الأربعاء، 26 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الأول

الجزء الأول: مصادر التاريخ العربي القديم.

أولًا: المصادر الأثرية.
منذ قرن واحد من الزمان، كانت معلوماتنا عن تاريخ بلاد العرب قبل الإسلام، تعتمد فقط على ما جاء في التوراة، وعلى ما كتبه القدامى من الأغارقة والرومان، وكان هذا كله شيئًا قليلا لا يشفي غليل العلماء، حتى لو أضفنا إليه بعض ما كتبه العرب عن تاريخهم قبل الإسلام، أو ما نستطيع أن نحصل عليه من معلومات إذا درسنا الشعر الجاهلي، إلا أن الأمر سرعان ما بدأ يتغير عندما أخذت النقوش اليمنية طريقها إلى أيدي العلماء، وقد أصبح عددها الآن أكثر من خمسة آلاف نقش، فيها الكثير من المعلومات عن ممالك شبه الجزيرة العربية، كما وصل إلى أيدي العلماء كذلك عشرات الآلاف من "المخربشات" القصيرة على واجهات الصخور في شمال بلاد العرب، بين ثمودية ولحيانية وسبئية وغيرها، فضلا عن تلك التي وجدت خارج شبه الجزيرة العربية كالنقوش الصفوية التي وجدت فوق جبال الصفا جنوب شرق دمشق، وهي قريبة -من حيث الخط واللغة وأسماء الآلهة- من النقوش الثمودية.
أضف إلى ذلك، تلك النقوش والكتابات غير العربية التي تطرقت إلى ذكر العرب، كما في بعض النقوش الآشورية والبابلية، والتي قدمت لنا معلومات قيمة عن بلاد العرب الشمالية، وعن علاقاتها بالإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، كما عرفنا من هذه النقوش -مثلا- أن المرأة العربية قد وصلت منذ القرن الثامن قبل الميلاد إلى منصب رئيس الدولة، كالملكة "زبيبة" والملكة "شمس" والملكة "تعلخونو" وغيرهن.
والأمر كذلك بالنسبة إلى النقوش المعينية أو السبئية في مصر أو في الحبشة، فضلا عن النقوش النبطية التي اكتشفت في بعض جزر اليونان، والتي تدل على المدى البعيد الذي بلغه أصحابها في النشاط التجاري والبحري، ومن هذا النوع ذلك النقش الذي اكتشف عام 1936م في جزيرة "كوس" ببحر إيجه، فضلا عن نقشين نبطيين وجدا بالقرب من "نابولي"، إلى جانب نقش ثالث وجد في "روما".
وهكذا أصبح لدينا الآن ما يساعدنا في تقديم صورة واضحة إلى حد ما، عما كان جاريًا في تلك البلاد منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وحتى ظهور الإسلام، أي مدى ألف وخمسمائة سنة، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أو الدينية أو الاقتصادية.
وهكذا تظهر لنا أهمية الآثار في دراسة التاريخ والحضارة، بل لعلها من أهم -إن لم تكن أهم- ما يجب أن يعتمد عليه المؤرخ في دراسته، فهي الشاهد الناطق الوحيد الباقي لنا من تلك الأيام الخوالي، ومن هنا كانت أهميتها في تقديم صورة للحياة العامة في كل مناحيها المختلفة، فمثلا عن طريق الكتابات المعينية الشمالية التي وجدت في "العلا" استطعنا أن نعرف منها أن المعينيين الشماليين كانوا يستخدمون الكتابة والديانة المعينية التي عرفها المعينيون الجنوبيون، واستخدموها في وطنهم الأصلي.
هذا وقد عرفنا عن طريق الوثائق الصفوية أن الصفويين هم وحدهم الذين نعرف عنهم شيئًا قبل أن يمتزجوا في الشعوب السامية الشمالية، إذ ظلوا محتفظين بالخط السامي الجنوبي واللغة السامية الجنوبية والعقائد السامية الجنوبية بل استطعنا أن نعرف عن طريق الجعارين المصرية، والأختام الساسانية، التي وجدت طريقها إلى بلاد العرب الجنوبية، أن نستنتج أن التبادل بين بلاد العرب الجنوبية وبين البلاد الأخرى، لم يكن مقصورًا على التجارة فحسب، بل تعداها إلى الفنون كذلك، وقد تركت هذه الفنون الأجنبية أثرها في الفن العربي الجنوبي.
على أنه يجب أن نلاحظ أن في هذه المصادر الأثرية نقاط ضعف كثيرة، منها "أولًا" أنها في معظمها تتشابه في مضمونها وفي إنشائها، لأنها تتعلق بأمور شخصية، كإنشاء بيت أو بناء معبد أو إقامة سور، ومن ثم فقد كانت أهميتها لغوية أكثر منها تاريخية، ولكنها في الوقت نفسه، قد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، لولاها لما عرفنا عنهم شيئًا، كما قدمت لنا بعض المعلومات عن العلاقة بين القبائل بعضها بالبعض الآخر، ومن هذا النوع نقش Cih.1450"" والذي يتحدث عن حرب دارت رحاها بين قبائل حاشد وحمير في مدينة "ناعط".
ومنها "ثانيًا" أن معظمها قد وجد في المعابد والقبور، ومن ثم فهي ذات صبغة دينية، ومنها "ثالثًا" أن النصوص اللحيانية عبارة عن "مخربشات" صغيرة، وبعضها -كما في النصوص المعينية الشمالية- ليست نقوشًا كاملة، وإنما هي أجزاء من نقوش، ذلك لأن معظم الأحجار التي دونت عليها النقوش إنما وجدت في غير أماكنها الأصلية، وقد استخدمها القوم أخيرًا كمواد للبناء، ومن ثم فقد وجدت في جدران المنازل وأسوار الحدائق في مدينة "العلاء"، وانطلاقًا من هذا، فإن الفائدة منها جد قليلة، كما أن قلة من العلماء هي التي كانت قادرة على ترجمتها، ومع ذلك فقد أفادتنا في معرفة أسماء بعض الآلهة.
ومنها "رابعًا" أن الكتابات المؤرخة منها قليلة، ومن ثم فلم تهدنا إلى تقويم ثابت يمكن القول أن العرب القدامى إنما كانوا يستعملونه، وطبقًا لهذا اتجه الباحثون إلى أن العرب إنما كانوا -كغيرهم من الشعوب القديمة- يؤرخون الأحداث طبقًا لسني حكم الملوك، بل إن القوم قد تجاوزوا ذلك إلى التأريخ بأيام الرؤساء وشيوخ القبائل وأرباب الأسر، بل إن البعض منهم قد أهمل التاريخ تمامًا، وإن كان الحميريون قد اتخذوا من قيام دولتهم في عام 115 قبل الميلاد "وربما عام 118ق. م أو عام 109ق. م"، تقويمًا ثابتًا يؤرخون به الأحداث.
هذا وقد أشار "المسعودي" إلى أن العرب قبل الإسلام إنما كانوا يؤرخون بتواريخ كثيرة، فأما "حمير" و"كهلان" أبناء سبأ، فقد كانوا يؤرخون بملوكهم، أو بما يقع لهم من أحداث جسيمة، فيما يظنون، كنار صوان التي كانت تظهر في بعض الحرار بأقاصي اليمن، وكالحروب التي كانت تنشب بين القبائل والأمم، فضلا عن التأريخ بأيامهم المشهورة, وكذا بوفاة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كما كانت قريش تؤرخ عند مبعث المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- بوفاة هشام بن المغيرة وبعام الفيل، ويذهب الطبري إلى أن العرب لم تكن تؤرخ بشيء محدد قبل الإسلام، غير أن قريشًا إنما كانت تؤرخ بعام الفيل، بينما كان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المشهورة، كيوم جبلة والكلاب الأول والثاني.
ثانيًا: المصادر غير العربية.
أولًا: الكتابات اليهودية.
1- التوراة:
أو "التورة" كلمة عبرية تعني الهداية والإرشاد، ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى "التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية" والتي تنسب إلى موسى -عليه السلام- وهي جزء من العهد القديم، والذي يطلق عليه تجاوزًا اسم "التوراة" من باب إطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى، والتوراة، أو العهد القديم -تمييزًا له عن العهد الجديد كتاب المسيحيين المقدس- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم وشرائعهم، ويقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس والأنبياء والكتابات".
هذا وقد تحدثت التوراة في كثير من أسفارها عن العرب وعلاقتهم بالإسرائيليين، كما جاء في أسفار التكوين والخروج والعدد ويشوع والقضاة وصموئيل -الأول والثاني- والملوك -الأول والثاني- وأخبار الأيام -الأول والثاني- ونحميا والمزامير وأشعياء وإرمياء وحزقيال ودانيال والمكابيين-الأول والثاني.
غير أن التوراة عندما تتحدث عن العرب، فإنما تهتم بالقبائل والأماكن العربية ذات العلاقة الاقتصادية باليهود في بعض الأحيان، وذات العلاقة السياسية في أحوال أُخَر، ولهذا نجدها عندما تتحدث عن القبائل في شبه الجزيرة العربية، فإنما تتحدث عنها على أساس أنها قبائل كانت لها علاقة بالعبرانيين، ثم هي قبائل متبدية في المكان الأول، إلا عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر.
وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات.
ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك.
2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:
ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نالتقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني.
وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م.
وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط.
ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان
وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية.
على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين.
ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"،فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف.
وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو".
وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3.
وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة.
وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60" على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر، وفي عام 80م على رأي ثالث، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس.
وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت.
ثالثًا: الكتابات المسيحية.
وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية.
ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية.
وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية.
هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس.
ثالثًا: المصادر العربية.
1- القرآن الكريم:
القرآن الكريم كتاب الله، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، نزل على مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- منجما في ثلاث وعشرين سنة، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت الآيات والسور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعها في مكان كذا ... من سورة كذا"، فقد ورد أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي، فيقول له: يا محمد: إن الله يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا"، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن "توقيفي" بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنما هو بأمر ووحي من الله".
وهكذا تمر الأيام بالرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وهو على هذا العهد، يأتيه الوحي نجمًا بعد نجم، كتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية، حتى إذا ما كمل التنزيل، وانتقل الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، كان القرآن كله مسجلا في صحف، -وإن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، ولم يلزموا القراء توالي سورها- وكذا في صدور الحفاظ من الصحابة، رضوان الله عليهم، هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار، والذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت.
ومن هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- لا يحصون، وتلك -وايم الله- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم، حين يسره للحفظ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} ، فكتب له الخلود وحماه من التحريف والتبديل، وصانه من أن يتطرق الضياع إلى شيء منه، عن طريق حفظه في السطور، وحفظه في الصدور، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}  وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.
وليس هناك من شك في أن القرآن الكريم، كمصدر تاريخي، أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق، فهو موثوق السند -كما بينا آنفًا- ثم هو قبل ذلك وبعده كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، فقد دون في البداية بإملاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتلي فيما بعد أمامه وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته، ولأن القصص القرآني إنما هو أنباء وأحداث تاريخية، لم تلتبس بشيء من الخيال، ولم يدخل عليها شيء غير الواقع، ثم إن الله -سبحانه وتعالى -قد تعهد- كما أشرنا آنفًا- بحفظه دون تحريف أو تبديل، ومن ثم فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: "والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله"، أي بما طلب إليهم حفظه.
غير أني أود أن أنبه -بعد أن أستغفر الله العظيم كثيرًا- إلى أن القرآن الكريم لم ينزل كتابًا في التاريخ، يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد للتي هي أقوم، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستورًا للمسلمين، ومنهاجًا يسيرون عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد، وإلى تهذيب النفوس، وإلى وضع مبادئ للأخلاق، وميزان للعدالة في الحكم، واستنباط لبعض الأحكام، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية، فإنما للعبرة والعظة.
إلا أن القرآن الكريم -مع ذلك- إنما يقدم لنا معلومات مهمة عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، كما أننا نجد في كتاب الله الكريم سورة كاملة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام -وأعني بها سورة سبأ- هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد -دون غيره من الكتب السماوية- بذكر أقوام عربية بادت، كقوم عاد وثمود، فضلا عن قصة أصحاب الكهف وسيل العرم، وقصة أصحاب الأخدود، إلى جانب قصة أصحاب الفيل، وهجرة الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك.
على أنه يجب علينا أن نلاحظ أنه رغم أن هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ لهذا القصص، وإنما عبرًا تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين، ومع ذلك فيجب أن لا يغيب عن بالنا -دائمًا وأبدًا- أن هذا القصص، إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} ، ويقول: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}  ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} ، ويقول: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} ، ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}  ويقول: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}.
2- الحديث:
الحديث هو ما ورد عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول أو فعل أو تقرير، وللحديث مكانة كبرى في الدين تلي مرتبة القرآن الكريم مباشرة، وصدق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي" ، والحديث الشريف مفسر للقرآن الكريم، ذلك أن كثيرًا من آيات الذكر الحكيم مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- فبينها أو قيدها أو خصصها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ومن هنا كان الحديث الشريف هو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، ثم هو أصدق المصادر التاريخية- بعد القرآن الكريم- لمعرفة التاريخ العربي القديم في عصوره القريبة من الإسلام بالذات.
وليس من شك في أن كتب الحديث وشروحها- رغم أنها مصدر فقهي أكثر منه تاريخي -مورد غني من الموارد الأساسية لتدوين أخبار الجاهلية فيما قبيل الإسلام، على أن الغريب من الأمر أن مؤرخي تلك الفترة قد تجاهلوا هذا المنهل الغزير، وبخاصة فيما يتصل بتاريخ عرب الحجاز، إلى حد كبير، ومن ثم فقد خسروا واحدًا من أهم وأصدق مصادر التاريخ العربي القديم.
3- التفسير:
نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى أساليب العرب وكلامهم، يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وهذا أمر طبيعي لأنه أتى يدعو العرب -بادئ ذي بدء- ثم الناس كافة، إلى الإسلام، ومن ثم فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها: تصديقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
ورغم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي، وفي بيئة عربية كانت تفاخر من نواحي الحضارة بفن القول، فإنه لم يكن كله في متناول الصحابة جميعًا، يستطيعون أن يفهموه -إجمالا وتفصيلا- بمجرد أن يسمعوه، لأن العرب- كما يقول ابن قتيبة- لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض.
إلا أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الصحابة على العموم كانوا أقدر الناس على فهم القرآن، لأنه نزل بلغتهم، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها، ومع ذلك فقد اختلفوا في الفهم حسب اختلافهم في أدوات الفهم، وذلك لأسباب، منها:
 "أولًا" أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم، وإن كانت العربية لغتهم.
 "ثانيًا" أن منهم من كان يلازم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ويقيم بجانبه، ويشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، ومنهم من ليس كذلك.
 "ثالثًا" اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في الجاهلية، استطاع أن يعرف آيات الحج في القرآن الكريم، أكثر من غيره ممن لم يعرف.
وهكذا نشأ علم التفسير لفهم القرآن وتدبره، ولتبيان ما أوجز فيه، أو ما أشير إليه إشارات غامضة، أو لما غمض علينا من تشابيهه واستعاراته، وألفاظه أو لشرح أحكامه، وقد نشأ علم التفسير هذا في عصر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فكان النبي أول المفسرين له، ثم تابعه أصحابه من بعده، على أساس أنهم الواقفون على أسراره، المهتدون بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- ولعل أشهر المفسرين من الصحابة الإمام علي- كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود.
وفي عصر التابعين تضخم التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات، لسبب أو لآخر مما دفع الإمام أحمد بن حنبل إلى أن يقول كلمته المشهورة: "ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي" أي ليس لها إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل، وإلى أن يقول الإمام ابن تيمية: "والموضوعات في كتب التفسير كثيرة".
ومع ذلك، ورغم هذه الشوائب، فالذي لا شك فيه أن كتب التفسير تحتوي على ثروة تاريخية قيمة، تفيد المؤرخ في تدوين التاريخ العربي القديم، وتشرح ما جاء مجملا في القرآن العظيم، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت عصر الإسلام، وتحكي ما سمعوه عن القبائل العربية البائدة، التي ذكرت على وجه الإجمال في القرآن الكريم، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات.
4- كتب السير والمغازي:
وتعتبر هذه الكتب من المصادر المساعدة في التاريخ العربي القديم؛ ذلك لأن كُتاب السير والمغازي إنما كانوا يعرضون لذكر العرب الجاهليين والأنبياء السابقين، ويفصلون القول في نسب الرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وفي أخبار مكة وقريش، ومن يتصل بهما من أفراد وقبائل، كما كانت هذه الكتب تشتمل على الكثير من الشعر الجاهلي الذي كان يستخدمه كتاب السير والمغازي في الاستشهاد على ما يكتبون أو يتحدثون عنه.
ولعل أشهر كتب سيرة مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- هو كتاب ابن هشام، وهو أول كتاب عربي وصل إلينا يؤرخ لسيرة نبي الإسلام الأعظم- وكذا لتاريخ العرب قبل الإسلام- وقد اعتمد صاحبه "أبو محمد عبد الله بن هشام، المتوفى "213/ 828 أو 218/ 834"، على الرواية الشفوية، فضلا عن كتب ضاعت، لعل أهمها كتاب "ابن إسحاق" "م150/ 151، 767/ 768"، الذي كان أول من ألف في سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بناء على طلب الخليفة العباسي المنصور "754-775م"، - واستحق بذلك تسمية ابن خلدون له "بالأستاذ"، إلا أن هناك من سبقه في التأليف في المغازي، من أمثال "عروة بن الزبير" "م124/ 742" و"شرحبيل بن سعد"، وهناك كذلك الواقدي "130/ 747 - 206/ 821 أو 207/ 823" ومحمد بن سعد، صاحب "الطبقات الكبرى" "م230/ 845"، والذي أخذ كثيرًا عن الواقدي حتى حتى كان يسمى أحيانًا بكاتب الواقدي.
5- الأدب الجاهلي:
ليس هناك من شك في أن أيام العرب في الجاهلية تعتبر مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ، وينبوعًا صافيًا من ينابيع الأدب ونوعًا طريفًا من أنواع القصص، بما اشتملت عليه من الوقائع والأحداث، وما روي في أثنائها من شعر ونثر وما اشتملت عليه من مأثور الحكم وبارع الحيل، ومصطفى القول، ورائع الكلام، فهي توضح شيئًا من الصلات التي كانت قائمة بين العرب وغيرهم من الأمم كالفرس والروم، وتروي كثيرًا مما كان يقع بين العرب أنفسهم من خلاف، بل إنها سبيل لفهم ما وقع بين العرب بعد الإسلام من حروب شجرت بين القبائل، ووقائع كانت بين البطون والأفخاذ والعشائر.
ثم هي في أسلوبها القصصي وبيانها الفني مرآة صادقة لأحوال العرب وعاداتهم وأسلوب حياتهم، وشأنهم في الحرب والسلم، والاجتماع والفرقة، والفداء والأسر، والنجعة والاستقرار، وهي أيضًا مرآة صافية تظهر فيها فضائلهم وشيمهم، كالدفاع عن الحريم والوفاء بالعهد، والانتصار للعشيرة وحماية الجار، والصبر في القتال والصدق عند اللقاء، وغير هذا مما نراه واضحًا في تلك الأيام.
ولو نظرت إلى الشعر الجاهلي في جملته وتفصيله، وبخاصة ما كان في الفخر والحماسة، والرثاء والهجاء، فإنك تجده قد ارتبط بتلك الأيام، فبينما كان الفوارس يناضلون بسيوفهم ورماحهم، ويجودون بنفوسهم رخيصة في سبيل أقوامهم، كان الشعراء من ورائهم يدفعون عن الأحساب بقصيدهم، ويطلقون ألسنتهم في خصومهم وأعدائهم، ويندبون بقوافيهم صرعاهم، والقتلى من أشرافهم وزعمائهم.
ترى ذلك في شعر الأعشى وعنترة وابن حلزة وعامر بن الطفيل وقيس بن الأسلت وقيس بن الحطيم، وعبد يغوث ومهلهل بن ربيعة والخنساء وصخر ومعاوية ابني عمرو وحسان بن ثابت، وغيرهم ممن ظهر أثر الأيام في شعرهم من قريب أو بعيد والشعر الجاهلي دون شك مصدر من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام، وقديمًا قالوا: "إن الشعر ديوان العرب" يعنون بذلك أنه سجلٌ سُجِلَتْ فيه أخلاقهم وعاداتهم ودياناتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل إنهم سجلوا فيه أنفسهم، كما نستطيع أن نستدل به على شبه جزيرة العرب، وما فيها من بلاد وجبال ووديان وسهول ونبات وحيوان، فضلا عن عقيدة القوم في الجن وفي الأصنام وفي الخرافات.
وهكذا يروي ابن سيرين عن الفاروق عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه- قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" وقريب من هذا ما يروى عن "عكرمة" -تلميذ ابن عباس ومولاه- أنه ما سمع ابن عباس يفسر آية من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، إلا ونزع فيها بيتًا من الشعر، وأنه كان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغريب حديث صحابته والتابعين.
ومن ثم فقد أصبحت كتب الأدب من المصادر المهمة في التاريخ العربي القديم، ففيها ثروة أدبية قيمة، قد لا نجد لها مثيلا في كتب التاريخ، وإن ما جاء بها عن ملوك الحيرة والغساسنة وكندة، أكثر مما جاء في كتب التاريخ، بل هو أحسن منه عرضًا وصفاءً، وأكثر منه دقة، ويدل عرضه بالأسلوب الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عربية خالصة، لم يعكر صفوها شوائب من إسرائيليات ونصرانيات، فضلا عن أنه قد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه، بل نستطيع أن نذهب بعيدًا، فنقول أن كثيرًا من الأخبار ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسبتها، في أن حين أخبارًا خلقت خلقًا لأن ما قيل فيها من شعر كان سببًا في بقائها، ومن ثم فقد أصبح الشعر سببًا في تخليد الأخبار، لسهولة حفظه، ولاضطرار رواته إلى قص المناسبة التي قيل فيها.
على أن للأدب -كمصدر تاريخي- عيوبًا، منها:
 "أولًا" أنه لا يرجع إلى أكثر من عصر الجاهلية، وهو جزء من عصر ما قبل الإسلام، يقدر له زمنًا يتراوح بين قرن ونصف، وقرنين ونصف قبل ظهور الإسلام مباشرة، بينما يقدر العلماء لعصور ما قبل الإسلام مدة ربما تتجاوز العشرين قرنًا، تمتد من حوالي 1500ق. م، إلى عام 610م.
"ثانيًا" أن أكثر ما روي لنا منه إنما قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون إليها نظرة الأديب، لا نظرة المؤرخ، فالقصيد التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها، ولم يصح وزنها، قد يعجب بها المؤرخ، أكثر من إعجابه بالقصة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية، أكثر من قصيدة راقية.
 "ثالثًا" أن الشعر الجاهلي لا يتحدث عن التاريخ السياسي، بقدر ما يتحدث عن التاريخ الديني والاجتماعي.
"رابعًا" أن الشعر الجاهلي قد تعرض للضياع بتركه يتناقل على ألسنة الرواة شفاها نحو قرنين من الزمان، إلى أن دون في تاريخ متأخر، حتى أن "أبا عمرو بن العلاء" يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير.
"خامسًا" أن معظم ما وصلنا من الشعر الجاهلي، إنما كان من عمل البدو، وليس من عمل الحضر، ومن ثم فهو يمثل البادية أكثر ما يمثل الحاضرة.
 "سادسًا" أن هناك مجالا للظن -على خلاف الشائع- أن العلماء قد خففوا -مدفوعين بالعامل الديني- من الطابع الوثني في بعض القصائد، كما أن الإفراط في الحرص على صحة اللغة وصفائها في أوساط البصرة قد أدى إلى إجراء بعض التصحيحات في الآثار المروية.
"سابعًا" أنه حتى هذا الشعر القليل الذي وصل إلينا توجه إليه سهام الريب من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنه يرقى إلى ما فوق مظان الشبهات، ذلك أن كثيرًا من الرواة قد تجرأ عليه بالنحل، إما بنقل شيء من قائل إلى قائل، وأما بوضع شيء منه على ألسنة الشعراء.
ذلك أنه في عام 1864م تناول "تيودور نولدكه" الموضوع لأول مرة، مشيرا إلى الشكوك التي يثيرها مظهر الشعر الجاهلي، وفي عام 1872م عاد "إهلوارد" إلى الموضوع مرة أخرى، دون تجديد فيه، وإن عرضه بدقة لم يتوصل إليها سلفه، خرج منها إلى أن عددًا قليلا من القصائد هو الصحيح، وأما غالبيتها فالشك فيها محتوم لا مناص منه، ثم جاء بعد ذلك "موير" و"باسيه" و"ليال" و"بروكلمان" فوافقوا على آراء "نولدكه" و"إهلوارد"، وإن زاد الشك كثيرًا عن كليمان هوارت".
وفي عام 1925م، جاء "مرجليوث" وأصدر بحثًا له تحت عنوان "أصول الشعر العربي"، رجَّح فيه أن هذا الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي، إنما هو من نتاج العصور الإسلامية، ثم نحله الوضاعون لشعراء جاهليين، وتابع "ليفي ديلا فيدا" مرجليوث في دعواه، وذهب إلى أن العرب حينما نسوا في القرن الثاني والثالث بعد الهجرة، ما كانوا يذكرونه عن التاريخ الجاهلي، حاول اللغويون والإخباريون أن يملئوا الفجوات، فزيفوا ما لم يجدوه في الوثائق الحقيقية، ومن ثم فقد رأى هذا الفريق من المستشرقين أن الأدب التاريخي العربي، ليس أوثق من القصص التاريخي، وأن أكثر الشعر موضوع، وبالتالي فليس من المستطاع اتخاذهما أساسًا نبني عليه فهمًا صحيحًا لما كان يحدث في بلاد العرب في العصر الجاهلي.
وأما الأدباء العرب، فلعل أسبقهم في هذا المجال إنما هو "الرافعي" في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في عام 1911م، ثم جاء الدكتور طه حسين، وذهب إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا، ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين، وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأن هذا الشعر الذي ينسب إلى "امرئ القيس" أو إلى "الأعشى" أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن أن يكون من الوجهة اللغوية والفنية لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل أو أذيع قبل نزول القرآن الكريم.
وعلى أي حال، فإن قضية الشعر الجاهلي قضية معروفة في جميع كتب الأدب القديم، وأن القدامى قد سبقوا المحدثين إلى القول بأن كثيرًا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، يروي "ابن الجمحي" أن أول من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، إنما هو "حماد الراوية" "م155/ 772"، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار، وأن تلميذه "خلف الأحمر" قد سار على منواله، وربما كان السبب فيما فعلاه- حماد وخلف- حرص الأعاجم مثلهما، على إظهار مقدرتهم أمام العرب في نظم قصائد ومقطوعات تفوق في أصالتها تلك التي ارتجلها الجاهليون، وهكذا يبدو من صنيع الرجلين مبلغ الشك في عملية جمع النصوص الشعرية.
على أن الأستاذ العقاد، إنما ينكر التزييف تمامًا، ويرى أنه ما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق، إذ معنى ذلك:
 "أولًا" أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها، امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية.
 "ثانيًا" أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزِل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد مناسباته النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه.
 "ثالثًا" أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلا عن إساغته بغير برهان، ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين، وأن تصديق النقائض الجاهلية جميعًا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.
هذا فضلا عن أن هناك إشارات إلى جمع قديم للشعر، فهناك رواية حماد التي تذهب إلى أن ملك الحيرة "النعمان بن المنذر" قد أمر فنسخت له أشعار العرب، وأن "المختار بن أبي عبيد الثقفي" قد اكتشفها في قصر النعمان، وأن "الفرزدق" كان يملك ديوان الشاعر، "زهير بن أبي سلمى".
ومع ذلك، فإن هناك وجهًا آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون ممثلا للحياة العقلية الجاهلية، متى كان المزيف عالمًا بفنون الشعر، خبيرًا بأساليبه، ومن ثم فنحن نستطيع إذن أن نتقبل الشعر الجاهلي كله- الثابت والمشكوك فيه- على أنه من مصادر الحياة في الجاهلية، لأن الذين وضعوا ذلك القدر من الشعر الجاهلي قد حرصوا على أن يقلدوا خصائص الجاهليين اللغوية والمعنوية، واللفظية، وهكذا يظل هذا الشعر المنحول يدل على ما يدل عليه الشعر الثابت، من تصوير للحياة في بلاد العرب قبل الإسلام.
6- كتب اللغة:
تعتبر كتب اللغة من مصادر الحياة في الجاهلية؛ ذلك لأن اللغة العربية التي نكتب بها وننظم إنما هي من نتاج العصر الجاهلي، فهي من أجل ذلك لا تزال تدل بمفرادتها على أوجه الحياة والحضارة الجاهلية، هذا فضلا عن أن القاموس العربي ليس للمفردات اللغوية فحسب، بل هو في الحقيقة يجمع المفردات اللغوية والمعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية والفنية، ومن ثم فقد كانت كتب اللغة -ومعاجمها بصفة خاصة- مصادر مهمة للحياة في الجاهلية.
وربما كان من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أنه ربما لم تظفر لغة من اللغات بما ظفرت به اللغة العربية من ثراء في المعاجم وتنوع في مناهجها وطرق تبويبها، وأما قواميس العرب، فلعل أهمها، القاموس المحيط للفيروزآبادي، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للمرتضى الزبيدي، والصحاح للجوهري.
7- كتب التاريخ والجغرافية:
لعل من الأمور الغريبة أن المؤرخين الإسلاميين قد انصرفوا عن تدوين التاريخ الجاهلي -ولا سيما القديم منه- وحين فعلوا لم تكن كتاباتهم إلا مقدمات لتواريخهم المفصلة والدقيقة للعصر الإسلامي، وحتى هذه المقدمات لم تكن مفصلة ولا دقيقة، ذلك لأنهم لم يعتمدوا فيها على سند مدون، أو يأخذوها من نص مكتوب، وإنما كان عمادهم في ذلك أفواه الرجال، وهو أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، ذلك أن رواة الأخبار، حتى إن كانوا بعيدين عن الميول والأهواء، وحتى إن كانوا من أصحاب الملكات التي تستطيع التمييز بين الغث والسمين، فإن للذاكرة آمادًا لا تستطيع تجاوزها.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا عن المباني القديمة وعن جن سليمان وأسلحته، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة، وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرًا إلى آدم، وزعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى إبليس، قالوا أنه نظمه في الرد على شعر آدم المذكور، وأنه أسمعه آدم بصوته دون أن يراه، ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذه القبيل يصعب تصديقها مما جعل تاريخهم-للأسف- أقرب إلى القصص الشعبي منه إلى التاريخ الصحيح.
كان مؤرخو العرب يعتمدون في تأريخهم للعصور السابقة على الإسلام على الأدب العربي وعلى بعض آثار اليمن، حيث كان هناك من يزعم -صدقًا أو كذبًا- أنه بمستطيع أن يقرأ خط المسند، هذا إلى جانب اعتمادهم كذلك على بعض كتابات النصارى التي وجدت في الأديرة والكنائس في العراق والشام، وعلى ما تلقفوه من أفواه اليهود في اليمن والحجاز وغيرها، ومن أهم هذه الكتابات، كتاب أخبار اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي، والذي كتب في أخريات أيام معاوية بن أبي سفيان "41/ 60هـ-661/ 680م"، وكتاب التيجان في ملوك حمير لوهب بن منبه "م110/ 728" وكتاب الإكليل وصفة جزيرة العرب للهمداني "م340/ 951" وكتاب الأصنان لابن الكلبي "م204/ 819" وكتاب سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني، وكتاب ملوك حمير وأقيال اليمن لنشوان بن سعيد الحميري "م573هـ"4.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المتصفح لما كتبه ابن إسحاق "م150/ 767 أو 151/ 768" وابن هشام "م213/ 728 أو 218/ 834" في سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن قتيبة "م276/ 889" في "المعارف وفي عيون الأخبار وفي الشعر والشعراء وفي الإمامة والسياسة"، والدينوري "م2828/ 895" في "الأخبار الطوال" واليعقوبي "م284/ 897" في "التاريخ الكبير" والطبري "م310/ 923" في "تاريخ الرسل والملوك"، وابن عبد ربه "م327/ 939" في "العقد الفريد"، والمسعودي "م345/ 956" في "مروج الذهب وفي التنبيه والإشراف وفي أخبار الزمان" و"ياقوت الحموي" "م 626/ 1229" في "معجم البلدان" وابن الأثير "م630/ 1233" في "الكامل في التاريخ"، وابن خلدون "م818/ 1406" في المقدمة وفي العبر وديوان المبتدأ والخبر".
إن المتصفح لما كتبه هؤلاء العمد الأفاضل، ليعجب للدقة والتحري الصحيح الذي عالجوا به تاريخ الإسلام في معظم الحالات، بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط الذي صحب كتاباتهم عن عصور ما قبل الإسلام.
ولعل عذرهم في ذلك أن عصر الاكتشافات الحديثة الذي نعيشه الآن لم يكن قد بدأ بعد، وأن الاعتماد في التأريخ لبلاد العرب قبل الإسلام إنما كان على ما جاء في التوراة، وعلى الأدب العربي القديم، كما أن الأخبار كانت -كما أشرنا من قبل- تتناقل على الألسنة بدون تدوين أو ضبط، وأن الخط العربي كان في أول الأمر غير منقوط، وكذا كانت الكتابة النبطية التي يرجح أن الخط العربي مشتق منها ومتطور عنها، لا تعرف النقط والإعجام.
وهكذا لم يكن عندهم ما يميز بين الباء والتاء والثاء، أو بين الجيم والحاء والخاء، أو بين السين والشين، فكانوا مثلا يكتبون "بلقيس" حروفا بلا نقط، فتقرأ "بلفيس أو بلقيس أو نلفيس أو بلفيش ... إلخ، وقس عليه ما تختلف به قراءتها بنقل النقط واختلاف مواضعها، فوقع بذلك التباس في قراءة الأسماء، وظهر أثره في اختلاف المؤرخين والنسابين في أسماء الأشخاص والقبائل والأماكن.
ولعل أهم ما في كتب الإخباريين من عيوب، إنما هي:
 "أولًا" تلك المبالغات -إن لم نقل الخرافات- التي أدخلها أهل الأغراض أو الطامعون ممن دخل في الإسلام من اليهود أو المجوس أو النصارى؛ لأن العرب كانوا يستفتونهم فيما غمض عليهم، فيفتونهم بما تعودوه في كتبهم من المبالغة في ضخامة الأجسام وطول الأعمار، فكان العرب يصدقونهم في كثير مما يقولون لأنهم -كما يقول ابن إسحاق- أهل العلم الأول، ولأن التوراة- والتلمود من بعدها- كانت تشتمل على كثير من قصص الأنبياء الكرام، ولكن بإسهاب وتفصيل كثير، وهكذا تسربت الخرافات إلى كثير من كتب الإخباريين، فمثلا لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة عاد في القرآن الكريم، فإنه يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}. أدخل المفسرون في شرحها وتفسيرها مبالغات رواها أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما، فوصل إلينا من أخبارها أن رجالها كانوا طوالا كالنخل، لم يكن للطبيعة تأثير على أبدانهم لغلظتها ومتانتها، وأن عادًا تزوج ألف امرأة، وعاش ألف سنة ومائتي سنة، ثم مات بعد أن رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، كما رأى كذلك البطن العاشر من أعقابه، وكان الملك من بعده في الأكبر من ولده،، وهو "شديد" الذي حكم 580 سنة، ثم خلفه أخوه "شديد" حيث حكم 900 سنة، سيطر فيها على ممالك العالم، وبنى مدينة "إرم ذات العماد" "الأمر الذي أشرنا إليه في المقدمة".
"ثانيًا" ما تابع العرب فيه اليهود، وأعني رد كل أمة إلى أب من آباء التوراة، حتى المغول والترك والفرس، فمثلا ردوا نسب الفرس إلى "فارس بن ياسور بن سام" وقس على هذا تعليل أسماء البلاد، وردها إلى أسماء من يظنون أنهم مؤسسوها، بما يشبه قول يهود، فمثلا "مصر" إنما بناها "مصرايم" وآشور بناها أشور، ومن هذا القبيل كذلك قولهم "يعرب" لمن تكلم بالعربية، وأن "سبأ" إنما سميت كذلك لتفرقها أو لكثرة السبي، وهكذا.
"ثالثًا" اختلاف الإخباريين في الأنساب، حتى أنهم لم يتفقوا إلا في القليل من أسماء الملوك والأمراء، وإن كان الأمر جد مختلف بالنسبة إلى قريش.
"رابعًا" أن العرب كانت تتصرف في الأسماء غير العربية، بتبديل حروفها وتغييرها، ومن ذلك اختلافهم في ذي القرنين بين أن يكون "الصعب بن مداثر" من ملوك اليمن، أو أن يكون الإسكندر المقدوني، وقريب من هذا ما فعلوه بملوك مصر على أيام الفراعين، فملك مصر على أيام يوسف، عليه السلام، إنما هو "الريان بن الوليد بن الهروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح" وأن فرعون موسى عليه السلام، إنما هو "قابوس بن مصعب بن معاوية" صاحب يوسف الثاني، وكانت إمرأته "آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد" فرعون يوسف الأول، وأنها من بني إسرائيل على ما يرى بعض الرواة.
ولست أدري -علم الله- من أين جاء المؤرخون الإسلاميون بهذه الأخبار، والتوراة -على فرض أنهم نقلوها عن يهود- لم تذكر هذه الأسماء أبدًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم، فضلا عن أن الفراعين المصريين -كما نعرف من أسمائهم -ليس من بينهم من يحمل هذه الأسماء، ولكنه الخلط وادعاء العلم، أضف إلى ذلك بأن الزعم بأن فرعون موسى، هو صاحب يوسف الثاني أمر غير مقبول، فمن المعروف تاريخيًّا أن الفترة ما بين دخول بني إسرائيل مصر على أيام الصديق، وخروجهم منها على أيام الكليم، عليهما السلام، حوالي 430 سنة، فهل حكم هذا الملك المزعوم "قابوس بن مصعب" هذه القرون الأربعة، والتاريخ يحدثنا أن مصر لم تعرف الحكم الطويل لملوكها "إذا استثنينا ببي الثاني، وقد حكم 94 سنة، ورعمسيس الثاني، وقد حكم 67 سنة"، وفرق كبير بين حكم يقرب من القرن من الزمان، وحكم يقارب قرونًا أربعة، والأعجب من ذلك أن يجعل بعض المؤرخين الإسلاميين "آسية إمراة فرعون" حفيدة الريان مرة، ومن بني إسرائيل مرة أخرى.
وهكذا يبدو بوضوح، أن الخلط من ناحية، والإسرائيليات من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا كبيرًا في مسخ بعض هذا التاريخ الذي كتبه المؤرخون الإسلاميون عن العصور التي سبقت الإسلام بآماد طويلة.
ورغم ذلك كله -والحق يقال- فإن المؤرخين الإسلاميين قدموا لنا الكثير من المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لعصور ما قبل الإسلام، وأن كثيرًا منهم قد انتقدوا تلك المبالغات التي جاءت فيما كتب البعض منهم، كما أنه كثيرًا منهم كذلك قد نبهوا إلى الإسرائيليات والنصرانيات التي تسللت إلى التاريخ العربي القديم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق