الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الثالث

الجزء الثالث: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي

لعل من الأفضل هنا أن نحدد معنى كلمة "عربي" وأصولها، تلك الكلمة التي تضاربت فيها آراء المفسرين، ولم يتفقوا على رأي واحد بشأنها، حتى أدلى بعضهم برأي أو بآخر، لا يعدو أن يكون مجرد حدس أو تخمين، فما هي المادة التي اشتقت منها كلمة عربي إذن؟، وما هو أقدم ذكر لها؟ وهل سمي سكان بلاد العرب أنفسهم عربًا؟ ومتى كان ذلك؟
إن علماء العربية أنفسهم حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما ذهب فريق إلى أن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب في لسانه، وتكلم بهذا اللسان العربي، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، لأنه "أول من سجع في العربية الواسعة، ونطق بأفصحها وأبلغها وأوجزها، والعربية منسوبة إليه مشتقة من اسمه"، ولكنهم في نفس الوقت يجعلون العربية لسان أهل الجنة،كما هي لسان آدم قبل أن ينحرف إلى السريانية، أي أنهم يجعلون "يعرب بن قحطان" هذا، إنما يرجع إلى مبدأ الخليقة، ومن نافلة القول أن نقول: إن الأمر لم يكن كذلك.
هذا فضلا عن أن هؤلاء الذين ينادون بقحطانية اللغة العربية، إنما يجهدون أنفسهم ليأتوا بالغث والسمين من الروايات لإثبات صحة ما يذهبون إليه، من أن القحطانيين هم أصل العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلم العدنانيون العربية، حتى ذهب البعض منهم إلى أن يكون دليله القاطع على صحة ما ذهب إليه أبياتا من شعر "حسان بن ثابت"، وتجاهل أصحاب هذا الاتجاه أن شعر حسان هذا جدّ متأخر، بحيث لا يمكن أن يكون دليلنا على أول من نطق بالعربية، فضلا عن أن الصحابي الجليل قحطاني، ومن ثم فربما كان متعصبًا لقومه في شعره. هذا، ويبدو أن فريقًا من أصحاب هذا الاتجاه قد تنبهوا إلى ذلك، ومن ثم فقد نسبوا إلى "يعرب" نفسه شعرًا عربيًّا فصيحًا، يقول فيه:
أنا ابن قحطان الهمام الأفضل ....................................... وذو البيان واللسان الأسهل
نفرت والأمة في تبلبل .............................................نحو يمين الشمس في تمهل
وكنت منهم ذا الرعيل الأول وبدهي أن هذا شعر منحول، ما في ذلك من ريب.
أضف إلى ذلك، أنه -على ما يبدو- لم يكن يخطر ببال هؤلاء المنادين بقحطانية اللغة العربية، أن سكان اليمن قبل الإسلام إنما كانوا ينطقون بلجهات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من يأتي بعدهم قد يكشف سر "المسند" -الخط الذي كان الناس يكتبون به في جنوب شبه الجزيرة العربية- ومن ثم يمكن قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته إنما هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندون بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى في جنوب شبه الجزيرة العربية من اللغة العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات، ومن هنا يروي "الجمحي" أن أحد علماء العربية سئل عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا، وإن كان دون شك أن هذا هو رأي العدنانيين في القحطانيين.
هذا فضلا عن أن القائلين بأن "يعرب بن قحطان" هو جد العربية وموجدها عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هذا، وبين رأيهم في أن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"؟ وكيف اهتدى إلى استنباطه لهذه اللغة العربية؟، وكيف تمكن وحده من إيجادها من غير مؤازر ولا معين؟ إلى غير ذلك من أسئلة لم يفطن إليها أهل الأخبار في ذلك الزمن.
على أن هناك من حاول أن يقدم تفسيرًا أسطوريًّا ذهب فيه إلى أن عادًا قد انقرضت من اليمن بعد عهد هود عليه السلام، فأرسل النمرود ابن عمه قحطان أو ولده يعرب ليسكنها، وحين وصل الأخير إلى اليمن لم يجد فيها إلا قليلا ممن آمن بهود، ولكنهم سرعان ما بادوا، ومن ثم فقد خلصت الأرض لقحطان، وكان "يعرب" دون إخوته من امرأة من عاد، فتكلم بلسانها وهو العربية، على أن رواية أخرى تذهب إلى أن المرأة إنما كانت من العماليق، وأن أولادها جميعًا قد أخذوا العربية عنها، فضلا عن أن "النمرود" هذا -في رأيهم- هو صاحب إبراهيم عليه السلام. والذي يأتي بعد عصر "هود" بقرون، فيما يزعمون.
وهناك فريق ثان إنما يزعم أن هودا، عليه السلام، إنما كان أول من تكلم بالعربية، بينما يزعم آخرون أن أباه هو أو من تكلم بها، على أن فريقًا ثالثًا يرى أن نوحًا -عليه السلام- هو أول الناطقين بالعربية، ويتجه فريق رابع إلى أنه "عمليق"، وهو أبو العمالقة، وذلك حين ظعن القوم من بابل، ومن ثم فقد كان يقال للعماليق -وكذا لجدهم- "العرب العاربة".
وأخيرًا فلقد ذهب فريق خامس إلى أن إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، كان أول من ألهم هذا اللسان العربي المبين، وهو ما يزال بعد في الرابعة عشرة من عمره، ولعل هذا الاتجاه الأخير إنما كان السبب في أن يذهب البعض إلى أن قحطانًا إنما هو من ولد إسماعيل، عليه السلام.
ولعل هذه الآراء المتضاربة إنما كانت السبب في أن يحاول البعض التوفيق بين الرأيين الأساسيين -الأول والخامس- ومن ثم فقد ذهب هذا النفر إلى أن "يعرب" هو أول من نطق بمنطق العربية، وأن إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الحجازية الخالصة، التي أنزل بها القرآن الكريم.
وعلى أي حال، فإن الألولسي يذهب إلى أن لفظ العرب، إنما يطلق أصلا لقوم جمعوا عدة صفات، منها أن لسانهم كان العربية، ومنها أنهم كانوا من أولاد العرب، ومنها أن مساكنهم كانت بأرض العرب حتى ظهور الإسلام، ثم تفرقوا بعد ذلك في البلاد التي دانت بعقيدة التوحيد وبرسالة محمد -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ1- ويذهب آخرون إلى أن كل من سكن جزيرة العرب ونطق بلسان أهلها، فهم العرب، سموا عربًا باسم بلدهم العربات.
هذا وقد اختلفت الآراء كذلك في معنى كلمة "عرب" ومصدر اشتقاقها، فبينما ذهب البعض إلى أن أصل الكلمة ما يزال غامضًا، ذهب آخرون إلى أنها مشتقة من الفعل "يعرب"، بمعنى يفصح في الحديث، ومن ثم فقد أصبحت تدل على العرب لفصاحتهم، إلا أن هناك من يعارض هذا الاتجاه ويرى أن العكس هو الصحيح، وأن الفعل "يعرب" هو الذي اشتق من كلمة "عرب"، ذلك أن المرء عندما يعبر عن أفكاره باللسان، فإنه إنما يعبر عن رأيه.
على أن هناك من يذهب إلى أن كلمة "عرب" إنما هي مشتقة من أصل سامي قديم بمعنى "الغرب"، وأن القاطنين في بلاد الرافدين هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم، لأنهم يقيمون في البادية الواقعة إلى الغرب من العراق، والتي كان يطلق عليها "أرض عربي"، غير أن هناك من يرى أن العرب كانوا يستخدمون هذا الاسم إذا ما تحدثوا عن أنفسهم، ومن ثم فليس من المعقول أن يسمي قوم أنفسهم باسم يدل على موقعهم بالنسبة إلى غيرهم من الشعوب المجاورة.
والرأي عندي أن ذلك ليس صحيحًا، فالأموريون، كما نعرف، كان قد أطلق عليهم جيرانهم السومريون في الشرق اسم "مارتو"، كما أطلق عليهم الأكديون اسم "أمورو" ويعني "الغرب" وهو الاسم الذي عرفوا به في التاريخ، بل إن البابليين توسعوا في استعمال كلمة "أمورو" فأطلقوها على كل سورية القديمة، كما سموا البحر الأبيض المتوسط "بحر أمورو العظيم"، وأما عاصمتهم فقد كانت "ماري" وهي كلمة سومرية من جهة الاشتقاق، شبيهة باسم البلاد "مارتو" و"أمورو" أي بلاد الغرب، ناهيك بما نستعمله الآن -سياسيًّا وعلميًّا- من اصطلاحات "الشرق الأدنى" و"الشرق الأوسط" و"الشرق الأقصى"، وكلها اصطلاحات أوربية، تدل على موقع تلك المناطق من أوربا.
وهناك من يرى أن كلمة "عربي" ترتبط بكلمة "عبري" ارتباطًا لغويًّا متينًا لأنهما مشتقان من أصل واحد، ويدلان على معنى واحد، فهما مشتقان من الفعل الثلاثي "عبر" بمعنى قطع مرحلة من الطريق، أو عبر الوادي أو النهر من عِبْرِهِ إلى عِبْرِهِ، أو عبر السبيل شقها، ذلك لأن العرب والعبريين كانوا في الأصل من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها بحثًا عن الماء والكلأ، ومن هنا فإن كلمة عربي وعبري مثل كلمة بدوي، أي ساكن الصحراء أو البادية، وقريب من هذا ما يراه "نولدكه" من أن كلمة عربي معناها صحراء.
وإذا ما تتبعنا تاريخ لفظة "العرب" ومدلولها في اللغات السامية القديمة، لوجدنا أنه على الرغم من وجود علاقات قديمة بين سكان "ميزوبوتاميا" والمناطق الشرقية في شبه الجزيرة العربية، فإن أقدم نص وجدت فيه هذه اللفظة- فيما نعلم- يرجع تاريخُهُ إلى عهد الملك الآشوري "شلمنصر الثالث" "859-824ق. م"،أو بالتحديد إلى موقعة "قرقر" عام 853ق. م، والتي اشترك فيها أمير عربي يدعى "جندب"، "جنديبو"، إلى جانب حلف من الأمراء السوريين ضد العاهل الآشوري.
وهناك من عهد "تجلات بلاسر" الثالث "745-727ق. م"، حوليات عثر عليها في "كالح" جاء في بعضها إشارات إلى جزية من "زبيبة" ملكة "بلاد العرب"، هذا فضلا عن نص آخر يقول فيه الملك الآشوري: "أما شمسي "سمسي" ملكة بلاد العرب، التي حنثت بيمين "شمس".... فقد أصبحت خائفة من قوة جيشي، وأرسلت لي جمالًا ونياقًا، ثم عينت موظفًا من لدني هناك"، وعلى أي حال، فيبدو أن "شمسي" قد نقضت عهد الولاء لآشور، ومن ثم رأينا "سرجون الثاني" "722-705ق. م" يحدثنا أنه قد تلقى الجزية" من بيرو صاحب موصري، ومن "شمسي" ملكة بلاد العرب، ومن "أتعمارا" "يثع أمر" أمير سبأ، تبرا وخيلا وجمالا".
هذا وتتحدث نقوش "سنحريب" "705-681ق. م" وولده "إسرحدون" "680-669ق. م" عن سيطرة الأول على بادية حتى شمال بلاد العرب، حتى دعاه "هيرودوت" بملك العرب والآشوريين، فضلا عن إخضاعه لملكة العرب "تعلوخونو" صاحبة دومة الجندل، وأسر الملكة أو الأميرة العربية "تاوبو" "تبؤة".
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن لفظة "عرب" عند الآشوريين، إنما تعني "بداوة" أو "إمارة" على تخوم الحدود الآشورية، تتسع حدودها وتضيق، طبقًا للظروف التاريخية، وطبقًا لشخصية الأمير الحاكم الذي كان في أغلب الأحايين يحمل لقب "ملك"، هذا إلى جانب أن الكتابة الآشورية لم تكن تحرك المقاطع، وجدت عدة قراءات لكلمة "عرب" مثل "عريبي" "Arabi" و"عربي" "Arbi و"عربو" "Uribu"، إلى غير ذلك من أمثال "Arabi" و "Arub" و "1Arubu" "Aribu".
وفي القرن السادس قبل الميلاد، تظهر كلمة "عرب" "عرابة Arabaya" في النصوص الفارسية، المكتوبة باللغة الإخمينية "أو الإكمينية"، وذلك في نقش انتصارات الملك "داوا الأول" "522-486"، المعروف باسم "نقش بهستون" في إحدى الممرات الجبلية في الطريق بين كرمنشاه وهمدان، تظهر كلمة عرب معنى "البادية التي تفصل بين آشور وبابل من ناحية، وبين مصر من ناحية أخرى، مما جعل بعض العلماء يدخلون شبه جزيرة سيناء في جملة هذه الأرضين، وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
وأما في التوراة -أو العهد القديم- فقد وردت كلمة "عرب" بمعنى البدو والأعراب، وبمعنى القفر والجفاف، في مواضع كثيرة، فهم رعاة يسكنون الخيام، "ولا يخيم هناك أعرابي ولا يربض هناك رعاة"، ويكثر فيهم المتربصون على طرق القوافل، "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، ونفس المعنى يتردد في نصوص توراتية أخرى، كما في أشعياء، وأرمياء، لا يقصد بها قومية على جنس معين، وإنما المقصود دائمًا البادية، موطن العزلة والوحشة والخطر.
وأما في التلمود، فقد قصد بكلمة "عرب" و"عربيم" و"عربئيم"، الأعراب كذلك -أي نفس المعنى الذي ورد في أسفار التوراة- كما أصبحت لفظة "عربي" مرادفة في بعض الأحايين لكلمة "إسماعيلي"، نسبة إلى سيدنا إسماعيل، جد العرب، والأخ الأكبر لإسحاق، والد يعقوب أو إسرائيل، جد اليهود.
وفي أخريات القرن السادس قبل الميلاد، بدأ اليونان يتحدثون عن العرب في كتاباتهم، وكان "إسكليوس" "أخيلوس Aeschyus" ""525-456ق. م"، أول من ذكر العرب من اليونان، وذلك إبان الحديث عن الملك الفارسي "إكزركسيس الأول" "486-465ق. م" والذي هاجم اليونان في بلادهم بجيش فيه "ضابط عربي من الرؤساء مشهور"، ثم جاء هيرودوت "484-430ق. م" فتعرض في كتابه الثاني لذكر العرب، بطريقة تدل على أنه كان على شيء من العلم بهم، كما أطلق على بلاد العرب لفظ "Arabie" ويعني بها البادية وشبه جزيرة العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل، ومن ثم فقد أدخل "هيرودوت" سيناء وكل الأقسام الشرقية من مصر -والواقعة بين سواحل البحر الأحمر ونهر النيل،في بلاد العرب.
وجاء "سترابو" "66ق. م-24م" و"بليني" "32-79م"، فأكدوا ما ذهب إليه "هيرودوت" وأضافا إلى ذلك أن عدد العرب في عهدهما قد تضاعف على الضفة الغربية من البحر الأحمر، حتى شغلوا كل المنطقة بينه وبين نهر النيل من أعلى الصعيد، وكان لهم جمال ينقلون عليها التجارة والناس بين البحر الأحمر والنيل، بل إن "سترابو" قد وصف مدينة "قفط" جنوبي قنا، بأنها مدينة واقعة تحت حكم العرب، وبأن نصف سكانها من أولئك العرب.
وهكذا كانت بلاد العرب تقذف بالموجة تلو الأخرى إلى وادي النيل، عبر البحر الأحمر، وعن طريق سيناء والتي كانت منذ القدم قنطرة ثابتة مفتوحة للهجرات، التي كان من أهمها، "أولًا" قبائل كهلانية من عرب الجنوب، استقرت في الجزء الشمالي الشرقي من مصر في مطلع المسيحية، ومنها "ثانيًا" هجرة قبائل من "طيئ" -فرع كهلاني آخر من المجموعة الجنوبية- كان من أهمها قبيلتا لخم وجذام اللتان استقرتا في محافظة الشرقية، ومنها "ثالثًا" قبيلة "بلي" التي استقرت فيما بين قنا والقصير، وكان عليها الاعتماد في نقل التجارة الهندية، ومنها "رابعًا" هجرة بطون من "خزاعة" -وهم فرع من الأزد- خرجوا في الجاهلية إلى مصر والشام، بسبب قحط أصاب بلادهم، هذا فضلا عن الجماعات التي استقرت في شرق الدلتا قبل الإسلام.
وعلى أي حال، فليس لدينا كتابات جاهلية من ذلك النوع الذي يسميه المستشرقون "كتابات عربية شمالية"، غير نص واحد، ذلك النص الذي يعود إلى عهد "امرئ القيس" ملك الحيرة، والمعروف "بنقش النمارة" والذي سوف نناقشه في مكانه من هذه الدراسة- وقد جاء فيه "تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو إسر التج"، وترجمته إلى عربية مفهومة يمكن أن يكون كالتالي "هذا جسمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب جميعًا، الذي عقد التاج".
وأهمية هذا النص الذي يرجع إلى السابع من ديسمبر عام 328م في ورود لفظة "العرب فيه، وإن كنا لا نستطيع القول أن امرأ القيس إنما أراد بكلمة العرب هنا، البدو والحضر سواء بسواء، أو بمعنى آخر أراد بها أن تكون علمًا على قوم وجنس، وإنما الواضح من النص أنه إنما يقصد بها "الأعراب"، لأن كلمة "ملك هنا لا تعني ما يراد منها حقيقة، وكلمة "عرب" إنما تعني "بدو"، وإن كان الرجل إنما كان يشغل حقًّا وظيفة "ملك الحيرة".
وأما النصوص العربية الجنوبية، فلم يرد فيها اسم "عرب" إلا بمعنى "أعراب"، ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو وحضر، أما أهل المدن والمتحضرون فكانوا يعرفون بمدنهم وقبائلهم، أنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل الأخرى المسماة "أعراب" في النصوص العربية الجنوبية، مما يدل على أن لفظة "عرب" و"العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية في الكتابات العربية المدونة، والتي ترجع إلى ما قبل الإسلام بقليل، أي من عامي 449، 542م، وأن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة، إلا بعد ظهور الإسلام، ودخولهم في دين الله أفواجًا، رغم ورود اللفظة في النصوص علمًا لأشخاص.
ولعل من الجدير بالذكر هنا أن "أب كرب أسعد" كان أول ملك يمني يضيف إلى لقبه الرسمي كلمة "الأعراب"، ومن ثم فقد أصبح اللقب الملكي في عهده "ملك سبأ وذي زيدان وحضرموت ويمينات وأعرابها في الجبال والتهائم"وسوف نشير إلى ذلك بالتفصيل في مكانه من هذه الدراسة.
وأما الشعر الجاهلي فلم يكن بأفضل من النصوص المكتوبة في هذا الصدد، ومن ثم فإننا لم نجد فيه صيغة من جذر "ع. ر. ب" للدلالة على معنى قومي يتعلق بالجنس، ولا على معنى يتعلق باللغة التي نتكلمها؛ ذلك لأن الجاهليين إنما كانوا غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم -فيما لدينا من التراث اللغوي- ما يدل على المدرك القومي الجامع، غير أن الأمور سرعان ما تتغير، فيقف العرب في أخريات العصر الجاهلي أمام الفرس، ومن ثم فقد بدءوا يستشعرون شيئًا من البغضة للفرس، ويشعر "عنترة بن شداد" بهذه البغضة، ومن ثم نراه يقول في معلقته عن ناقته:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت ................................. زوراء تنفر عن حياض الديلم
وهكذا أحس "عنترة" بالدافع القومي الجامع، ولما لم يجد الكلمة التي يعبر عنها، اضطر إلى أن يدور حول المعنى ببيت كامل من الشعر.
وجاء الإسلام، ونزل القرآن الكريم منجمًا في ثلاث وعشرين سنة في مكة والمدينة، فلم يرد فيه من الجذر "ع. ر. ب" إلا ثلاث صيغ "عُرُبًا" "جمع عَرُوب بفتح العين" نعتًا للمرأة المتحببة إلى زوجها في قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} ، ثم جاءت الصيغة "أعراب" عشر مرات وفي سورة مدنية فقط، منها ست مرات في سورة التوبة وحدها، ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد على أن كلمة "أعراب" تدل في القرآن الكريم- كما تدل في غيره- على البدو.
وأخيرًا حسم القرآن الكريم الأمر نهائيًّا، فجاءت فيه كلمة "عربي" إحدى عشرة مرة -في سورة مدنية وأخرى مكية- جاءت عشر مرات نعتًا للغة التي نزل بها القرآن الكريم، وجاءت مرة واحدة نعتًا لشخص الرسول الأعظم- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، أي أقرآن أعجمي اللغة، ونبي عربي؟
وهكذا أصبحت كلمة "عرب" علمًا على العرب جميعًا، كما كان استعمال القرآن الكريم لها دليلا للشعراء على التعبير الذي لم يستطع "عنترة" أن يصل إليه، ومن هنا رأينا "كعب بن مالك" يقول في مولانا وجدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-:
بدا لنا فاتبعناه نصدقه .................................................. وكذبوه فكنا أسعد العرب
ثم رأينا "حسان بن ثابت" بعد ذلك يقرع "بني هذيل" لما اشترطوا على الحبيب المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- أن يبيح لهم الزنا، في مقابل دخولهم في الإسلام
سألت هذيل رسول الله فاحشة ................................... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب
سألوا رسولهم ما ليس معطيهم ................................... حتى الممات وكانوا سبة العرب
وهكذا بدأ في الشعر العربي مدرك لم يكن معروفًا من قبل، هو أن العرب جماعة واحدة ذات نطاق من الوحدة الجامعة، على أن مدرك العروبة يومذاك، أو المدرك القومي العام على الأصح، كان والإسلام شيئًا واحدًا.
وسرعان ما برزت كلمة "عربي" في مقابل كلمة "روم"، يروي "صاحب الأغاني" أن "قيس بن عاصم" و"عمر بن الأهتم" قدما إلى المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- بعد فتح مكة، فتسابا وتهاترا عنده، ثم قال "قيس" للرسول -عليه الصلاة والسلام- عن "عمرو" وقومه: "والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة"، فقال عمرو: "بل هم والله يا رسول الله من الروم، وليسوا منا"، ثم قال عمرو مخاطبًا قيس بن عاصم:
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ................................... والروم لا تملك البغضاء للعرب
وقد نهى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيسًا وعمرًا عن هذا التلاحي، وأفهمهما أن الإسلام قد أغرق العصبيات كلها.
وهكذا بدأت كلمة "عرب" تستعمل للتعبير عن المعنى القومي للجنس العربي، ولا شك في أن الإسلام كان صاحب الفضل في بعث روح القومية عند العرب، وفي أثناء الفتوحات الإسلامية، وعلى أيام الفاروق عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- بدأ العرب يتباهون بجنسهم العربي، ويتمثل هذا في البيت التالي ليربوع بن مالك3.
إذا العرب العرباء جاشت بحورها ... فخرنا على كل البحور الزواخر إلا أن الإسلام لم يكن -ولن يكون أبدًا- دين عنصرية، وإنما هو دين يقوم على مبدأ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} ، وعلى مبدأ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} ، وإنه: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" ، ومن هنا، فرغم أنه هو الذي جعل لكلمة "عرب" هذا المقام في شعور الجماعة، فإنه إنما نهى عن أن يكون هذا الشعور عاملا مفرقًا بين صفوف الأمة التي وحدها الإسلام، ثم إن الإسلام -بخلاف الديانات السماوية الأخرى- إنما هو شريعة الله الخالدة إلى البشرية كافة، وهكذا حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش ويثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا حلف في الإسلام".
وهكذا يبدو بوضوح -لا لبس فيه ولا غموض- أن العربية، في نظر الإسلام، كانت مفهومًا دينيًّا وثقافيًّا، أكثر منه جنسيًّا، وقد روى أن "قيس بن مطاطية" -وكان من المنافقين- جاء إلى حلقة كان فيها" سلمان الفارسي" و"بلال الحبشي" و"صهيب الرومي"، فقال: لقد قام الأوس والخزرج بنصرة هذا الرجل -يعني سيدنا محمدًا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما بال هذا؟ يقصد ما الذي يدعو الفارسي أو الحبشي أو الرومي بنصره، فقام إليه، "معاذ بن جبل" وأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وأخبره بمقالته، فقام عليه الصلاة والسلام مغضبًا يجرُّ رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أيها الناس، إن الربَّ واحدٌ، والأب واحد، وإن الدين واحد: وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي" فقام "معاذ بن جبل"، وقال: فما تأمرني بهذا المنافق يارسول الله؟ قال: "دعه فإنه إلى النار".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق