الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الثامن عشر

الجزء الثامن عشر: مملكة كندة
1- كندة قبل عهد الملكية:
يكاد يجمع النسابون على أن كندة، إنما هي قبيلة قحطانية تنسب إلى كندة وهو "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة"، الذي ينتهي نسبه إلى "كهلان بن سبأ"، وأن مساكنهم إنما كانت في جبال اليمن الشرقية مما يلي حضرموت، وأن مدينة "دموت" كانت حاضرة لهم، ويرى "ألبرت جام" أن أرض كندة، إنما كانت إلى الجنوب من "قشم"؛ ذلك لأن نقش "جام 660" يضعها بين حضرموت ومذحج.
على أن فريقا من الكتاب العرب، إنما يعتبر الكنديين مهاجرين إلى اليمن من البحرين والمشقر، بينما يرى فريق آخر أن الكنديين عدنانيون، وأنهم كانوا يقيمون في دهرهم الأول في "غمر كندة"، أي في مواطن العدنانيين، ولعل هذا الخلاف في نسب كندة إنما يدل على اختلاط القوم بين العدنانيين والقحطانيين، ربما بسبب عدم استقرارهم في مناطق معينة، وربما بسبب اضطراب المؤرخين العرب في نسب الكنديين، بعد اختلاطهم بعرب الشمال، اختلاطا أصبحوا به وكأنهم منهم.
وتعرف كندة في النقوش العربية الجنوبية بكدت "أو كدة بتشديد الدال"، ونقرأ في نقش "جام 635"، والذي يرجع إلى عهد الملك "شعر أوتر"، أن "ربيعة" من آل ثور، كان ملكا على كندة، وعلى قحطن "قحطان" وأنه كان يحارب في صفوف أعداء الملك "شعر أوتر"، وهذا يعني أن كندة كانت ذات كيان سياسي، منذ القرن الأول قبل الميلاد، إذا أخذنا برأي "جام" من أن حكم "شعر أوتر" كان في الفترة "65-50ق. م"، ومنذ أخريات القرن الثاني قبل الميلاد، إذا أخذنا بتقدير غيره من المؤرخين، هذا فضلا عن أن ربيعة ملك كندة كان يحكم كذلك قبيلة قحطان، المتحالفة مع كندة، ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أنه من اسم قحطان هذا، أخذ الإخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانية.
وفي عهد "الشرح يحصب" كانت كندة لا تزال مملكة مستقلة، وقد شارك ملكها "مالك"، ملك دويلة "خصصتين" بأرض عدن، المسمى، "امرئ القيس بن عوف" في الهجوم على قوات "الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، إلا أنهما منيا بهزيمة منكرة، انتهت بأسر ملك كندة، ومجموعة من أشرافها، ثم أخذوا إلى مدينة "مأرب" "وربما كانت إحدى مدن شعب مرب الذي يسكن أرض عدن، وليست مأرب مدينة سبأ المشهورة"، وعلى أي حال، فلقد أطلق سراحهم آخر الأمر، بشروط منها أن يبقى ولدا ملكي كندة وخصصتين كرهينة عند "الشرح يحصب"، وأن يتعهد الملكان بعدم التحرش بقوات ملك سبأ وذي ريدان، ومساعدتها ضد أعدائها، ومنها أن يبقى أبناء الأشراف من كندة وخصصتين رهينة عند ملك سبأ.
وسرعان ما فقدت كندة بعد ذلك استقلالها، ونعرف من نقشي "جام 660، 665" أنها أصبحت تابعة لدولة "ملك سبأ وذى ريدان وحضرموت ويمنت"، وأن "شمر يهرعش" قد عين عليها واليا من قبله، رفعت درجته في عهد "ياسر ينعم" إلى درجة "كبير"، وهي من أعلى الوظائف في ذلك العهد.
وأما أقدم من تحدث عن كندة من الأغارقة والرومان، فهو "نونوسوس" وقد دعاها "Kindynoi"، كما ذهب إلى أنها -وكذا قبيلة معد- من أشهر القبائل العربية، وأن حاكمها على أيامه إنما هو "قيس" Kaisos، وربما كان آخر مرة يرد فيها اسم كندة في النقوش العربية الجنوبية، إنما كان في نقش أبرهة من القرن السادس الميلادي.
ويذهب الأخباريون إلى أن جماعات من كندة قد غادرت مواطنها في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، واتجهت شمالا حتى نزلت في مكان دعي فيما بعد "غمر كندة" أو "غمر ذى كندة" وهي أرض لبني جنادة بن معد في نجد، وتقع وراء "وجرة" على مسيرة يومين من مكة "باقوت 4/ 212" على أن الأخباريين غنما يختلفون في أسباب هجرة الكنديين إلى الشمال، فذهب فريق إلى أن السبب كان حربا استعر أوارها بين حضرموت وكندة، ثم طال أمدها حتى كادت أن تقضي على الكنديين، ومن ثم فقد اضطروا إلى النزوح إلى الشمال، فرارا بأنفسهم من الفناء.
ويرى آخرون أن السبب إنما كان لأن "حسان بن تبع" كان آخا لحجر آكل المرار من أمه، وأن "حسان" كان قد دوخ بلاد العرب وسار في الحجاز "ربما حوالي عام 480م"، وعندما أراد العودة إلى اليمن ولى أخاه حجرا على معد بن عدنان كلها، فنجح في ولايته، وأحسن السيرة في رعيته حتى لم يرضوا به وبا له بديلا، على أن "ابن خلدون" إنما يذهب إلى أن التبابعة إنما كانوا يصاهرون "بني معاوية بن عنزة" الذين كانوا يملكون في "دمون"، وأنهم كانوا يولونهم على بني معد بن عدنان في الحجاز، وأن أول من ولي منهم إنما كان حجرا آكل المرار، وأن الذي ولاه، إنما هو "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة.
وهناك رواية رابعة تذهب إلى أن سفهاء بكر قد غلبوا عقلاءها، وأن القوي منهم قد أكل الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم، ثم استقر رأيهم آخر الأمر، أن يملكوا عليهم ملكا يأخذ للضعيف من القوي، فنهاهم العرب، وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم؛ لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، ومن ثم فقد ساروا إلى بعض تبابعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطلبوا منهم أن يملكوا عليهم ملكا، فكان ذلك الملك هو حجر آكل المرار.
وعلى أي حال، فربما كانت هذه الروايات جميعا، إنما تمثل مرحلتين من تاريخ كندة، الأولى وتمثل الهجرة من اليمن إلى نجد، والثانية وتمثل مرحلة استقرار الكنديين في مواطنهم الجديدة، وكيف كونوا لهم إمارة في نجد، ومن ثم فيمكن القول أن هذه المرحلة الثانية إنما تمثل التاريخ الحقيقي لكندة.
ومن ثم فإذا كان لنا أن نختار رواية، نميل إلى أنها ربما كانت أقرب إلى الصواب من غيرها، فربما كانت الرواية التي تذهب إلى أن ملك حمير قد أقام حجرا زعيما على عدة قبائل كان ملك حمير قد أخضعها في وسط شبه الجزيرة العربية، فقامت بذلك دولة يحمل رؤساؤها لقب "ملك"، وتفرض سلطانها على منطقة واسعة، وإن كان بحكم الضرورة سلطانا محدودًا.
ولعل الهدف من إقامة دولة كندة، أن التبابعة لجئوا إلى ذلك كوسيلة للسيطرة على الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية، حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، بخاصة وأن الدول الكبرى القائمة على تخوم الصحراء، إنما كانت وقت ذاك تحاول أن تؤلف القبائل إليها لتحمي حدودها من غزواتها، وتمدها بالجند، وتسير معها في الحروب متحالفة على أعدائها، فإذا كان ذلك صحيحا، فإن تولية حجر آكل المرار، تكون سياسية يمنية حكيمة، فقد كانت عصبة حجر يمنية، وكان هو من أسرة تولت الملك في بلادها الأولى، ثم إن هذه الأسرة كانت قد استقرت في الشمال منذ فترة عرفت فيها اتجاه العصبيات وفهمت العقلية الشمالية، وهكذا يكون ملوك حمير قد حققوا من إقامة دولة كندة، ما حققه الروم من إقامة دولة الغساسنة، والفرس من إقامة دولة اللخميين، وتصبح كندة لتبابعة اليمن، ما كان اللخميون للفرس، والغساسنة للروم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات العربية عن تأسيس مملكة كندة، تجد لها تأييدا في نقش عربي جنوبي -هو نقش "ريكمانز509"- يتحدث عن حملة قام بها الملك الحميري "أب كرب أسعد" هو وابنه "حسن يهأمن" واشتركت فيها كندة، هذا إلى أن هناك مخربشة عربية جنوبية تتحدث عن "حجر بن عمرو" ملك كندة.
2- ملوك كندة:
عرفت كندة لدى الأخباريين بكندة الملوك، ربما لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان؛ ولأنهم نصبوا أولادهم على القبائل، ولأنهم كانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى آكل المرار، لأنهم كانوا ملوكا، ولأنهم "ساسوا العباد وتمكنوا من البلاد"، على أنه يجب أن نشير إلى أن مملكة كندة لم تكن مملكة بالمعنى المعروف، وإنما كانت أقرب ما تكون "اتحادا فدراليا" "Cofederation قبليا، تشغل فيه قبيلة كندة مركز الصدارة، وتتولى فيه الحكم أسرة من أسرها.
وأيا ما كان الأمر، ففي الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي، وربما في حوالي عام 480م، أصبح "حجر بن عمرو آكل المرار" ملكا على كندة في قلب نجد، وانتزع جانبا من الأرض التي كانت تحت سيطرة المناذرة، ثم نزل في مكان يدعى "بطن عاقل" -جنوب وادي الرمة على الطريق بين مكة والبصرة، وهكذا -كما يقول الدكتور عمر فروخ- تسرب النفوذ الأجنبي إلى مكان جديد في شبه الجزيرة العربية، نفوذ رومي مناهض لنفوذ الفرس في الحيرة، ومغلف بسياسية يمنية ظاهرة، إلا أننا لا يمكننا أن نقبل وجهة النظر هذه ببساطة؛ ذلك لأن الدكتور فروخ نفسه يوافق الروايات العربية التي ذهبت إلى أن الذي أقام حجرا ملكا على كندة، إنما هم الحميريون وليس الروم أو الأحباش، كما أن اليمن لم تكن وقت ذاك تسير في فلك النفوذ الرومي أو الحبشي، فضلا عن أن ملوك كندة إنما عملوا بعد ذلك عند الفرس، وليس عند الروم أو الأحباش، كما سوف نرى وإن تحالفوا مع الروم حينا من الدهر.
وعلى أي حال، فإن حجرا، إنما يدعى عند المؤرخين العرب "آكل المرار"، ويعللون ذلك بقصة خلاصتها: أن حجرا قد سار بقبائل ربيعة لغزو البحرين، فعلم بذلك "زيادة بن الهبولة" من سليح بن حلوان، فأغار على غمر كندة، وقتل من وجد من الرجال، واستولى على الأموال، وسبى النساء، ومن بينهم "هند" زوج حجر نفسه، وما أن يعلم حجر بهذا الأمر، حتى يسرع فيدرك زياد عند "البردان"، فينزل على ماء يقال له "الحفير" -على مقربة من عين أباغ بين الفرات والشام- ويرسل رجالا ليأتوه بخبر زياد، وهنا يعلم -عن طريق رجل يقال له سدوس- أن هندا إنما هي راضية عما حدث، وأنها قد أجابت زيادا عندما سألها عن موقف حجر: "إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر -يعني قصور الشام- وكأنني به في فوارس من بني شيبان، يذمرهم ويذمرونه، وهو شديد الكلب، تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارًا، فالنجاء النجاء، فإن وراءك طلبا حثيثا وجمعا كثيفا، وكيدا متينا، ورأيا صليبا". وما أن ينتهي "سدوس" من روايته، حتى يعبث حجر بالمرار، ويأكل منها، غضبا وأسفا، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب، فسمي يومئذ "بآكل المرار" أو أنه -على رواية أخرى- كان يوما على سفر، فلما لم يجد ما يأكله أكل المرار حتى شبع، وأيا ما كان الأمر، فإن معركة حامية الوطيس سرعان ما تدور رحاها بين الفريقين، ينال فيها "زياد" هزيمة منكرة، ثم يقع في أسر "سدوس"، وتنجح بكر في استرداد ما سلبه زياد من غنائم وسبي، ثم يأخذ حجر هندا فيربطها في فرسين، ثم يركضهما، فشقاها نصفين على رواية، وأنه قد أحرقها على رواية أخرى، ثم عاد إلى الحيرة.
وفي الواقع أن الرواية على هذا النحو، إنما تعترضها عقبات عدة، منها:
"أولا" أن هناك من يرى أن الذي هاجم ديار حجر، إنما هو الحارث بن الأهيم بن الحارث الغساني على رواية، والحارث بن جبلة على رواية أخرى، ودون ذكر اسم الذي أغار على غمر كندة، على رواية ثالثة، وهو الحارث بن منذلة الضجعي من بني سليح، على رواية رابعة، وهو عمرو بن الهبولة الغساني على رواية خامسة، وهكذا يختلف الإخباريون في الرواية بصورة تلقي ظلالا من شك على صحتها من أساس.
"ثانيا" أن الأسيرة -في رواية أخرى- ليست هندا، وإنما هي قينة من أحب قيان حجر إلى نفسه.
"ثالثا" أن ابن الأثير، سرعان ما يدرك الخطأ في الرواية؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام عمالا للروم، ثم خلفهم الغساسنة في مكانتهم هذه، وأما الحيرة فقد كانت ملكا للخميين، ومن ثم فإن عودة حجر للحيرة بعد انتصاره على "زياد" لا تتفق والحقائق التاريخية، صحيح أن الفرس على أيام "قباذ" "448-531م" قد استعملوا ملوك كندة على الحيرة، ولكن صحيح كذلك أن ذلك إنما حدث بعد وفاة "آكل المرار"، وعلى أيام حفيده "الحارث"، ثم إن "زياد بن الهبولة" هذا، إنما كان يعيش قبل "آكل المرار" بفترة طويلة، ومن ثم فإنه يفترض أن "زيادا" إنما كان رئيسا على قوم، أو متغلبا على بعض أطراف الشام، أضف إلى هذا كله أن هناك من يرى أن الذي غزا آكل المرار، إنما كان "غالب بن هبولة"، وأنه لم يشر إطلاقا إلى عودة آكل المرار إلى الحيرة.
وعلى أي حال، فلقد مات آكل المرار في "بطن عاقل" في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، وإن اتجه "أوليندر" إلى أن ذلك ربما كان في العقد الأخير من القرن الخامس الميلادي، معتمدا في ذلك على وفاة حفيده "الحارث" في عام 528م، وإن كان هناك من يرى أن "حجرا" إنما هو "Ogarus" المذكور في بعض التقاويم في حوادث أعوام 497م، 501، 502م، وقد ذكر معه أخ له يدعى "معديكرب" "Badicharimus"، فضلا عن حفيد يدعى "الحارث Aretha.
وخلف حجر آكل المرار ولده المعروف بالمقصور "عمرو بن حجر"؛ ربما لأنه اقتصر على ملك أبيه؛ وربما لأن "ربيعة" قد اضطرته إلى ذلك، وأنه لم يحمل لقب "ملك"، وإنما اكتفى بلقب "سيد كندة"، وأن اليمامة إنما كانت من نصيب أخيه معاوية المعروف بالجون، ويبدو أن "عمر بن حجر" كان على علاقة طيبة بملوك اليمن" ومن ثم فقد تزوج بنتا لحسان بن تبع أسعد الأكبر، كما كانت كذلك باللخميين، ولهذا فقد تزوج "الأسود بن المنذر" ملك الحيرة من "أم الملك" ابنة عمرو المقصور، فولدت له النعمان بن الأسود.
على أن علاقة عمرو المقصور هذا بالغساسنة إنما هي موضع خلاف بين المؤرخين، فذهب البعض إلى أنها كانت علاقة عدائية، وأن عمرا إنما كان في أحايين كثيرة يشن الغارة عليهم، حتى لقي حتفه آخر الأمر بيد "الحارث بن أبي شمر" الغساني بينما يذهب فريق آخر إلى أن العلاقات بينهما إنما كانت طيبة، وأن عمرا قد تزوج من "هند الهنود" بنت "ظالم بن وهب"، وكانت أختها "ماريا" زوجة للحارث الغساني الأكبر، وأن الذي قتل عمرا، إنما هو "عامر الجون" في "يوم القنان"، إبان ثورة ربيعة على عمرو المقصور، وذلك حين انتهزت فرصة الضعف في آل كندة على أيامه، وكان قد ظهر من بني تغلب في نفس الوقت رجل قوي، هو "وائل بن ربيعة" المعروف بكليب وائل، فانتزع من عمرو السيطرة على جميع قبائل ربيعة، أو أن قبائل ربيعة قد انحازت من تلقاء نفسها إلى "كليب"، ومن ثم فقد اضطر عمرو إلى أن يستنجد "بمرشد بن عبد ينكف الحميري"، الذي أنجده بجيش كبير، والتقى عمرو بكليب في ديار بني أسد -على مقربة من جبل القنان- فقتل عمرو في المعركة، وتحررت قبائل ربيعة من سيطرة آل كندة إلى حين.
وجاء بعد عمرو ولده "الحارث" من زوجه أم إياس أو أم إناس بنت عوف على رأي، ومن امرأة من بني عامر بن صعصة على رأي ثان، ومن بنت حسان بن تبع الحميري على رأي ثالث، ويرى الطبري أن "عمرو بن تبع" إنما أراد بهذا الزواج الإقلال من شأن بني أخيه "حسان بن تبع" بعد أن قتله بنفسه، وفي نفس الوقت الإعلاء من شأن عمرو بن حجر الكندي؛ ذلك لأن العرب لم تكن تطمع في مصاهرة هذا البيت العريق.
وقد اختلف المؤرخون في فترة حكم "الحارث بن عمرو المقصور" هذا، فبينما يحدد له أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم الفترة "495-528م"، يرى "كوسان ده يرسيفال" أنه حكم في الفترة "495-524م"، ويذهب "أوليندر" إلى أنه كان في الفترة "490-528م"، وعلى أي حال، فلقد كان الحارث أقوى ملوك كندة قاطبة، وأشدهم بأسأ، وأعظمهم شخصية، وأكثرهم طموحا، وقد ساعدته الظروف، فأصبح أعداؤه من بني بكر وتغلب -بعد حرب البسوس التي دامت أربعين عاما- في حالة ضعف شديد، ومن ثم فقد نجح في أن يعيد سلطانه على قبائل ربيعة في نجد، وعلى بني أسد وبني كنانة وبني بكر.
وتذهب الروايات العربية إلى أن الحارث قد كتب له نُجْحًا بعيد المدى في توسيع مملكة كندة، حتى أنه استطاع آخر الأمر أن يضم إليه ملك آل لخم، وأن يجلس على عرشهم في الحيرة نفسها، منتهزا الفرصة التي أتاحتها له الظروف التي كانت تمر بها الدول الشمالية "الروم والفرس والغساسنة والمناذرة"، ومن ثم فقد بدأ حوالي عام 497م بغزو فلسطين، إلا أن الحاكم الروماني قد ألحق بجيشه -الذي كان بقيادة ولده حجر- هزيمة منكرة، ولكن ما أن تمضي سنون خمسة حتى تصبح بيزنطة في موضع حرج، إذ تبدأ قبائل البلغار والصقالبة تتغلغل في تخوم الإمبراطورية الشمالية، ثم سرعان ما تعود الحرب بين الروم والفرس، من جديد في حوالي عام 502م، وهكذا رأى الإمبرطور الروماني "أنسطاسيوس" "491-518م" أن يخفف من مشكلاته، وأن يقلل من أعدائه، فعقد مع الحارث معاهدة تنص على أن يترك آل كندة مهاجمة الشام، وأن يتعاونوا مع الروم على قتال الفرس والمناذرة، وهكذا قام الروم في العام التالي "503م" -بمساعدة الحارث- بهجوم على الحيرة، واستولوا على قافلة.
ولم يكن الحال بالنسبة إلى الفرس، بأفضل منه بالنسبة إلى الروم، فعلى أيام قباذ "488-531م"، انتشرت الاضطرابات في أنحاء البلاد، وأصبح الأمر بيد "الموابذة" كما كان للأغنياء والإقطاعيين دور كبير في إدارة شئون البلاد، وهنا رأى قباذ أملاً في استرداد سلطانه، ورغبة في القضاء على الأغنياء، وعلى رجال الدين أن ينشر مبادئ "مزدوك" بين الناس، والتي تدعوا إلى نوع من الاشتراكية البدائية في الأموال والنساء، حيث إن الناس قد تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وأن الأغنياء قد اغتصبوا أرزاق الفقراء، ومن ثم فإنهم "يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدوك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأموال، لا يستيطع الامتناع عنهم".
وقد أدت هذه الأحداث إلى قيام ضد قباذ، انتهت بخلعه في عام 498م -وربما في عام496م- ولكنه استطاع أن يفلت من السجن، وأن يستعيد عرشه في عام 502 - أو عام 504م- طبقا لرواية يذهب الأخباريون فيها إلى أن أخته -بمساعدة واحد من ضباطه- قد لعبت الدور الأول في هروبه من السجن، بعد أن مكث فيه ست سنين.
وفي أثناء ذلك كان قباذ قد دعا "المنذر بن ماء السماء" إلى المزدكية فأبى، وأسرها قباذ في نفسه، وعندما عرض دعوته هذه على الحارث الكندي أسرع بإجابته إليها، ومن ثم فقد عزل المنذر عن عرش الحيرة، وأقام مكانه الحارث الكندي، فيما بين عامي 525م، 528م، على رأي، وفي حوالي عام 529م على رأي آخر، وهكذا اتسع ملك الحارث وعظم شأنه، وجعل أولاد ملوكا على القبائل، فكان "حجر" على بني أسد وغطفان، وكان "شرحبيل" على بكر بن وائل بأسرها، وعلى عدد من القبائل الأخرى، وكان "معد يكرب" على قيس بن عيلان وطوائف من غيرهم، وكان "سلمة" على بني تغلب والنمر بن قاسط، وعلى بني سعد بن زيد مناة من تميم.
على أن هناك من يذهب إلى أن العرب قد انتهزوا فرصة ضعف قباذ، فتواثبوا على المنذر بن ماء السماء، واضطروه إلى الهروب من الحيرة، ومن ثم فقد استدعي عرب الحيرة الحارث الكندي فملكوه على بكر، وحشدوا له وقاتلوا معه، ثم اضطر المنذر -بعد أن فشل في الحصول على مساعدة عسكرية من قباذ- إلى أن يخضع للحارث، وأن يتقرب إليه، وأن يتزوج من ابنته "هند" "عمة امرئ القيس الشاعر".
ويرى حمزة الأصفهاني أن الحارث الكندي كان قد طمع في ملك آل لخم، فانتهز فرصة ضعف قباذ، وباغت الحيرة، واضطر المنذر إلى الهرب إلى "الجرساء الكلبي" حيث بقي هناك حتى وفاة قباذ، وتولية كسرى أنوشروان الذي أعاده إلى ملكه.
على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن النعمان بن المنذر قد لقي مصرعه، في معركة دارت رحاها بينه وبين الحارث الكندي، وإن نجا منها ولده المنذر، وأمه ماء السماء، ومن ثم فقد أصبح الحارث الكندي يملك ما يملكون، وهنا بعث "قباذ" يطلب لقاء الحارث، ويبدو أن الأخير قد استشعر ضعف الملك الفارسي عندما التقيا، ومن ثم فقد بدأ يخطط لنفوذ أوسع في العراق على حساب الفرس، وهكذا أمر رجاله بأن يشنوا الغارة على السواد، ويعلم قباذ بالأمر، ويدرك أن الحارث أقوى شخصية، وأكثر دهاء مما كان يتصور، ومن ثم فقد عمل على أن يدرأه عن نفسه، فأعطاه بعض المناطق التي تقع في مجاورات الحيرة، إلا أن الحارث كان أكثر طموحا، ومن ثم فقد كتب إلى "تبع" ملك اليمن، يقول له: "إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ست طساسيح فاجمع الجنود وأقبل"، وتذهب الرواية بعد ذلك، إلى أن "تبعا" قد جمع الجنود وسار بهم حتى نزل الحيرة، ثم وجه ابن أخيه "شمر بن ذى الجناج" إلى قباذ، فحاربه وانتصر عليه ثم قتله بالري، وأما التقاء الحارث بقباذ، فقد كان -فيما يرى الويس موسل- في عام 525م، عند قنطرة الفيوم، وهي موضع لا يبعد كثيرا عن "هيث"، والتي يصفها "ياقوت" بأنها بلدة على الفرات، من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخل كثير وخيرات واسعة.
وهكذا تختلف الروايات في كيفية وصول الحارث الكندي إلى عرش الحيرة، فبعضها يزعم أن ذلك إنما كان بأمر من قباذ نفسه، بعد أن رفض المنذر اعتناق المزدكية، ومن ثم فقد حل الحارث مكانه في الحيرة، وأن الأخير قد اصطنع المنذر بعد ذلك، وزوجه من ابنته "هند"، وأن المنذر قد قبل بعد أن أصبح لا يملك من أسباب القوة ما يعيد إليه عرشه الأسلاف، ومنها ما يزعم أن الحارث إنما استولى على عرش الحيرة بحد السيف، فقد قتل النعمان بن المنذر، ثم أجبر "قباذ" بعد ذلك أن يزيد من أملاكه فيما وراء الفرات، ثم استعا بملوك اليمن الذين حاربوا قباذ فانتصروا عليه وقتلوه في الري، ثم استمروا يفتحون البلاد في إتجاه الصين شرقا، والقسطنطينية غربا.
إلا أننا رغم ذلك، نستطيع أن نستخلص من تلك الروايات المتضاربة أحيانا، والتي تمتلئ بالمبالغات أحيانا أخرى، حقيقة مهمة، وهي أن الحارث الكندي قد كتب له أن يجلس على عرش الحيرة حينا من الدهر، قد يكون في الفترة "525-528م" إبان فتنة المزدكية في إيران، وربما كان الحارث قد اتصل من قبل بالفرس بعد عقد صلح بينهم وبين الروم في عام 506م، اعتقادا منه أن العمل في جانب الفرس، ربما كان أفضل له منه في جانب الروم، ثم زحفت بكر وتغلب بعد ذلك من مواطنها القديمة في اليمامة ونجد نحو العراق، وأن الفرس قد أقروه على ذلك، مقابل جعل يدفعه لهم كل عام، إلى جانب أهداف أخرى أرادوا من ورائها كسر شوكة اللخميين في الحيرة، وضم الحارث القوى إلى جانبهم، خوفا من أن ينحاز إلى جانب الروم -أعدائهم التقليديين- وقد أدى ذلك كله- إلى جانب الخلافات بسبب المزدكية، فضلا عن ضعف قباذ العاهل الفارسي- إلى أن تسوء العلاقات بين الفرس وأتباعهم اللخميين، واستغل الحارث الفرصة، حتى انتهى الأمر باستيلائه على عرش الحيرة نفسه.
وأما استنجاد الحارث الكندي بملوك اليمن، وانتصارات هؤلاء الملوك في أرض العراق وما وراءها، فليس ذلك إلا من نوع الإشادة بماضي القحطانيين -الذي يردهه الكتاب العرب في صفحات كتبهم دائما، دونما ملل -فهم- دون العدنانيين- أصحاب التاريخ التليد والمجيد كذلك، وهم أصل العروبة وأول الناطقين بلغتها، فضلا عن التركيز هنا بصورة ملفتة للنظر، من أن دولة كندة ما كانت بقادرة على تحقيق مجد، أو إحراز نصر، دون عون يأتيها من الجنوب، من اليمن.
هذا وقد اختلف المؤرخون في مقر الحكم الذي اختاره الحارث الكندي في العراق، فبينما يذهب فريق إلى أنه في الحيرة، عاصمته اللخميين، يرى آخرون أنه في "الأنبار" -وتقع على مبعدة أربعين ميلا إلى الشمال الغربي من بغداد -على أن فريقا ثالثا رأى أن الرجل إنما كان سيارة في أرض العرب.
وأيا ما كان الأمر، فإن ملك الحارث لم يستمر طويلا في العراق، فما هو إلا أن مات قباذ في عام 531م، وآل أمر الفرس إلى "كسرى أنوشروان" "531-589م"، حتى اتخذ العاهل الجديد سياسة مناهضة للمزدكية، فقتل "مزدوك" وصلبه، كما قتل كبار أصحابه غدرا، ثم تتبع الزنادقة من المزدكية في كل أرجاء الإمبراطورية الفارسية، حتى قيل إنه قتل منهم في يوم واحد مائة ألف، وحتى قيل أنه اتخذ من هذا اليوم لقب "أنوشروان" أي "الروح الطيبة"، ثم طرد الحارث الكندي، وأعاد المنذر الثاث على عرش الحيرة، ربما بسبب المزدكية، وربما بسبب سياسية الحارث الكندي نفسه، إذ يبدو أن الرجل قد لجأ في أخريات أيامه إلى إيجاد علاقات طيبة بينه وبين الروم، مما كان سببا في قضاء كسرى أنوشروان على سلطته في الحيرة.
على أن المنذر الثالث، سرعان ما تتبع الحارث الكندي وأهله، حتى أسر اثني عشر أميرا من بني حجر بن عمرو، ثم قتلهم في دير بني مرينا -بين دير هند والكوفة- وإن كانت هناك رواية أخرى تذهب إلى أن المنذر قد لحق بالحارث في أرض كلب، فهرب الحارث تاركا ماله وإبله فانتهبها المنذر، وأسر ثمانية وأربعين من بني آكل المرار -من بينهم عمرو ومالك ولدى الحارث- فأمر المنذر بهم فقتلوا في ديار بني مرينا، على أن رواية ثالثة تذهب إلى أن الذين قتلوا الحارث إنما هم بني كلب، بينما تذهب رواية رابعة إلى أنه مات حتف أنفه بعد مطاردة لتيس من الظبا، دامت ثلاثة أيام، حتى إذا ما تمكن منه شويت له بطنه، فأكل فلذة حارة من كبده فمات، ثم دفن في "بطن عاقل" وإن ذهب "أوليندر" إلى أن هناك اضطرابا في الرواية العربية بين "حجر" الذي دفن ببطن عاقل، وبين حفيده الحارث.
وأيا ما كان الصواب في موت الحارث الكندي، فمما لا شك فيه أن ذلك المصير التعس الذي لقيه الرجل، ومن أسر من أهل بيته، إنما كان ضربة في الصميم وجهت إلى دولة كندة، وسرعان ما دب الشقاق فيها، فانحلت عراها بعد أن قتل أبناء الحارث واحدا بعد الآخر، وعاد إلى حضرموت من أهل كندة، هؤلاء الذين هاجروا من قبل إلى وسط شبه الجزيرة العربية.
ويبدو أن المنذر اللخمي لم يرضه ما ناله من بني الحارث الكندي، ولم يقتنع بما آل إليه أمرهم بعد موت أبيهم، إذ تفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع، وزحف إليه بالجيوش، وكان المنذر من وراء ذلك كله، حتى أنه وجه إلى "سلمه" بهدايا، ثم دس إلى "شرحبيل" من قال له: "إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر"، وما زال المنذر يغري كل واحد منهما بمحاربة الآخر، حتى نشبت الحرب بينهما، في يوم عرف بين العرب "بيوم الكلاب الأول"، أعلن كل فيه من الأخوين عن جائزة مقدارها مائة من الإبل لمن يأتيه براس أخيه، وكان يوما عصيبا اشتدت فيه الحرب حتى آخر النهار، وانتهى بقتل "شرحبيل".
ويذهب الرواة إلى أن "سلمة" سرعان ما أخرجه بنو تغلب من بينهم، فلجأ إلى بني بكر بن وائل، ثم انضم بنو تغلب إلى المنذر اللخمي، الذي بذل الجهد -كل الجهد- لطرد سلمه من ديار بني بكر، وانضوائهم تحت لوائه، إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح، ومن ثم فقد مصمم على غزوهم، بل وذبحهم -إذ ظفر بهم- على قمة أوارة، حتى يبلغ دمهم سفح الجبل، وهكذا كان "يوم أوارة الأول"، حيث اقتتل الفريقان قتالا شديدا، وانتهت المعركة بهزيمة بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله، مع جمع كبير من بكر.
وأما الابن الثالث "معد يكرب" فقد ظل بعد موت أبيه الحارث الكندي رئيسا على "قيس عيلان"، إلا أن الأحزان كانت قد هدت قواه بعد مقتل أخوية "شرحبيل وحجر" وبعد موت "سلمه" فاعتراه وسواس هلك به.
وأما رابع الأخوة "حجر بن الحارث" من زوجه "فطام بنت سلمة" فقد قتل أول إخوته، وإن كنا قد أخرنا قصته لنربط بينها وبين قصة ولده الشاعر المشهور "امرؤ القيس"، وحجر هذا، هو أكبر أبناء الحارث وأعظمهم جاها، ومن ثم فقد انتقل إليه عامة ملك كندة، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الباحثين يرون أن حجرا قد قام بغارة على اللخميين بعد وفاة أبيه الحارث، أملا في أن يسترجع ما فقده أبوه، وأن يعيد نفوذ كندة، كما كما على عهد الحارث، إلا أن الحملة لم يكتب لها نصيبا من نجاح.
وعلى أي حال، فلقد أثرت كل هذه الأحداث على دولة كندة، فعملت على إضعاف ملوكها وتضعضع نفوذهم، فكانت البداية تتمثل في خروج بني أسد على حجر، فامتنعوا عن أداء الإتاوة التي كان قد فرضها عليهم من قبل، ومن ثم فقد خرج عليهم حجر من تهامة -حيث كان يقيم- على رأس جيش كبير، وما أن وصل إلى ديار بني أسد في جنوب جبلي طيئ "أجأ وسلمى، ويعرفان اليوم بجبل شمر على جانبي وادي الرمة"، حتى قتل الكثير من أشرافهم، كما أخذ بعضا منهم -وعلى رأسهم عمرو بن مسعود الأسدي، والشاعر عبيد بن الأبرص- أسرى إلى تهامة، مما ترك أثرا سيئا في نفوس القوم، فعقدوا العزم على الانتقام- وما لبثوا أن نفذوا وعيدهم، وقتلوا الرجل.
وهناك رواية تذهب إلى أن حجرا لما علم أنه ميت، كتب وصيته ثم دفعها إلى رجل، أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجذع فليذهب إلى غيره، وهكذا حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فإن لم يجزع دفع إليه الوصية، وتستطرد الرواية إلى أن الرجل إنما وجد امرأ القيس في "دمون" من أرض اليمن، يلعب النرد ويشرب الخمر مع بعض رفاقه، فلما دفع إليه الرسالة لم يجزع، وإنما سأل الرحل عن أمر أبيه كله، فلما أخبره بما حدث، انتوى الثأر قائلا: "الخمر والنساء على حرام، حتى أقتل من بني أسد مائة، وأطلق مائة"، ثم قال قولته المشهورة: "ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحوا اليوم ولا سكر غد، اليوم خمر، وغدا أمر".
وامرؤ القيس هذا، هو أصغر أولاد "حجر بن الحارث الكندي" من زوجه "فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير التغلبية" وأخت "مهلهل وكليب بن وائل" على رأي، و"تملك بنت عمرو بن زبيد بن مذجح" رهط عمرو بن يعد يكرب، على رأي آخر،، وإن ذهب البعض إلى أن ذلك إنما كان لقبًا لها، وقد سمت العرب نساءها "تملك"، ويعرف امرؤ القيس بالملك الضليل، وبذى القروح، ويتجه بعض الباحثين إلى أنه قد ولد في حوالي عام "500م"، وتوفي في أنقرة في أثناء عودته من القسطنطينية، فيما بين عام 530، 540م، وإن ذهب البعض إلى أنه توفي في عام 565م.
وقد اختلف الباحثون في معتقد امرئ القيس الديني، فذهب البعض إلى أنه إنما كان وثنيا، شأنه في ذلك شأن معظم الجاهليين، كما كان يقسم بالقداح جريا على عادة الوثنيين، فضلا عن أن اسمه "امرؤ القيس" إنما يعني "مولى قيس"، وهو صن جاهلي، ولكن اللفظة إنما تعني كذلك "الشدة والبأس"، ومن ثم فالتسمية فروسية وليست دينية4، وذهب فريق آخر إلى إنما كان يعتنق المزدكية، بدليل إقباله على الملذات بطريقة تشبه أنصار المزدكية، وأن جده الحارث كان كذلك -كما أشرنا من قبل- غير أن خلق الشاعر العربي واعتزازه بشرفه، فضلا عن تمتعه بالصيد والقنص، ونذره قتل مائة من بني أسد، قد يتعارض مع اعتناقه المزدكية التي تحرم تلك الأشياء، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأنها قد أثرت فيه، وبخاصة في جانب الإباحية والتهتك في طلب اللذة.
هذا إلى أن هناك من يرى أن الشاعر الكبير إنما كان نصرانيا، اعتمادا على خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خاصة بالنصارى، وانتشار النصرانية في كندة، ثم طلبه العون من القيصر النصراني، وأخيرا نصرانية أمه فاطمة أخت المهلهل، غير أن الإقرار بالوحدانية لا يعني اعتناق النصرانية، فقد يكون الرجل يهوديا، كما أن نصرانية أمه لا تستدعي بالضرورة نصرانيته هو، وأما التجاؤه للقيصر النصراني؛ فلأنه الباب الوحيد المفتوح أمامه، بعد أن سدت في وجهه كل سبل العون من الأكاسرة، فضلا عن أعدائه أمراء الحيرة.
وعلى أي حال، فإن الروايات العربية تذهب إلى أن حجرا قد طرد ولده امرئ القيس، وأصر على أن لا يقيم معه، أنفة من قوله الشعر، على غير عادة أبناء الملوك، فضلا عن التغزل بالنساء غزلا، ربما كان غير بريء في كثير من الأحايين، بل إن البعض قد ذهب إلى أن الأمر قد وصل بامرئ القيس إلى أن يتغزل بامرأة من نساء أبيه، وهكذا أخذ امرؤ القيس يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب، يشرب الخمر على الغدران، ويتغزل في النساء، وظل كذلك حتى أتاه خبر مقتل أبيه، فأقسم ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره.
على أنه هناك من يرى أنه ليس في التاريخ الثابت ما يدل على أن أباه قد طرده من منزله، ولا أنه كان يوم مقتل أبيه يشرب الخمر في دمون، وإنما كان مع إخوته وأعمامه في المعركة التي قتل فيها أبوه، ثم فر منها معهم، حتى عيره بذلك شاعر بني أسد "عبيد بن الأبرص".
وأيا ما كان الأمر، فلقد جد امرؤ القيس في أن يأخذ بثأر أبيه -بعد أن فشل أعمامه وإخوته في ذلك- ومن ثم فقد نزل بكر وتغلب، وسألهم النصر على بني أسد، وحين أجابه القوم إلى سؤاله، بث العيون على بني أسد، فعلم أنهم قد لجئوا إلى بني كنانة، ومن ثم فقد بدأ هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني أسد قد ساروا بالأمس، فأسرع إليهم حتى إذا ما أدركهم أنزل بهم هزيمة قاسية، أدرك بها ثأره، ومن ثم فقد أبت بكر وتغلب أن تستمر في القتال بعد ذلك.
كان من المنتظر أن يستنجد امرؤ القيس بملوك اليمن من حمير، ولكننا نعلم أن ملك اليمن إنما كان وقت ذاك بيد الأحباش، ولم يكن للحبشة -ولا للروم من ورائهم- مصلحة في مساعدة امرئ القيس على الطلب بثأر أبيه؛ لأن المستعمر لا يأبه لأهل خدمته إلا إذا كانوا أقويا؛ لأنه يريدهم ليدافعوا عنه، لا ليدافع عنهم، وهكذا اضطر امرؤ القيس إلى أن يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتله أبيه، فمنهم من كان يقف إلى جانبه، ومنهم من كان يرفض مساعدته خشية بني أسد، وخوفا من إغضاب المناذرة والفرس، بخاصة وأن المنذر بن ماء السماء كان يسعى للإيقاع بامرئ القيس، الأمر الذي لم يكن له به طاقة، وكذا القبائل التي كان يرجو مساعدتها.
وأخيرا قرر امرؤ القيس أن يذهب إلى القسطنطينية ليستنجد بملك الروم، وقد دفعته حاجته إلى المال إلى أن يذهب إلى تيماء، وأن يرهن سلاحه ودروعه عن السموأل، أن أنه إنما تركها هناك وديعة عند الشاعر اليهودي، الذي كتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، يطلب إليه فيه أن يتوسط لشاعر كندة عند الإمبرطور الروماني، ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه، وخاصة وأن ملوك الحيرة، وهم عمال الفرس أعداء الروم، قد مدوا لهم يد العون.
ويصل امرؤ القيس إلى القسطنطينية، ويستقبله الأمبراطور "جستنيان" "527-565م" استقبالا حسنا، وإن لم يقدم له المساعدة المطلوبة، فالنجدة التي طلبها امرؤ القيس كبيرة جدا، والجيش الرومي لم يكن مستعدا للقتال في الصحراء، ثم إن الغاية التي جاء من أجلها امرؤ القيس -وهي الأخذ بثأر رجل واحد- كانت بعيدة عن سياسة الروم ومألوفهم، فضلا عن أن الإمبراطورية الرومانية كانت مهددة بهجمات البرابرة، ومن ثم فالإمبراطور في حاجة إلى الدفاع عن إمبراطوريته نفسها.
وهناك رواية تذهب إلى أن الإمبراطور جستنيان قد أكرم امرأ القيس، وأصبحت للشاعر الكندي منزلة رفيعة عنده، وأنه كان يدخل معه الحمام، وأن امرأ القيس قد أحب ابنة القيصر وأنه كان يأتيها وتأتيه، فبلغ ذلك بني أسد، فأرسلوا رجلا منهم يدعى "الطماح"، وصل في وقت سير فيه القيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا، وهنا أعلم الطماح القيصر بقصة ابنته مع امرئ القيس، وأن الأخير قد قال فيها أشعارا أشهرها بها في العرب، فبعث القيصر إلى امرئ القيس بحلة مسمومة، ثم مات في أنقرة، حيث دفن بجوار قبر امرأة من بنات الملوك، في سفح جبل يقال له "عسيب".
ويعترض الدكتور عمر فروخ على غضبة القيصر بسبب اتصال امرئ القيس بابنته، ويرى أن تلك رواية إسلامية متأخرة، وأن الحياة في البلاط الرومي مخالفة لما استنتجه المؤرخ المسلم، وأن الصلات الجنسية هناك أمرا مألوفا، حتى أن القياصرة كانوا يولون ويعزلون في ميادين الخيل، وفي مخادع النساء، والرأي عندي أن تفسير الأمور بهذه البساطة وتوجيه التهم للآخرين أمر غير مقبول في البحث العلمي، ثم إن القيصر، ما أظن أنه كان على المستوى الخلقي الذي ذهب إليه الدكتور فروخ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه هو نفسه يرى أن الغساسنة -وهم أقوى بكثير من امرئ القيس وأهم منه بالنسبة للروم- لم يكونوا إلا جباة ضرائب للروم من العرب، فضلا عن أن امرأ القيس، في ظروفه التي قدم من أجلها إلى القسطنطينية، لا يعدو أن يكون مستجيرا بالقيصر يطلب عونه في الأخذ بثأره، وفي أحسن الأحوال لاسترجاع ملكه، ليكون بعد ذلك صنيعة للروم، وفي كل ذلك ليس هناك ما يدعو القيصر لغض النظر عن فعلته هذه، إن كانت قد حدثت، وهذا ما نشك فيه؛ لأننا لا نملك دليلا واحدا على حدوثها، غير الروايات العربية، وما أكثر ما في هذه الروايات من جنوح إلى الخيال، حتى لو كان هذا الخيال، يتعارض مع الشرف، كما في روايتهم عن عملوق في جديس، والفيطون في يثرب، وابن عم بلقيس في سبأ، ولختيعة أيم ذى نواس، وعتودة مولى أبرهة الحبشي، وغير ذلك من الروايت الخيعة، والتي تعد رواية ابنة القيصر وامرئ القيس، هينة بسيطة بالنسبة إليها.
أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن "الطمح الأسدي" قد اتصل بجماعة من رجال القيصر بعد خروج امرئ القيس مع الجيش الذي أعانه به القيصر ليأخذ بثأره، وطلب منهم أن يبلغوا القيصر: "إن العرب قوم غدر، ولا نأمن أن يظفر امرؤ القيس بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه"، كما أن الحلة المسمومة التي زعم الرواة أنها كانت سبب وفاة امرئ القيس، ينفيها أن هناك رواية أخرى تزعم أنه كان مصابا بداء قديم كان مستكنا، ثم اتفق أن هاج في ديار الروم، ومن ثم فإنهم ينسبون إلى امرئ القيس أنه قال: "تأويني دائي القديم فغلسا"، وأن الدكتور فروخ نفسه، إنما يفترض أنه مات بالجدري في أنقرة زمن الشتاء القارص.
وأيا ما كان الأمر، فلقد مات امرؤ القيس، وانقطع آخر أمل في استعادة "بني آكل المرار" لملكهم في كندة، وأسرع الحارث بن أبي شمر الغساني، على رواية، والحارث بن ظالم على رواية أخرى، وبأمر من المنذر ملك الحيرة، إلى السموأل بن عاديا في حصنه الأبلق في تيماء، وطالبه بدروع امرئ القيس، وما تكر عنده من ودائع، غير أن السموأل أبى التفريط في دروع الشاعر الكندي وودائعه، ومن ثم فقد ذبح ابنه أمام عينيه، على أن هناك من يشك في نسب السموأل أولا، وفي صحة قصته مع امرئ القيس ثانيا، ويرى "هوجوفنكلر" أن قصة الوفاء هذه أسطورة استمدت مادتها من سفر صموئيل الأول، ومن الأساطير العربية التي تحدثت عن الوفاء.
وهكذا انتهت أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية واحدة، لها زعيم واحد، الأمر الذي لم ينجح إلا على يد مولانا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبصورة منقطعة النظير، ثم سرعان ما عادت عشائر كندة إلى الجنوب، حيث ساد منهم "قيس بن معد يكرب" ثم ابنه "الأشعث" الذي وفد إلى المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ستين أو سبعين من أشراف كندة، فأسلموا على يديه الشريفتين في المدينة المنورة، وعلى أي حال، فلقد تكونت بعد نهاية دولة بني آكل المرار، إمارة كندية في حضرموت، فضلا عن إمارات أخرى حكمها أمراء صغار، لا تتجاوز سلطة الواحد منهم مدينة أو واديا، وأشهرها تلك كانت في دومة الجندل والبحرين ونجران وغمر ذى كندة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق