الأربعاء، 12 أغسطس 2015

مفهوم التاريخ و التاريخ علم أم فن و أهميه التاريخ

مفهوم التاريخ و التاريخ علم أم فن و أهميه التاريخ

ما المقصود بدراسة التاريخ ؟ و ما هي دلاله لفظ التاريخ؟ و هل يستدعى مضمونه الغور في أعماقه إلى هذا الحد ؟ و هل التاريخ علم أم فن ؟
دعونا نجيب على هذه الأسئلة بقدر المستطاع .
دلاله لفظ (التاريخ) :
يدل لفظ التاريخ على معان متفاوتة فيعتبر بعض الكتاب أن التاريخ يشتمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله ، بما يحويه من أجرام و كواكب و من بينها الأرض و ما جرى على سطحها من حوادث الإنسان .
و يقصر أغلب المؤرخين معنى التاريخ على بحث واستقصاء حوادث الماضي ، كما يدل على ذلك لفظ (History)  المستمد من الأصل اليوناني القديم ، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك على الصخر والأرض بتسجيل أو وصف أخبار الحوادث التي ألمت بالشعوب و الأفراد .
و قد تدل كلمة تاريخ على مطلق مجرى الحوادث الفعلي الذي يصنعه الأبطال و الشعوب و التي وقعت منذ أقدم العصور و استمرت و تطورت في الزمان و المكان حتى الوقت الحاضر .
و في اللغة العربية التاريخ أو التأريخ يعنى الإعلام بالوقت ، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته و وقته الذي ينتهي إليه زمنه و يلتحق به ما يتفق من الحوادث و الوقائع الجليلة .
وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين و التوقيت و موضوعه الإنسان و الزمان .
و حينما اخذ الإنسان البدائي منذ فجر المدنية يقص على أبنائه قصص أسلافه ممتزجة بأساطيره و معتقداته ، بدأ التاريخ يظهر إلى حيز الوجود في صورة بدائية أولية و بدأ الإحساس به يتكون في ذهن البشرية منذ أقدم العصور و تدرج التعبير عن التاريخ مختلطاً اولاً بعناصر من الفن ، كالرسم و النقش على الحجر ، و عندما سارت البشرية قدماًفي مضمار الحضارة رويداً رويداً اخذ التاريخ يشكل اساساً جوهرياً في تسجيل موكب البشرية الحافل بالأحداث و اصبح التاريخ هو المرآة أو السجل أو الكتاب الشامل الذي يقدم لنا الواناً من الأحداث و فنونا من الأفكار و صنوفاً من الأعمال و الآثار .
التاريخ علم أم فن :
في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين اختلف بعض رجال العلم و التاريخ و الأدب ، في وصف التاريخ بصفة العلم أو نفيها عنه فقال بعض العلماء : إن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً لأنه يعجز عن إخضاع الوقائع التاريخية لما يخضعها له العلم من المشاهدة و الفحص و التجربة و بذلك لا يمكن استخلاص قوانين علمية ثابتة ، على نحو ما هو موجود بالنسبة لعلم الطبيعة أو الكيمياء مثلاً .
و مما يبعد بالتاريخ عن صفة العلم في نظرهم ، قيام عنصر المصادفة احياناً ، و وجود عنصر الشخصية الإنسانية و حرية الإرادة مما يهدم الجهود الرامية إلي إقامة التاريخ على أسس علمية .
و على الجانب الآخر يرى بعض رجال الأدب انه سواء كان التاريخ علماً أم لم يكن ، فهو فن من الفنون ، و أن العلم لا يمكن أن يعطينا عن الماضي سوى بعض العظام المعروقة اليابسة ، و انه لابد من الاستعانة بالخيال لكي نستنطق تلك العظام و تبعث فيها الحياة ، وهي بحاجة كذلك إلى براعة الكاتب حتى تبرز في الثوب اللائق بها، فمثلا لا يستطيع العلم الطبيعي أن يفسر لنا حريق موسكو في عهد نابليون بونابرت سنة 1812 إلا على أساس قوانين الاشتعال و لابد من تدخل المؤرخ لكي يشرح الأسباب والظروف السياسية و العسكرية التي أدت إلى ذلك الحريق فكل من العالم الطبيعي والمؤرخ يشرح الحادث بطريقته و كل منهما يكمل الآخر و كلاهما ضروري لتقدم المعرفة الإنسانية .
و يرى بعض العلماء مثل (هرنشو) انه على الرغم من إننا لا يمكننا أن نستخلص من دراسة التاريخ قوانين علمية ثابتة على غرار ما هو كائن في العلوم الطبيعية إلا إن هذا لا يجوز أن يجرد التاريخ من صفة العلم و يقول انه يكفى إسناد صفة العلم إلى موضوع ما،إذا مضى الباحث في دراسته و كان يتوخى الحقيقة و أن يؤسس بحثه على حكم ناقد بعيداً الأهواء و الميول الشخصية و كان يصبو فقط إلى إظهار الحقيقة المجردة.
و يقول : إن التاريخ ليس علم تجربة و اختبار و لكنه علم نقد و تحليل و تحقيق و إن اقرب العلوم الطبيعية شبهاً به هو علم الجيولوجيا ، فكل من الجيولوجي و المؤرخ يدرس آثار الماضي و مخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه استخلاصه عن الماضي والحاضر على السواء و يزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث اضطرار الأول إلى أن يدرس و يفسر العامل البشرى الإرادي الانفعالى ، حتى يقترب بقدر المستطاع من الحقائق التاريخية ، و على ذلك نجد أن التاريخ مزاج من العلم و الفن و الأدب في وقت واحد .
أهميه التاريخ :
"لاعزة لقوم لاتاريخ لهم، ولاتاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي أثار رجال تاريخها، فتعمل وتنسج على منوالهم وهذا كله يتوقف على تعليم وطني بدايته الوطن ووسطه الوطن وغايته الوطن.
يموت العظماء وتبقى أعمالهم خالدة ،يموت العظماء وتبقى أعمالهم قوة تحرك،ورابطة تجمع ، ونور يهدي، وعطر ينعش،كل مايتركه العظماء من ميراث هو أعمال وأفكار نعتز بها ونعتبر منها ونقتدي بها"
ولا يستطيع الإنسان أن يفهم نفسه و حاضره دون أن يفهم الماضي و معرفة الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة و التأمل في الماضي يبعد الإنسان عن ذاته ، فيرى ما لا يراه في نفسه بسهولة من مزايا الغير و أخطائه ، و يجعله ذلك اقدر على فهم نفسه و أقدر على حسن التصرف في الحاضر و المستقبل بعد أن يأخذ الخبرة و العظة من الماضي .
إن ماضي الشعوب و ماضي الإنسان حافل بشتى الصور و هو عزيز عليه في كل أدواره ، سواء أكانت عهود المجد و القوة و الرفاهية أم عهود الكوارث و الآلام و المحن ، و الشعوب التي لا تعرف لها ماضياً محدداً مدروساً بقدر المستطاع ، لا يعدون من شعوب الأرض المتحضرة .
و على ذلك نجد انه لا غنى للإنسان عن دراسة ماضية باعتباره كائناً اجتماعياً فينبغى عليه أن يعرف تاريخ تطوره و تاريخ أعماله و آثاره ليدرك من هو حقاً و إلى من ينتمي .
قالوا عن التاريــــخ
- يذكر " العز الكنانى " رأيه في أهمية علم التاريخ فيقول " لاشك في جلالة علم التاريخ وعظم موقعه من الدين وشدة الحاجة الشرعية إليه لأن الأحكام الانتقادية والمسائل الفقهية مأخوذة من مكارم الهدى من الصلات والمبصر من العمى والجهالة ، والنقلة هم الواسطة بيننا وبينه فوجب البحث عنهم والفحص عن أحوالهم ، وهذا مجمع عليه ، والعلم المتكفل بذلك هو علم التاريخ ولهذا قيل أنه من فروض الكفاية.
- ويرى " المقريزى " " أن علم التاريخ من أجل العلوم قدراً وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطراً لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الدار الآخرة عن هذه الدار ، والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدي بها ، واستعلام مذام الفعال ليرغب عنها أولوا النهى ، ويشير " السخاوى " إلى أهمية علم التاريخ بقوله " فعلم التاريخ فن من فنون الحديث النبوي ، وزين تقر به العيون ، حيث سلك فيه المنهج القويم المستوى ، بل وقعه من الدين عظيم ، ونفعه متين فى الشرع ، بل جعله من فروض الكفايات "
- ولقد أوضح " ابن الأثير " أهمية دراسة علم التاريخ بقوله " لقد رأيت جماعة ممن يدعى المعرفة والدراية ، ويظن بنفسه التبحر فى العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزدريها ، ويعرض عنها ويلقيها ظناً منه أن غاية فائدتها القصص والأخبار ، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار ، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره . ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً ، علم أن فوائده كثيرة ومنافعه الدنيوية والأخروية حجه غزيرة….
ويذكر "ابن الأثير " أن من الفوائد الدنيوية لدراسة علم التاريخ " إن الإنسان لا يخفى أنه يحب البقاء ويؤثر أن يكون فى زمرة الأحياء ، فيا ليت شعري ‍‍‌‌‍‍! أي فرق بين ما رآه أمس أو سمعه وبين ما قرأه فى الكتب المتضمنة أخبار الماضيين وحوادثن المتقدمين ؟ فإذا طالعها فكأنه عاصرهم ، وإذا علمها فكأن حاضرهم، ويضيف "إبن الأثير " ان الملوك ومن إليهم الأمر والنهى إذا اطلعوا على تجارب الماضي وأحداثه أفادوا منها واستقبحوا الأشياء التى أساءت للبلاد والعباد واستحسنوا السيرة الحسنة للحكام والولاة العادلين فرغبوا فيها وخلصوا بها واستعانوا نفائس المدن وعظيم الممالك"
وأخيراً يختم " ابن الأثير " حديثه عن أهمية علم التاريخ وفوائده الأخروية بقوله " وأما الفوائد الأخروية فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكر فيها ورأى تقلب الدنيا بأهلها ، وتتابع نكباتها على أعيان قاطنيها وأنها سلبت نفوسهم ، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم فلم تبق على جليل ولا حقير ولم يسلم من نكدها غنى ولا فقير زهد عنها وأقبل على التزود للآخرة منها، ومنها التخلق بالصبر والتأنى وهما من محاسن الأخلاق ، فإن العاقل إذا رأى مصاب الدنيا لم يسلم منه بنى مكرم ، ولا ملك معظم ، بل ولا أحد من البشر ، علم أنه يصيبه ما أصابهم ، وينوبه ما نابهم "
- يذكر " خليفة بن خياط " أهمية التاريخ بقوله " وبالتاريخ عرف الناس أمر حجهم وصومهم وانقضاء عدد نسائهم ومحل ديونهم "  ، ويشير " الطبري " إلى أهمية علم التاريخ بقوله " قال جل جلاله وتقدست أسماؤه    ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً )صدق الله العظيم ( سورة الإسراء الآية 12 ) ليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم وحين حل ديونهم وحقوقهم "
- ولا زال تعريف " ابن خلدون " للتاريخ في فاتحه مقدمته يعتبر من أدق ما قيل فى هذا العلم عند العرب ، وهو تعريف أعجب به وأشار إليه نفر من كبار المؤرخين في الغرب ، حيث قال " ابن خلدون " بعد مدخل بلاغي " أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال ، وتشد إليه الركائب والرحال ، وتسمو إلى معرفته السوقة.. وتتنافس فيه الملوك .. ، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال ، إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول ، والسوابق من القرون الأول ، تنمو فيها الأقوال ، وتضرب فيها الأمثال ، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدى إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال ، واتسع للدول فيها النطاق والمحال ، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال ، وحان لهم الزوال 0 وفى باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق "
- يذكر " حسين مؤنس " إن التاريخ ليس لغواً ، فهو لا يقتصر على أخبار الماضيين وأساطير الأولين ، بل هو يدرس التجربة الإنسانية أو جوانب منها ، ويسعى إلى فهم الإنسان وطبيعة الحياة على وجه الأرض ، وإذا نحن اعتبرنا الحياة طريقاَ يقطعه الإنسان ، فلا شك بأن معرفتنا بما قطعناه من الطريق يعيننا على قطع ما بقى منه
وخلاصة هذا الكلام أن التاريخ ينفع في العظة والعبرة فنحن ندرس تواريخ الدول والملوك لنتعلم ، وندرس سير الأنبياء لنتأسى بهم ، وندرس تجارب الأمم ونرى ما وقعت فيه من الأخطاء لننجو بأنفسنا عن المذلات ومواطن الضرر ، وهذه أعظم فوائد التاريخ في نظر دارسيه 
ويوضح ما سبق ما قاله " ابن خلدون " في مقدمته " أعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم وسياستهم ، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا ، فهو محتاج إلى مأخذ متعددة ومعارف متنوعة ، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق ، وينكبان به عن المذلات والمغالط "
وللتاريخ أهمية عظمى في بناء الأمم ، والمحافظة على هويتها وشخصياتها بل وعلى قوتها ، وقدرتها على الشموخ ، والاستطالة والاستمرار فهو جذور الأمة التي تضرب بها في الأعماق ، فلا تعصف بها الأنواء ، ولا تزلزلها الأعاصير ، ولا يفتنها الأعداء 00 وهو ذاكرة الأمة ، والذاكرة للامة كالذاكرة للفرد تماماً ، وبها تعي الأمة ماضيها ، وتفسر حاضرها ، وتستشرف مستقبلها .
والتاريخ ليس هو الحوادث ، وإنما هو تفسير هذه الحوادث واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها ، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات ، متفاعلة الجزئيات ، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان
وعن قيمة التاريخ يذكر المفكر " مالك بن بنى " إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدى إلى نتائج نظرية فحسب ، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة ، فهي تحدد موقفنا أمام الأحداث ، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها .
والتاريخ ليس علم الماضي ، بل هو علم الحاضر ، والمستقبل في واقع الأمر وحقيقته ، فالأمة التي تستطيع البقاء ، هي الأمة التي لها ضمير تاريخي ، ومعرفة التاريخ ، وعشق له ، والتاريخ أيضا " عرض الأمة " كما سماه كاتب العربية الأكبر " عباس محمود العقاد " ، ورحم الله أمير الشعراء حين قال :
مثل القوم أضاعوا تاريخهم كلقيطٍ عيّ في الحي انتسابا
ويشير "محمد قطب " إلى الغاية التي من أجلها يدرس التاريخ ليس مجرد أقاصيص تحكى ، ولا هو تسجيل للوقائع والأحداث ، إنما يدرس التاريخ للعبرة  ويدرس للتربية -تربية الأجيال بسم الله الرحمن الرحيم ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ، ما كان حديثاً يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))صدق الله العظيم (يوسف الآية 111 )
لقد أصبح التوجه صوب التاريخ والتعامل معه كمعطى ثقافي ، أو كمورد من أهم موارد التشكيل الثقافي ، من الأهمية بمكان ، لأنه يعتبر إلى حد بعيد من ضرورات الخصوصية الثقافية ، وعلى الأخص في عصر العولمة ، ومحاولات طمس الهوية وتذويب الخصوصيات ، وفرض ثقافة وتاريخ الغالب باسم التطبيع أو نهاية التاريخ والنزوع إلى العالمية والإنسانية
"فالتاريخ هو ذاكرة الأمة ومخزون تراثها الثقافي ، ومناخ عمليات التفكير وتحديد الوجه ، وحامل قسمات شخصياتها الحضارية ، وهو من أهم عوامل الارتكاز الثقافي ، وهو مفتاح لكل نهوض أو إصلاح أو تغيير ، في صفحاته تقرأ الأمم والشعوب ، ويكتشف دليل التعامل معها ، ومن خلال استقرائه تعرف السنين الفاعلة في الحياة ، والقوانين التي تحكم الفعل التاريخي ، وتحقق العبرة التي تختزل لنا التجربة ، وتطوى مسافة الزمان والمكان ، وتمد أعمارنا إلى الماضي البعيد وتوجه أبصارنا إلى أفق المستقبل وعالم الغد المديد وتمنحنا الحكمة ، وتزكى عقولنا ، وتنمى معارفنا ، وتمنحنا القدرة على الموازنة والمقارنة والفهم والتحليل والتعليل"
ولقد قال أسلافنا القدماء – من علماء التاريخ وكتابه "أن قراءة التاريخ تضيف لقارئه عمراً ثانياً ، وإنها من ثم – تضاعف العمر ، لأنها تضيف إلى عمر القارئ عمر الشعوب والقادة والأبطال الذين قرأ تاريخهم عن طريق إكسابه خبراتهم ، وجعله يعيش ما عاشوا من أحداث ووقائع وأيام"
ولما كان كلام أسلافنا القدماء عن قارئ التاريخ ، فأننا نستطيع أن نضيف هنا أن الوعي بالتاريخ يكسب أصحابه إلى جانب عمرهم وعمر أسلافهم أيضاً عمر الأجيال التي لم تأتى بعد ، لأن الوعي بالتاريخ تتجاوز فائدته وثمراته حدود الاستفادة بهذا الوعي في حياتنا الحاضرة وبناء واقعنا المعاش ، إلى التأثير في المستقبل القريب منه والبعيد ، ومن ثم فنحن نضيف إلى أعمارنا إذا وعينا تاريخنا أعمار الأقدمين ونسهم كذلك في زيادة أعمار الأجيال القادمة بما نضعه على ضروبها من أضواء ، وما نقدمه لتجاربها وخبراتها من إضافات .
إن الوعي بالتاريخ ليس حفظاً للذاكرة وتسجيلاً للحدث ، وإنما إعمالاً للتفكير ، واستنتاجاً للعبرة والعظة ، وامتلاك المؤهل لاستيعاب الحاضر وتفسيره ، والتبوء بتداعياته ومآلا ته وعواقبه ، وكذلك فإن الوعي التاريخي هو من أهم الموارد الثقافية والمعرفية ، لثقافة الحاضر ورؤية المستقبل ، وأن القطيعة التاريخية تجعل التعامل مع الحياة نوعاً من الخبط الأعشى
والتاريخ يختص بدراسة الحاضر وجذوره الضاربة في الماضي القريب والبعيد ، وهو يتتبع قصة الإنسان ونشأته وتطوره وعلاقاته ومشكلاته ، الأمر الذي يشارك في إيضاح جذور منابع ذلك الحاضر الذي يعيش فيه ويحدد اتجاهات المستقبل ومن خلال دراسة التاريخ تتاح فرصة التعرف على المشاكل العالمية المعاصرة وأسبابها ، والعلل وتعيين مداها ، ونوع أثرها
ويشير " استراير " stroyer إلى أن دراسة التاريخ تعين الإنسان على مواجهة المواقف الجديدة لا لأنها تقدم له أساساً للتنبؤ بما سيكون ، ولكن لأن الفهم الكامل للسلوك الإنساني فى الماضي يتيح الفرصة للعثور على عناصر مشتركة بين مشاكل الحاضر والمستقبل مما يجعل حلها حلاً ذكياً أمراً ممكناً
بينما يذكر " ستيوارت هيوز " إن التاريخ كان يعد نفسه دائماً علماً شاملاً وعلماً وسيطاً ، وقد كان التاريخ في الماضي يربط الشعر بالفلسفة ، وهو اليوم يربط الأدب بعلم الاجتماع ، وما دام لكل شيء تاريخه ، فإن التاريخ كعلم يشمل كل شيء ، حتى الكاتب الصغير الذي يدرس مبادئ التأمين ، يجد نفسه يدرس إلى حد ما تاريخ التأمين ، وبذا يصبح التاريخ ميدان التقاء كثير من العلوم .
ويهتم التاريخ بالعلاقات والمشكلات المختلفة متتبعا نشأتها وتطورها ، والنتائج التي ترتبت على هذا التطور ، ويلقى أضواء من الماضي على ما هو كائن في الحاضر من هذه العلاقات والمشكلات والسلوك ، ويبرز في كل هذا أدوار البطولة والقيادات وجهاد الشعوب والنتائج التي ترتبت عليها.
ويؤكد " سالم أحمد محل " على أهمية تعلم التاريخ بقوله " فالتاريخ هو ذاكرة الأمة ومخزون تراثها الثقافي ، ومناخ عمليات التفكير وتحديد الوجهة ، وحامل قسمات شخصياتها الحضارية ، وهو من أهم عوامل الارتكاز الثقافي ، وهو مفتاح لكل نهوض أو إصلاح أو تغيير ، في صفحاته تقرأ الأمم والشعوب ، ويكتشف دليل التعامل معها ، ومن خلال استقرائه تعرف السنين الفاعلة في الحياة والقوانين التي تحكم الفعل التاريخي ، وتحقيق العبرة التي تختزل لنا التجربة ، وتطوى مسافة الزمان والمكان وتمد أعمارنا إلى الماضي البعيد ، وتوجه أبصارنا إلى أفق المستقبل وعالم الغد المديد ، وتمنحنا الحكمة ، وتزكى عقولنا ، وتنمى معارفنا ، وتمنحنا القدرة على الموازنة والمقارنة والفهم والتحليل والتعليل ، وتحرضنا على التفكير فى أسباب السقوط والنهوض ، لذلك اعتبر القرآن التاريخ مصدراً للمعرفة ، ودعا إلى السير فى الأرض لاستيعابه ، واستنكر الركود ، وعدم الاكتشاف الحضاري
قال الله تعالى "( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) – 
( سورة الروم الآية 9) 
ويتفق " هيوم اتكن " مع ما سبق بقوله " إن الهدف من الدراسة التاريخية أكثر من مجرد الوقوف على الحوادث وعلى النحو الذي وقعت فيه ولكن لا بد من فهم هذه الحوادث والكشف عن وحده الارتباط بين بعضها وللكشف عن الصلة بين الأحداث واستخراج العبر والعظات منها للاستفادة منها في فهم الواقع الذي نعيشه الآن
ويذكر المؤرخ الإنجليزى " آرثر مارفيك " فى كتابه المسمى " طبيعة التاريخ " وهو من الكتب الدراسية الجامعية المعتمدة واسعة الانتشار في جامعات أوروبا وأمريكا قال " مارفيك " " وإذن فالتبرير الأساسي للدراسة التاريخية هو أنها ضرورية ، فهي تسد حاجة غريزة إنسانية أساسية وتفي بحاجة أصلية من حاجات البشر الذين يعيشون في المجتمع


احمد عبد اللطيف 


هناك 4 تعليقات: