرج عاش في البلاط الغساني، ومن ثم فإن نصرته للعرب -إن صحت الرواية، وهذا ما نشك فيه- لا تعني تدخل دولة بني غسان، إذ لو كان الأمر كذلك ما اقتصر التدخل على يهود يثرب، ولشمل الجاليات اليهودية ي خيبر ووادي القرى، فضلا عن تبوك وتيماء، ومن ثم فإن هذا العون ربما كان من نوع المحالفات القبلية، وربما قد حالف الأوس والخزرج وقت ذاك بطونا من بني غسان لمحاربة يهود، وأنه مجرد استنفار أمير خزرجي لنصرة ذوي قرباه، ويبدو هذا واضحًا في طريقة القضاء على زعماء يهود، الأمر الذي لا يدل على أن هناك جيشا غسانيا جاء ليحارب يهود يثرب وإنما هي فرقة على رأسها أبو جيلة، مما اضطره إلى استعمال الحيلة والمكر لتنفيذ خطته.
"رابعًا" أن الصراع لم يكن صراعا دينيًّا، وإنما كان صراعا اقتصاديا في الدرجة الأولى، وسياسيا في الدرجة الثانية، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه "فلهازون" من أن الكفاح بين النصرانية واليهودية في الحجاز كان عنيفا جدًّا، وأن غارات الفرس على حدود الإمبرطورية الرومانية أوقفت الملحمة الفاصلة لوقت ما، ولولا ظهور الإسلام لأصبحت بلاد العرب منقسمة دينيًّا إلى قسمين، يهودية ونصرانية، صحيح أن الدين كان وسيلة من وسائل الصراع الهامة، ولكن صحيح كذلك أن الإمبراطورية الرومانية لم تكن تعمل لقهرب اليهودية كدين، كما أن الفرس لم يكونوا يشجعونها لغرض ديني، وإنما كن الغرض سياسيا عند كلتا الدولتين، على أن علاقة اليهود لم تكن سيئة ببلاد الشام، بل إنها على الأرجح كانت حسنة، فكان بعض اليهود يرسلون قوافلهم التجارية إلى بلاد الغساسنة، فضلا عن أن يهود عندما أجلاهم المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- عن يثرب، إنما هاجروا إلى بلاد الشام، ولو كانت العلاقة بينهم وبين الغساسنة، أو الروم سيئة لا تجهوا إلى مكان آخر، كالعراق الذي كانت به جاليات يهودية، تحت سيادة الدولة الفارسية التي كانت تشجع اليهود في بلاد العرب.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن الغلبة في هذا الصراع إنما كانت من نصيب الأوس والخزرج، ومن ثم فقد أصبح لهم كيان سياسي في يثرب، يفوق ما كان لليهود فيها، ومن أسف أن القوم ما لبثوا أن أصيبوا بلعنة الصراع القبلي، وتحولت المنافسات التي كانت بينهم وبين يهود، إلى مشاحنات بينهم وبين بعضهم البعض الآخر، أدت في النهاية إلى قيام الحروب بين الحيين العربيين، لعبت فيها العوامل السياسية والتنافس على الزعامة في يثرب دورا كبيرا، هذا فضلا عن العوالم الاقتصادية والتي تتخلص في رغبة في كل من الفريقين في الاستيلاء على ما عند يهود، ثم حدث أن احتل الأوس بقاعا أخضب وأغنى من تلك التي احتلها الخزرج، في الوقت الذي كان الخزرج يتمتعون فيه بمركز الصدارة، لأن نصرة العرب، إنما جاءت على يد رجل خزرجي -هو مالك بن العجلان.
وهكذا كان الخزرج ينفثون على الأوس مكانتهم الاقتصادية، بينما كان الآخرين ينفثون على الأولين، مكانتهم السياسية، حدث هذا في وقت كانت فيه سياسة اليهود مع القبائل العربية إنما تقوم على الإيقاع بينها، وإثارة الأحقاد بين المتخاصمين منهم، كلما جنحوا إلى النسيان وتعاهدوا على الصلح والأمان، ومن ثم فقد عملت يهود في إذكاء روح التحاسد والتباغض التي بدأت تظهر في سماء العلاقات بين الحيين العربيين الشقيقين، حتى يشعلوا نارا، إن لم تقض على الأوس والخزرج معا، فعلى الأقل تشغل كل فريق بالآخر، وتنتهز يهود الفرصة استعدادًا لجولة قادمة، أو على الأقل الحفاظ على ما هي عليه.
وحققت يهود نجحا بعيد المدى فيما تريد، ودقت طبول حرب بين الفريقين، تناوب فيها الأوس والخزرج النصر والهزيمة، وكان من أهمها ما عرف بحرب سمير، وحرب كعب بن عمرو المازني وحرب حاطب بن قيس، فضلا عن يوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الفجار الأولى والثاني، وحرب الحصين ابن الأسلت، ثم حرب بعاث، وكان أولها حرب سمير، وآخرها حرب بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات، "617م".
وأما يوم سمير، فقد كان -طبقًا لرواية الأخباريين- كأغلب أيام العرب لسبب غير خطير، ذلك أن رجلا من بني ذبيان يقال له "كعب الثعلبي" نزل ضيفا على مالك بن العجلان، ثم خرج إلى سوق بني قينقاع، فرأى رجلا من "غطفان" معه فرس، وهو يقول "ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب" فقال كعب: مالك ابن العجلان، فسمه "سمير الأوسي فشتمه ثم قتله بعد مدة في حديث طويل، وخاف الحيان ان تنشب الحرب، وقبل الأوس أن يدفعوا للخزرج دية الحليف، وهي نصف دية النسيب، إلا أن الخزرج أبو إلا دية الصريح، ولج الأمر بينهم حتى أتى إلى المحاربة، فاجتمعوا واقتتلوا اقتتالا شديدا على مقربة من قباء"، ثم انصرفوا منتصفين، ثم التقوا مرة ثانية عند إطم لبني قينقاع، فانتصر الأوس، وانتهى الأمر إلى أن يحتكموا إلى "المنذر بن حرام" الخزرجي، جد حسان بن ثابت، الذي حكم بأن تدفع الأوس دية الصريح، وانتهت الحرب، وإن افترق القوم وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العدواة بينهم.
وأما "يوم بعاث"، فقد كان آخر الحروب التي نشبت بين الأوس والخزرج، وقبل هجرة المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بخمس سنوات، وتروي المصادر العربية أن الحروب السابقة بين الأوس والخزرج، إنما كانت في غالبيتها للخزرج، ومن ثم فقد رأى الأوس محالفة بني قريظة، فأرسلت إليهم الخزرج، "لئن فعلتم فأذنوا بحرب" فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج "إنا لا نحالفهم ولا ندخل بينكم"، ومع ذلك فقد استمر كل فريق يستميل إليه يهود، فضلا عن قبائل عربية أخرى، ولعب اليهود أخطر الأدوار في إشعال نار الحرب بين الحيين العربيين، بغية تفتيت وحدتهم، وأملا في أن يكتب له نجاح في القضاء على الوحدة العربية، وبالتالي عودة السيادة لهم في يثرب من جديد.
وهكذا جدد بنو قريظة والنضير تحالفهم مع الأوس، ثم ضموا إليهم قبائل أخرى من اليهود واستعدوا للحرب، وخشي الخزرج أن تنزل بهم هزيمة، فراسلوا حلفاءهم من بني أشجع وبني جهينة، وراسل الأوس حلفاءهم من بني مزينة. وأخيرًا نشبت الحرب بين الفريقين عند "بعاث" -حصن بني قريظة- وانهزم الأوس في اليوم الأول، غير أن "عمر بن الخزرج" قائد الخزرج، سرعان ما قتل، وانتهز الأوس الفرصة، فمالوا على الخزرج ميلة رجل واحد، يقتلون رجالهم ويحرقون منازلهم ونخيلهم، بعد أن كانت يهود قد نهبت ما استطاعت من أموالهم، ولم ينقذ الخزرج ونخيلهم، إلا خشية الأوس من أن يستعيد اليهود مركزهم السابق في يثرب، فيضطروا لمواجهتهم منفردين بعد القضاء على الخزرج، وفعلا فلقد بدت نيات اليهود في واضحة في تحطيم الخزرج وإذلالهم، بخاصة وأنهم أصحاب اليد الطولى في القضاء على نفوذ اليهود في المدينة، ومن ثم فقد فضلت الأوس ال بالقضاء على روح التسلط في الخزرج، وصاح واحد منهم "يا معشر الأوس: أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب".
ويروي أن السيدة عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قالت عن هذا اليوم "كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دخولهم الإسلام"؛ ذلك لأن يوم بعاث قد أضعف بطون يثرب كلها وأوجد فيها ميلا إلى الاتحاد، كما أضعف كذلك روح العداوة والحقد في نفوس البطون اليثربية، حتى أخذ الناس ينصرفون لأعمالهم ويتذوقون لذة الراحة وهناءة العيش وصفاء البال، وكانوا كلما هم أحدهم أن يصب زيتا حارا على نار العداوة الكامنة في القلوب ليزيد في ضرامها، ويعظم من أوارها، سعى كثير من الزعماء وذوي النفوذ من الطرفين لكف يده حتى لا تسل السيوف من أغمادها، وجاء الإسلام واتفقت الكلمة، واجتمع الأوس والخزرج على نصرة الإسلام وأهله، وكفى الله المؤمنين شر القتال، وأصبح القوم بنعمة الله إخوانا1.
من مدن الحجاز:
بقي أن نتحدث بإيجاز شديد عن أهم المدن القديمة في شمال غرب الجزيرة العربية، غير مكة والمدينة، مثل الطائف وتيماء ودومة الجندل ومدائن صالح.
1- الطائف:
تقع الطائف على مبعدة حوالي 90 كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على جبل غزوان، أبرد مكان في الحجاز، وتتميز على مكة المكرمة بأنها ذات جو طيب في الصيف، وبأنها كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها "الزبيب والرمان والموز والأعناب".
وتاريخ الطائف لا يزال غامضا، وإن عثر الباحثون على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بالمدينة، وفي مواضع ليست بعيدة عنها، بعضها بالنبطية، وبعضها بالثمودية، وبعضها الثالث بعربية القرآن الكريم، كما عثر على كتابات تشبه اليونانية، وأخرى تشبه الخط الكوفي، وإن كانت جميعها لم تدرس حتى الآن.
ويذهب الأخباريون إلى أن اسمها القديم "وج" نسبة إلى "وج" أخو "أجأ" الذي سمي به أحد جبلي طيئ، وهما من العماليق، وإنما سميت بالطائف بحائطها المطيف بها، وقد أقامه رجل دعوه "الدمون" حتى لا يصل إليهم أحد من العرب، ثم حاولوا بعد ذلك إعطاء المدينة صفة مقدسة، ربما بتأثير من بني ثقيف سكان الطائف، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم الخليل، وأنها أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعم آخرون أن جبريل قد اقتطفها من فلسطين،وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف ... إلى غير ذلك من أساطير لا تقدم نفعًا، ولا تفيد علمًا.
هذا وهناك من يزعم أن أول من سكن الطائف إنما هم العماليق، ثم غلبهم عليها بنو عدوان من قيس ين عيلان، ثم بنو عامر بن صعصعة، ثم أخذتها منهم ثقيف، ورغم آخرون أن الذين سكنوا الطائف بعد العماليق، إنما هم قوم ثمود قبل ارتحالهم إلى وادي القرى، ومن ثم فقد ربط أصحاب هذه الرواية نسب ثقيف بالثموديين الذين نسبوهم إلى جد أعلى هو "قسي بن منبه"، الذي يجعله بعضهم من "إياد" بينما يجعله البعض الآخر من "هوزان".
وأما أهم معبودات الطائف في الجاهلية، فقد كانت "اللات"- الأمر الذي سوف نناقشه في كتابنا عن "الحضارة العربية القديمة"- وقد هدمها "المغيرة بن شعبة" بعد أن اعتنق أهل الطائف الإسلام، وأعطى أموالها وحليها لأبي سفيان بن حرب، ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة وعن الأعراب، من حيث ميلهم إلى الزراعة والاشتغال بها، وعنايتهم بغرس الأشجار المثمرة التي كانوا دائمي السعي إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة منها، كما كان لهم خبرة ومهارة بالأمور العسكرية، الأمر الذي ظهر واضحًا إبان محاصرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمدينتهم وتحصنهم بسورها، هذا إلى جانب ميل إلى الحرف اليدوية كالدباغة والنجارة والحدادة، وهي أمور مستهجنة في نظر العربي.
2- تيماء:
تقع تيماء على مبعدة 65 ميلا إلى الشمال من العلا، على الطريق التجاري بين جنوب بلاد العرب وشماليها، وقد بدأت تيماء تظهر في التاريخ على الأقل منذ أيام الملك الآشوري، "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" الذي تدلنا حولياته التي عثر عليها في "كالح" أنه أخذ منها الجزية، كما أخذها من زبيبي "زبيبه" ملكة دومة الجندل، ومن "شمسي"، فضلا عن الجالية السبئية في ديدان، هذا وقد جاء ذكر "تيماء" في التوراة -كما في أسفار أيوب وأشعياء وأرميا وحبقوق وعوبديا وعاموس.
وتيماء في الروايات العربية، بلد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى، على طريق حاج الشام ودمشق، والأبلق الفرد حصن السموأل بين عاديا اليهودي، مشرف عليها من ناحية الغرب، وهو مربع الشكل تقريبًا، وفي وسطه بئر، وله دعامًات من الخارج، ويشبه في تصميمه وتنفيذه حصن كعب بن الأشرف في المدينة المنورة، وإن كان هناك من يذهب إلى أن الحصن ربما كان من بقايا قصر نبونيد، أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان.
ونقرأ في النصوص البابلية-كما أشرنا من قبل- إلى أن نبونيد "555-539ق. م" قد قام بحملة في العام الثالث من حكمة، استولى فيها على عدة مدن في شمال غرب الجزيرة العربية، ثم أقام قصرا في تيماء بقي فيه حينا من الدهر، قارب سنوات عشر، حتى أصبحت تيماء وكأنها قد غدت خليفة لبابل.
وهناك على مقربة من تيماء معبد عثر فيه على نقش، محفوظ الآن بمتحف اللوفر، ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، نقرأ فيه بلغة أرامية، أن كاهنا قد أتى بصنم جديد "صلم هجم"، وبنى له معبدا وعين له كهانا، كما صوره في زي آشوري، مما دفع البعض إلى أن يذهب إلى أن قدوم هذا الإله إنما كان على أيام نبونيد.
هذا وقد عثر "Euting" على آثار معبد قديم، وعلى كتابة آرامية، تعود إلى فترة كانت المدينة فيها تحت السيطرة الفارسية، وإن أشارات الكتابة إلى ازدهار المدينة وقت ذاك، هذا فضلا عن أن "جوسين وسافينياك" قد عثرا كذلك على تل هناك، فيه بقايا معبد ومجموعة من قبور القوم.
وفي عام 1883م، عثر "هوبر" في تيماء على مسلتها المشهورة، والتي كتبت على وجه واحد بالخط الآرامي، وعلى الجانب الأيسر نقش عليها رسمان، ربما كان لملك وكاهن، يتجه بعض الباحثين إلى أن الملك هنا إنما هو نبونيد، اعتمادًا على المقارنة بين هذه المسلة ومسلة حران، وعلى أي حال، فمن المتفق عليه الآن أن هذه المسلة إنما ترجع إلى القرن الخامس ق. م.
3-دومة الجندل:
وتسمى دومة الجندل الآن "الجوف"، وكان يطلق عليها في العصور الآشورية "أدوماتو"، وفي التوراة "دومة"، وفي جغرافية بطليموس Adomatho" "Doumatha"، وأما في المصادر العربية فهي "دومة الجندل"، نسبة إلى دوم "أو دومان أو دما أو دوماء" بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وعلى أي حال فقد نسبت إلى الجندل؛ لأن حصنها مبني بالجندل وهو الصخر، وهي في رأي "السكوني" حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طيئ، كانت به بنو كنانة من كلب.
ودومة أو دومة الجندل، واحة آدوم الكبيرة، وتقع على مبعدة، 400 كيلو متر إلى الشرق من البتراء عصامة الأنباط، على حافة النفود الكبير، ومن ثم فقد كانت ذات أهمية كبيرة في التاريخ القديم، إذ كانت تعتبر بمثابة قلعة الجزيرة العربية الشمالية في وجه المهاجمين من الشمال والشمال الشرقي، وإذا ما سقطت دومة الجندل تساقطت بالتالي باقي المدن المجاورة.
ونقرأ في حوليات العاهل الآشوري "تجلات بلاسر الثالث "التي عثر عليها في "كالح" عن جزية من "زبيبي" ملكة بلاد العرب، التي يرى "ألويس موسل" أن مقرها إنما كان في "دومة الجندل"، كما نقرأ في نقوش الملك "إسرحدون" "680669ق. م" أن أباه "سنحريب" "507-681ق. م" قد أخضع أدوماتو "أدمو Adumu"" حوالي عام 688ق. م، وأخذ أصنامها إلى عاصمته، والأمر كذلك بالنسبة إلى الأمير "تاربي" "تبؤة" "Tabua"، وكانت ملكة دومة الجندل "تلخونو" "تعلخونو" قد امتد سلطانها حتى حدود بابل، ثم وقفت بجانب الثوار البابليين ضد "سنحريب" "705-681ق. م" ومن ثم فإن العاهل البابلي ما أن انتهى من القضاء على الثورة، حتى اته إلى دومة الجندل وفرض الحصار عليها، وهناك ما يشير إلى أن خلافا قد حدث بين الملكة وبين حزائيل -سيد قبيلة قيدار- الذي تولى قيادة الجيوش ضد سنحريب، مما أدى إلى استسلام الملكة وفرار حزائيل إلى البادية، فضلا عن أسر الأميرة تبؤة وأخذها إلى بابل، تمهيدًا لإعدادها لتكون ملكة على قومها، تعمل بأمر آشور، وتنفذ سياسة ملوكها فيما يختص بالأعراب، غير أن آمال الآشوريين في الملكة الجديدة قد خابت، فما أن يتم تعيينها ملكة على دومة الجندل حتى تفشل في مهمتها، ولعل السبب في ذلك إنما يرجع إلى العداء الدفين بين العرب والآشوريين، والذي ما كان في استطاعة تبؤة القضاء عليه.
وعلى أي حلال، فيبدو أن دومة الجندل كانت في هذه الفترة مركزًا دينيًّا مهما للقبائل العربية، كما أن هذه المنطقة قد عرفت في هذه الفترة حكم الملكات اللآتي كن يجمعن بين السلطتين الدينية والزمنية، ولعل أشهرهن زبيبه "زبيبي" وشمسي وتعلخونو وتبؤة.
وفي العهد البابلي خضعت دومة الجندل للملك نبونيد، وكما أشرنا من قبل، فلقد جرد الملك البابلي في العام الثالث من حكمه على المدينة واحتلها.
هذا وتشير المراجع العربية إلى دومة الجندل إنما كانت مدينة محصنة بسور، في داخله حصن منيع، يقال له "مارد"، نسبة البعض-طبقًا للروايات التقليدية- إلى سليمان عليه السلام، ونسبه آخرون إلى "أكيدر الملك بن عبد الملك السكوني"، وهو يهودي على رأي، وعربي من كندة على رأي آخر، وعلى أي حال، فإن الحصن على ما يبدو قد بني قبيل الثالث الميلادي؛ لأسباب منها صلة السكونيين بكندة، ومنها أن الحصن يشتمل في بعض أجزائه على نقوش نبطية- والأنباط كما نعرف قد انتهت دولتهم في عام 106م -ومع ذلك فالحصن ليس من عمل فرد واحد، ولا من فترة واحدة، وإنما من فترات متعاقبة، لعل آخرها منذ نصف قرن فقط.
وهناك في المصادر العربية ما يشير إلى أن سكان دومة الجندل، إنما كانوا أصحاب نخل وزرع، يسقون على النواضح، وزرعهم الشعير، وكان في بلدهم سوق يبدأ في أول يوم من شهر ربيع الأول، وينتهي في النصف منه، هذا وقد كانت تسكن دومة قبل الإسلام قبائل كلب وجديلة وطيئ، كما كما يتنازع السلطان فيها "الأكيدر" و"قنافة الكلبي" الذي كان يتولى الأمر فيها، حين تكون الغلبة من نصيب الغساسنة، مما يدل على التنافس بين كندة وبني غسان على الطريق التجاري3، "وكانت مبايعة العرب في دومة إلقاء الحجارة، وذلك أنه ربما اجتمع على السلعة النفر، يساومون بها صاحبها، فأيهم رضي ألقى حجره، فربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدا من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما اتفقوا فالقوا الحجارة جميعًا إذا كانوا عددًا على أمر بينهم، فوكسوا صاحب السلعة إذا طابقوا عليه"4.
4- الحجر "مدائن صالح":
وتقع على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الشمال من مدينة العلا الحالية، على الطريق التجاري العظيم الذي يربط جنوب بلاد العرب بسورية، وتتكون من عدة جبال رملية متناثرة، ومن ثم فقد سهل على سكانها أن ينحتوا فيها مقابر لهم، انتشرت في معظم هذه الجبال.
هذا وقد جاء ذكر المدينة في جغرافية بطليموس، كما ذكرها "إصطيفانوس البيزنطي"، والحجر -فيما يرى البعض- هي "أجزاء Eera" التي ذكرها "سترابو" في حديثه عن حملة "إليوس جالليوس" على اليمن في عام 24ق. م، وربما كان لها ميناء يعرف بـ "فرضة الحجر"، ومن الممكن، بل من المحتمل أن تكون هذه الفرصة معروفة بنفس الاسم الذي عرفت به الحجر -كما أن ميناء مدين كانت تعرف كذلك باسم مدين- وأن ميناء الحجر هذه ربما كانت هي بعينها الميناء التي تعرف اليوم باسم "الوجه".
وتشير الكتابات التي وجدت في مدائن صالح إلى المدينة ربما كان قد أنشأها المعينيون، كما تشير مقابرها التي جمعت في نحتها عناصر فنية مختلفة -فرعونية وإغريقية ورومانية وعربية- إلى أنها تشبه إلى حد كبير ما هو موجود في البتراء، ولعل هذا سببه أنهما ذات حضارة واحدة، وإن كانت مقابر مدائن صالح إنما تتميز بوجود شواهد عليها، مكتوبة بالخط الآرامي النبطي، كما أن هناك في جبل أثلت معبدا يذكرنا بمعابد البتراء، فضلا عن معبد آخر صغير يقع على مبعدة 150م إلى الجنوب من الجبل الآنف الذكر، وأخيرًا فلعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك من يرى في الموقع النبطي "إرم" اكتشفت على مبعدة 25 ميلا إلى الشرق من العقبة، "إرم" المذكورة في القرآن الكريم.
ويشير "بليني" في "التاريخ الطبيعي": 156" أن عاصمة اللحيانيين هي "هجرا Hagra"، وأن مركزهم الرئيسي هو واحة ديدان- على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الجنوب من الحجر- وأن اللحيانيين إنما كانوا يسكنون بكل تأكيد في واحة الحجر، كما كانوا يسكنون كذلك في ديدان، ومن هذا يمكن أن نستنتج أن "هجرا" عاصمة اللحيانيين، هي بعينها الحجر.
وأما المصادر العربية فتذهب إلى أن الحجر، إنما هي ديار ثمود، ناحية الشام عد وادي القرى، وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف.
وعلى أي حال، فإن المدينة قد أخذت مكانها بالتدريج، حتى إذا ما كان القرن العاشر الميلادي أصبحت خرائب لا يسكنها أحد، هذا وقد عثر في هذه الخرائب -التي تقع بين جبل أثلت وقصر البنت وسكة حديد الحجاز القديمة- على آثار حصن قديم، وبقايا أبراج وأعمدة ومزولة شمسية، فضلا عن نقود ترجع إلى أيام الحارث الرابع النبطي "9ق. م - 40م".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق