الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السابع عشر

الجزء السابع عشر: المناذرة
1- مدينة الحيرة:
كان العرب منذ قديم الزمان يهاجرون إلى تخوم شبه الجزيرة العربية الشرقية، حتى إذا ما وصلوا إلى وادي الفرات أقاموا في ربوعه، وفي أوائل القرن الثالث الميلادي، وإبان الاضطرابات التي أعقبت سقوط الأسرة البارثية وقيام الأسرة الساسانية في حوالي عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان" وفدت طلائع عربية جديدة من قبائل تنوخ اليمنية، وسكنت في المنطقة الخصبة الواقعة إلى الغرب من الفرات، وما أن يمضي حين من الدهر حتى تحولت الخيام إلى مدينة عرفت "بالحيرة"، تحولت بمرور الأيام إلى إمارة الحيرة- وراء نهر الفرات عند منعطفه نحو دجلة، واقترابه منه على مبعدة خمسين كيلو مترا- التي أصبحت بمثابة حصن للملك الفارسي حيال العرب الرح.
على أن هناك من يرجع بتاريخ المدينة إلى أيام الملك البابلي "نبوخذ نصر" "605-562ق. م" طبقا لرواية سبق لنا مناقشتها في هذه الدراسة- بينما يرى آخرون أن مؤسس الحيرة إنما هو "الأردوان" ملك الأنباط، بينما يذهب فريق ثالث إلى أنها من بناء "تبع أب كرب"، وأخيرًا فهناك من يرى أنها مدينة بارثية.
وليس هناك من شك في أن "الحيرة" مدينة قديمة، وإن كنا لا نعرف تاريخها على وجه التحقيق، ولعل أقدم ما وصلنا عنها إنما هي كتابة ترجع إلى عام 132م، ذكرت فيها المدينة تحت اسم "حيرتا"، فإذا كانت "حيرتا" هذه، إنما هي "الحيرة" حقا، فإن أقدم ما نعرفه عنها إنما يرجع إلى عام 132م، ولعل مما تجدر ملاحظته هنا أن الحفريات لم تقدم لنا شيئا يمكن الاعتماد عليه فيما يتصل بموقع المدينة وتاريخها، وأن كل ما وصلنا لا يعدو نقوشا من الجبس مما تكسى به الجدران، فضلا عن مجموعة من الجرار وآثار صغيرة، بعضها يرجع إلى ما قبل الإسلام، ويرجع بعضها الآخر إلى العصر الإسلامي.
وقد اختلف المؤرخون في تفسير اسم "الحيرة" ومصدر اشتقاقه، فهناك رواية تذهب إلى أن "تبان أسعد أب كرب" كان قد خرج من اليمن يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة ليلا تحير، فأقام مكانه، ومن ثم فقد سمي ذلك الموضع "الحيرة"، وتذهب رواية أخرى إلى أن "تبعا الأكبر" قد ترك ضعاف جنود في ذلك الموضع، وقال لهم "حنروابه" أي أقيموا به. هذا ويذهب العلماء المحدثون إلى أن كلمة "الحيرة" إنما هي كلمة "أرامية" وأنها "حرتا" "حرتو" السريانية الأصل، بمعنى "المخيم أو المعسكر" وأنها تقابل "المعسكر" عند المسلمين، و"حاصير" عند العبرانيين.
على أن هناك من يرى أن الحيرة الآرامية، والحير العربي، إنما هما من أصل سامٍ واحد، ذلك أن المضرب والمعسكر والحمى، إنما هي ألفاظ يدل أصلها على معنى واحد، ويميل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم إلى هذا الرأي، معتمدا في ذلك على وصف "اليعقوبي" على خطط "سر من رأى" والحير الذي أقيم بها، وجعل حظيرة للوحش من الظباء والحمير الوحشي والأيايل والأرانب والأنعام.
وتقع الحيرة قريبا من مدينة بابل القديمة، وعلى مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من الكوفة، في نهاية طريق يجتاز شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فقد غدت بحكم موقعها الجغرافي هذا، مركزا هاما جدا للقوافل، لم يسع الساسانين إهماله، ومن ثم فما تكاد تقيم فيه سلالة عربية حتى يضعوها تحت حمايتهم.
هذا وقد اشتهرت المدينة باسم "حيرة النعمان" عند المؤرخين العرب، و"الحيرة مدينة العرب" عند المؤرخين السريان، و"حيرته" في المجمع الكنسي الذي عقد في عام 410م، كما سميت كذلك باسم "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس" في تاريخ يوحنا الإفسوسي -من القرن السادس الميلادي- وأما "التلمود" فقد أطلق عليها اسم "حيرتا دي طيبة" أي "معسكر العرب وحيرة العرب"، وقد أطنبت المؤلفات العربية في وصف هوائها النقي، وصفاء جوها، وعذوبة مائها، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة" وقيل "إنها منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام" و"أن هوءاها وترابها أصح من الكوفة"، ولعل كل هذه الأوصاف ربما كانت السبب في أن تقول العرب "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة"، بل إن "حمزة الأصفهاني" ليزعم أنه لم يمت بالحيرة بسبب هوائها النقي أحد من الملوك إلا قابوس بن المنذر".
هذا وقد كان لعرب الحيرة لهجة من اللسان العربي يتحدثون بها في حياتهم العادية، وأما في الكتابة فقد كانوا يستعملون السريانية، ولعلهم في هذا يشبهون الأنباط والتدمريين الذين كانوا يتكلمون العربية ويكتبون بالآرامية، هذا وهناك من يذهب إلى أن دخول النصرانية إلى اليمن إنما كان بجهود رجال الكنيسة السورية في الحيرة، فضلا عن انتقال الكتابة من الحيرة إلى الحجاز، وعلى أية حال، فلقد أصبحت الحيرة في القرن السادس الميلادي، وعلى أثر اتساع نفوذ سلالة اللخميين نقطة التقاء للتيارات الإيرانية والآرامية على حدود المحيط العربي الفاصلة، حتى لقد ظهرت المدينة بمظهر العاصمة الفكرية.
2- ملوك الحيرة:
يزعم الأخباريون أن مالك بن فهم الأزدي أول من ولي أمر العرب في العراق، وأنه كان يسكن الأنبار، ثم جاء من بعده أخوه "عمرو" على رأي، و"جذيمة الأبرش" -صاحب القصة المشهورة مع الزباء- على رأي آخر، على أن المؤسس الحقيقي لدولة اللخميين إنما كان "عمرو بن عدي" "268-288م"، ابن أخت جذيمة، وأول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم، وإليه ينسب ملوك العرب في العراق.
وجاء بعده ولده، "امرؤ القيس" "288-328م" -والمعروف بامرئ القيس البدء، وامرئ القيس الأول -وكان ملكه واسعا، فقد كان عاملا لملك الفرس على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة، كما كان أول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمال ملوك الفرس -فيما يرى الأخباريون.
وامرؤ القيس هذا هو صاحب "نقش النمارة" -الذي أشرنا إليه من قبل- والذي يمكن أن نستخلص منه عدة نتائج، منها:
"أولا" أن امرأ القيس هذا، إنما هو أول ملوك الحيرة الذي وصل إلينا بعضا من أخبارهم مكتوبا.
"ثانيا" أنه قد توفي في عام 328م "الموافق لعام 223 من تقويم بصرى".
"ثالثا" أن النص- وهو أقدم وثيقة مكتوبة باللغة العربية- يؤكد أن لغتنا العربية كانت هي هي، منذ ما قبل الجاهلية المعروفة في تاريخ الأدب العربي، وهي متأخرة في الزمن بنحو قرنين من الزمان على الأقل بالنسبة إليه.
"رابعا" أن النص يؤكد لنا أن المناذرة -شأنهم في ذلك شأن الغساسنة- إنما هم عرب شماليون؛ لأنه مكتوب بلغة عربية شمالية، وبالحرف النبطي، وليس باللغة الحميرية أو الحرف المسند، وهو بهذا يمثل مرحلة انتقال من الحروف النبطية إلى الحروف العربية الشمالية التي لا تزال مستعملة حتى الآن، لأن الخط العربي الشائع بيننا الآن منحول عن الخط النبطي الذي كان شائعا في مملكة الأنباط -كما أشرنا من قبل.
"خامسا" أن النص إنما يفيد أن امرأ القيس قد فتح معظم شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فهذا يتناقض والروايات التي تنسب إلى "شمر يهرعش" الفتوحات العظيمة، وتجعله فاتحا للعراق وما وراءه حتى الصين، وتعكس القضية تماما، بل إن النص إنما يصل بفتوحات امرئ القيس حتى أسوار نجران، ومن ثم فقد سمي -كما يقول النص- "ملك العرب كلهم" و"لم يبلغ ملك مبلغه"، وبعبارة أخرى فقد مد حكمه من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ مدينة نجران، وإن كان يبدو لي أن في النص مبالغات، شأنه في ذلك شأن روايات الأخباريين عن "شهر يهرعش"، وإن كانت الأخيرة تكاد أن تكون أقرب إلى الأساطير منها إلى حقائق التاريخ.
على أن في "نقش النمارة" عبارة تدعو إلى التساؤل، وذلك حين يقول النقش "واستعمل أبناءه على القبائل، ووكلهم على الفرس والروم" مما دعا بعض الباحثين إلى أن يرى امرأ القيس قد جاء إلى الشام -حيث كتب النص بعد وفاته في النمارة- على إثر خلاف بين أمراء الفرس على العرش وأن الخلاف قد انتهى في غير مصلحة الحزب الذي كان يؤيده امرؤ القيس، ومن ثم فقد أقام في الشام، وبدأ يتجه نحو الروم، الذين انتهزوا الفرصة فأقروه على عرب الشام، وبالتالي فإن الرجل قد عمل في أول أمره للفرس، ثم بعد ذلك للروم، ومن ثم فإن القراءة الصحيحة، ربما تكون "واستعمل أبناءه على الشعوب وجعلهم فرسانا للروم"، وهذا يعني أن امرأ القيس كان يعمل عند وفانه للروم فحسب، لأنه ليس من المقبول أن يذكر عمله للفرس في نص مكتوب في بلاد تخضع للروم، وحتى لو كان قد امتلك هذه المنطقة بحد السيف، فالمنطق هنا يستدعي عدم ذكر الروم، ويرى "كلير مونت جانيو" أن لفظ التاج وحده كاف على علاقة امرئ القيس بالفرس، لأنه من ألقاب ملوك الحيرة، وأما وجود قبره في حوران، فربما كان دليلا على أن سلطته قد امتدت إلى هناك، ومع ذلك، وعلى فرض صحة تفسير، "كلير مونت جانيو" هذا،فيبقى سؤالنا: لماذا ذكر الروم في نص امرئ القيس هذا؟ بدون جواب.
ويرى الطبري أن الفرس قد استعملوا "عمرو بن امرئ القيس" "328-363م" بعد أبيه، ثم تلاه "أوس بن قلام" "363-368م"، والرجل -كما يبدو من اسمه- ليس من بني لخم، ومن ثم فهناك من يرى أن نزاعا قد حدث بين أولاد عمرو على وراثة العرش، مما أدى إلى قيام الفتن والاضطرابات، فأقام "سابور ذو الأكتاف" "310-379م" "أوسا" هذا ملكا على الحيرة، غير أن "أوسا" سرعان ما قتل بيد أحد أبناء بني نصر، فعادت حكومة الحيرة إليهم، في شخص "امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس" "368-390م".
وجاء "النعمان الأول" "390-418م" -والمعروف بالنعمان الأعور، والنعمان السائح- بعد أبيه امرئ القيس الثاني، وينسب الإخباريون إليه بناء "قصر الخورنق" "وهو لفظة فارسية بمعنى حصن منيع"، ليقيم فيه "بهرام بن يزدجر الأول" "399-410م" ملك الفرس، وأن الذي بناه إنما هو رجل رومي يدعى "سنمار"، كتب عليه أن يلقى ميتة عنيفة على يد "النعمان" نفسه، ذلك أن سنمار بعد أن فرغ من بنائه، وأعجب النعمان به قال: "لو عرفت أنكم توفونني أجري، وتصنعون بي ما أنا أهله، لجعلته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت"، فقال النعمان: "وإنك لتقدر على بناء ما هو أفضل منه ثم لم تبنه"؟، وأمر به فطرح من رأس الخورنق، على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن سنمار قد أخبر النعمان، إنه يعرف في القصر حجرا واحدا، وأنه لو حرك من مكانه لتردى القصر، ثم عرف الملك موضع الحجر، وخشي أن يدل سنمار آخرين عليه، فأمر به فأردى من أعلى القصر فتقطع، فضربت العرب به المثل.
ويبدو أن النعمان كان على علاقة طيبة بالنصارى من قومه -على الأقل في الفترة الأخيرة من حكمه- وأنه بدأ يتقبل المسيحية، أو أنه كان يميل إليها، ولعل السبب في ذلك، أننا نقرأ في سجل الكنيسة الشرقية أن الحيرة كان عليها أسقف في عام 410م، وأن ملكها قد حمى النصرانية، ومن ثم فقد كانت الروايات التي تدور حول تنسكه حين أدرك أن حطام الدنيا لا محالة زائل، بما فيها قصره الفخم، ومن ثم فقد زهد فيها، وعكف على البر والتقوى، فانقلب سائحا زاهد، وإن كان أمر اعتناقه المسيحية ما يزال موضع شك كبير، ذلك لأن ملوك الحيرة كانوا حتى أواسط القرن السادس الميلادي ما يزالون على الوثنية، وأن المنذر بن ماء السماء كان يقدم الذبائح البشرية إلى العزى.
وعلى أي حال، فلقد اشتهر النعمان كذلك بكتيبتي الخيالة الشهيرتين عند العرب، وهما: الدوسر ورجالها من الفرس، والشهباء ورجالها من تنوخ، وغزا بهما عرب الشام عدة مرات، وعلى أيامه ازدهرت مدينة الحيرة، كما لم تكن من قبل.
وجاء بعد النعمان ولده "المنذر" "418-462م" من زوجه "هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني"، وقد وصلت الحيرة في عهده إلى درجة مكنتها من أن يكون لها صوت مسموع في أحداث العصر، كما مكنت المنذر من أن يحمل كهنة الفرس على تتويج "بهرام" الذي رباه أبوه النعمان، غير عابئين بمنع آخر كان يسعى إلى العرش بكل قوته.
وقد شارك المنذر في الحروب التي قامت بين الفرس والروم، بسبب اضطهاد المسيحيين في فارس، وكانت أرض العراق هي ميدان المعركة، وحاصر الروم "نصيبين"، وأسرع "بهرام" لإنقاذها، واشترك المنذر في المعارك، كما اتجه بعد ذلك إلى أنطاكية للاستيلاء عليها، إلا أنه لم يحقق نصرا، وانتهت الأمور بعقد صلح بين الفرس والروم في عام 422م.
وجاء بعد المنذر ولده الأسود، ثم أخوه المنذر، ثم النعمان بن الأسود، ثم انتقل العرش بعد ذلك من أمراء بني نصر، إلى "يعفر بن علقمة"، غير أنه عاد مرة أخرى إلى بني نصر، حيث تولى عرش الحيرة "امرؤ القيس الثالث" ثم "المنذر بن امرئ القيس" "596 أو 508-554م"، والذي يعرف بذي القرنين، بسبب ضفيرتين كانتا له، وبابن ماء السماء "وماء السماء هو لقب أمه مارية أو ماوية بنت عوف بن جشم بن هلال من بني النمر بن قاسط"، وعلى أي حال، ففي عام 506م عقد صلح بين الروم والفرس، في مقابل إتاوة يدفعها القيصر لملك الفرس، غير أن الروم قد تأخروا في دفعها، مما كان سببا في أن يقوم المنذر في عام 519م بغزو الحدود الرومانية، وأسر قائدين رومانيين.
وفي عام 524م، أرسل القيصر "جستنين الأول" "518-527م" إلى المنذر، وفدا يتكون من إبراهيم والد المؤرخ "نونوسرس"، وشمعون الأرشامي، وسرجيوس أسقف الرصافة، يطلب إطلاق سراح القائدين الرومانيين "جان وتموستران" وعقد صلح مع المنذر، ويبدو أن الوفد قد حقق الهدف الأول من مهمته، وأن الشواهد تشير إلى أن الهدف الثاني كان بعيدا عن التحقيق، هذا ويجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الوفد الرومي قد صادف وصول، وفد ذي نواس" الحميري الذي يطلب من ملك الحيرة أن يفعل بنصارى مملكته، ما يفعله هو بنصارى نجران، وأن شمعون الأرشامي ليزعم أنه قد دون قصة تعذيب نصارى نجران، طبقا لما جاء في رسالة ذى نواس، ومن ثم فقد نشرها في صورة كتاب يقرأ على الناس في الكنائس.
وتسوء العلاقات بين الروم والفرس وتدق طبول الحرب بينهما في عام 528م، ويشترك المنذر فيها إلى جانب الفرس، فيهاجم بلاد الشام حتى يصل إلى أنطاكية ويحرق عددا من المدن، منها خلقدونية، ويضحي -فيما يزعم المؤرخون السريان- بأربعمائة امرأة للعزى، وإن كان "ابن العبري" يرى أنه أخذهن لنفسه، وهنا يضطر القيصر "جستنيان" إلى طلب مساعدة الحارث الغساني، فيسبغ عليه لقب "فيلارخ"، كما أشرنا من قبل.
ومن أسف أن الجيوش العربية -اللخمية والغسانية- إنما كانت تحارب بعضها البعض الآخر، بينما كان الروم يحاربون الفرس، وهكذا كان العربي يقتل أخاه العربي ابتغاء مرضاة الفرس أوالروم، أو حبا في المغامرة، وفي أحسن الفروض، إيفاء بما وعد به الحارث أو المنذر أصدقاءه الروم أو الفرس، وإن كان الوفاء بالوعد يبيح قتل الأخ لأخيه، إرضاء لصديق أو سيد، وعلى أي حال، فإن الموقف سرعان ما يتغير حين تنطفئ نيران الحرب بين الكبار، بينما لا يزال الصغار يلعبون بمقدرات شعوبهم، ولم تنتهي نيران الحرب بين الكبار، بينما لا يزال الصغار يلعبون بمقدرات شعوبهم، ولم تنتهي إلا بقتل المنذر في عام 554م في موقعة يوم حليمة -كما أشرنا من قبل- وإن كان "أوليري" يرى -طبقا لرواية المؤرخ ثيوقانس- أن المنذر بقي حيا، حتى تم الصلح بين الروم والفرس في عام 562م، والذي اتفق الطرفان فيه على أن يترك لكل منهما ماله من الأراضي القديمة، وعلى حرية التجارة بين إيران وبيزنطة، وعلى أن يمنح النصارى حرية العقيدة، وعلى أن لا يسعى أحد من رجال الدين في الدولتين إلى التبشير بدينه.
وجاء بعد المنذر ولده "عمرو بن هند" "554-69م" من زوجه "هند بنت عمرو بن حجر آكل المرار"، وهو -فيما يرى الأخباريون- "مضرط الحجارة" كناية عن قوة ملكه وشدة بأسه، وهو "المحرق" لأنه حرق بني تميم، أو حرق نخل اليمامة، وقد كان عاتيا جبارًا، لا يبتسم ولا يضحك، ومن ثم فقد كانت العرب تهابه وتخشاه.
وقد حذا عمرو حذو غيره من ملوك لخم وجفنه، الذين أدركوا أن الشعراء من معاصريهم هم زعماء الرأي العام بين العرب، يديرون دفة الدعاية كيفما شاءوا، فلم يأل جهدا في إكرامهم وغمرهم بفضله، كما فعل سواه من الملوك، طمعا في اجتذاب العرب إليه، وهكذا أصبحت الحيرة في عصره موئل الشعراء يأتون إليه من شبه الجزيرة العربية ينشدونه شعرهم، وينالون جوائزه، ويعقدون المناظرات في حضرته، وعلى رأسهم ثلاثة من أصحاب المعلقات السبع -طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم.
ويبدو أن "عمر بن هند" هذا، كان شديد الغرور لدرجة جعلته يعتقد أنه ليس هناك من بين أمراء العرب من يستنكف أن يخدمه، أو يأبى أن يسعى إلى مرضاته، أيا كانت الوسيلة، وأن هذا الزعم الكذوب إنما كان سببا في أن يجندله "عمرو بن كلثوم" بسيفه في رواية تقول: إنه قال لجلسائه ذات يوم: هل تعرفون أحدا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي، فقالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه "ليلى" بنت "مهلهل بن ربيعة، وعمها "كليب بن وائل"، وزوجها "كلثوم"، وولدها "عمرو"، وهكذا أمر "عمرو بن هند" أن يطلب من "عمرو بن كلثوم"، أن يحضر إلى قصره، ثم أمر أمه "هند" أن تصرف الخدم بعد الفراغ من الطعام، ثم تطلب من "ليلى" أن تناولها الشيء بعد الشيء، وتفعل "هند" ما أمر به ابنها الملك، غير أن "ليلى" سرعان ما ترفض ذلك في إباء وشمم، قائلة: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، ثم تصيح، واذلاه يا آل تغلب، فما كان من عمرو بن كلثوم، إلا أن أمسك بسيف الملك، وأطاح به رأسه، وهكذا جنى عمرو بن هند ثمرة غروره" إن صحت الرواية.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن "هندا" أم "عمرو بن هند" هذه، إنما كانت نصرانية، وقد نسب إليها بناء "دير هند الكبرى"، الذي بقي حتى القرن الثاني الهجري، ويذهب البعض إلى أن البناء إنما تم على أيام الأسقف "مار أفرايم" في عهد ملك الفرس "خسرو أنوشروان"، وقد جاء في صدر هيكل الدير: "بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أم المسيح وأم عبده، في زمن ملك الأملاك خسرو أنوشروان وفي زمن مار أفرايم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما، ويقومها إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهر"، فإذا صحت هذه القراءة فإن بناء الدير، إنما يرجع إلى عهد "عمرو بن هند".
هذا ويذهب "لويس شيخو" إلى أن "عمرو بن هند" قد تنصر، إذ كانت الحيرة في وقته تموج بالمبشرين المسيحيين، ومن ثم فليس ببعيد أن تكون هند قد أجابت دعوتهم، فاعتنقت النصرانية، ثم عملت على جذب ابنها لاعتناقها، وإن كان هناك من يشك في ذلك، ويرى أن النعمان بن المنذر "580-602م" هو الوحيد الذي تنصر من ملوك الحيرة.
وجاء بعد "عمرو بن هند" أخوه "قابوس بن المنذر"، والذي كان موضع ثقة أخيه، وقائد جيوشه ضد الرومان وبخاصة تلك الحملات التي قادها في عامي 556/ 557م، بسبب عدم دفع الرومان ما كانوا يدفعونه من قبل للمنذر، أو بسبب المقابلة السيئة التي قوبل بها رسول عمرو بن هند في بلاد "جستين الثاني"، وأيا ما كان السبب في هاتين الغزوتين اللتين شنهما عمرو بن هند على الروم، فإن أخاه قابوس كان القائد فيهما، هذا وقد كان عمرو يعهد إلى أخيه قابوس كذلك بشئون البادية، ويعتقد "كوسان ده برسيفال" أن قابوسا إنما كان يحكم الحيرة مع النعمان أخيه، بينما يرجع "يوسف زرق الله" أن إدارة شئون الحيرة على أيام قابوس إنما كان يتولاها "زيد بن حماد بن أيوب".
وليس صحيحا ما ذهب إليه البعض من أن قابوسا كان ضعيفا، أو أنه لم يكن ملكا، فقد أطلق عليه "يوحنا الأفسوسي" لقب "ملك"، كما أنه كثير ما كان يقود الجيوش على أيام أخيه -كما أشرنا آنفا- فضلا عن الغارات التي شنها ضد الغساسنة إبان فترة جلوسه على العرش، وإن لم يجن منها سوى الفشل والهزيمة.
وجاء بعد قابوس أمير فارسي يدعى "فيشهرت" أو "السهراب"، وربما كان السبب في ذلك وجود خلاف بين أمراء بني لخم بعد قابوس على ولاية العرش وربما رغبة من الفرس في إضعاف مركز العر ب في الحيرة، بعد أن قوي أمرهم، واستفحل خطرهم، في ذلك الوقت الذي أخذت فيه قوى الغساسنة في الاضمحلال.
وأيا ما كان الأمر، فلقد جلس على عرش الحيرة بعد ذلك "المنذر بن المنذر" الذي ترك من بعده ثلاثة عشر ولدًا، دون أن يوصي لواحد منهم دون الآخر بالعرش، وإنما ترك الأمر بيد "إياس بن قبيصة" الطائي، حتى يرى كسرى رأيه، ومن ثم فإننا نرى "كسرى" يستشير "عدي بن زيد" الذي يشير بامتحان للأبناء جميعا،ثم يتفق مع واحد منهم "النعمان" على إجابة، خلاصتها: أن يتعهد لكسرى بأن يقيه شر العرب جميعا، وعلى رأسهم إخوته، بينما يتفق مع الآخرين بأن يتعهدوا لكسرى بذلك، إلا شرا يأتي من أخيهم النعمان، وهكذا يتم اختيار النعمان ملكا بعد أبيه، وأن هذا كله إنما يشير من ناحية أخرى إلى أن عرش الحيرة إنما أصبح أمره بيد كسرى، وليس بيد آل لخم.
وهناك من يتجه إلى أن النعمان "580-602م" إنما كان في أول الأمر وثنيا، يتعبد للعزى، ويقدم الأضاحي للأوثان غير أنه سرعان ما غير دينه الوثني، واعتنق النصرانية بعد نجاح آباء الكنيسة النسطورية في شفائه من مرض ألم به، أو بتأثير عدي بن زيد عليه، فضلا عن نشأته في بيئة نصرانية، وأن ذلك إنما كان في عام 593م، ومن ثم فقد أصبح النعمان -فيما يرى أصحاب هذا الاتجاه- الملك الوحيد من ملوك آل لخم الذي اعتنق النصرانية، وعلى المذهب النسطوري، أقل المذاهب النصرانية كراهية عند الفرس، والذين كانوا سببا في عدم اعتناق أسلاف النعمان للمسيحية، وعلى أي حال، فلقد كان اعتناق النعمان للمسيحية على المذهب النسطوري سببا في أن يعلو شأن الكنيسة النسطورية في الحيرة، وأن ينضم إليها الكثير من سادة القوم، فضلا عن إرسال القديس "سرجيوس" إلى اليمن، حيث بقي في نجران ثلاث سنوات يبشر بمذهبه هذا.
هذا ويختلف المؤرخون في نسب "سلمى" أم النعمان، فهي من كلب على رأي، ومن "فدك" على رأي آخر، ومن دومة الجندل على رأي ثالث، وطبقا لهذا الرأي الأخير فهي "أمة الحارث بن حصين"، ومن ثم فهي من أصل يهودي، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان أحمر أبرش قصير، لتبين لنا بوضوح السبب في أن القوم كانوا كثيرًا ما يتهكمون به، مما أثر في نفسيته وفي سلوكه، حتى أصبح سريع الغضب، سهل التصديق للوشايات، حتى أوقع بـ "عدي بن زيد" الذي أجلسه على العرش، وحين أراد أن يكفر عن خطيئته هذه، أضاع نفسه وأضاع عرشه.
وهكذا تذهب بعض الروايات إلى أنه ساعد "زيد بن عدي بن زيد"، ليكون عند "كسرى أبرويز" "590-628م" في مكان أبيه، وأن زيدا إنما كان يضمر الحقد للنعمان، وينتهز الفرصة للانتقام منه، وقد جاءته هذه في طلب كسرى زوجاته لأولاده، ومن ثم فقد أشار عليه بأن يطلبهن من النعمان، ففي بناته وبنات عمه وأهله، أكثر من عشرين امرأة، يصلحن لمصاهرة كسرى، وكان زيد يعلم أن النعمان إنما يضن بذلك على كسرى، بل إن جوابه إنما كان على طلب كسرى "أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه "أي كسرى" "حتى يطلب ما عندنا"، وكان ذلك سببا في غضب كسرى، وفي استدعاء النعمان إلى فارس بغية القضاء عليه، ومن ثم فقد هرب النعمان إلى أصهاره في "طيء"، أملا في حمايتهم له، ولكن القوم رفضوا حمايته، مما دفعه إلى أن يودع أهله وماله عند "هانئ بن مسعود الشيباني" وأن يتوجه إلى كسرى، حيث أرسل مخفورا إلى "خانقين" أو "ساباط"، وبقي هناك حتى مات بالطاعون على رواية، وطرح بين أرجل الفيلة فداسته حتى مات على رواية أخرى.
وعلى أي حال، فيبدو أن دولة الحيرة قد بدأ الضعف يتسرب إليها على أيام النعمان، لانصرافه إلى اللعب والشراب، فعلى أيامه هزم "بنو يربوع" جيش النعمان لما أراد أن ينقل الحجابة منهم، كذلك انهزمت جموعه أمام "بني عامر بن صعصعة" بعد أن تعرضوا لإحدى قوافله التي كان قد أرسلها إلى سوق عكاظ، كما كانت حروب الفجار المشهورة بين كنانة وقيس، بسبب تعرض القيسية لإحدى قوافله التي كانت في حراسة بعض الكنانيين.
وأيا ما كان الأمر، فلقد تولى أمر الحيرة بعد النعمان أحد أشرافها المشهورين "إياس بن قبيصة" "602-611م"، الذي كان المنذر قد عهد إليه من قبل بأمر أولاده، وإن كان هناك من يرى أن الذي خلف النعمان إنما كان واحدا من الفرس، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن الرجلين، إنما توليا الأمر معا.
ومهما يكن من أمر، فإن "كسرى أبرويز" قد طلب من "إياس بن قبيصة الطائي" أن يجمع ما خلفه النعمان وأن يرسله إليه، ومن ثم فقد بعث "إياس" إلى "هانئ بن مسعود" أن يرسل إليه ما استودعه النعمان إياه، فأبى هانئ ذلك، وغضب كسرى، وهنا أشار عليه أحد أعداء بني شيبان وسائر بكر بن وائل، أن ينتظر ريثما ينزل القوم "ذي قار"، فيبعث إليهم من يأخذهم بالقوة، وهكذا ما أن يحين الحين، حتى يرسل إليهم كسرى من يخيرهم بين ثلاث، أحلاهن مر، الاستسلام، أو الرحيل عن الديار، أو الحرب، وكان رد العرب أن السيف هو الحكم، وهكذا وقعت الواقعة وأبلى العرب بلاء حسنا، وكتب لهم -ولأول مرة- نصرا مؤزرا على الفرس.
ويختلف المؤرخون في زمن موقعة ذي قار هذه، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت يوم مولد المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- ومن ثم فإن هناك رواية تذهب إلى أنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا"، بينما ذهب رأي آخر إلى أنها إنما كانت سنة أربعين لمولد النبي الأعظم -عليه الصلاة والسلام- وذهب رأي ثالث إلى أنها إنما كانت في العام الثالث من مبعث المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا وقد رأى فريق رابع إلى أنها كانت بعد الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة، على أن فريقا خامسا إنما يرى كانت بعد موقعة بدر الكبرى مباشرة، وربما بعدها بأشهر معدودات، فإذا كان صحيحا ما ذهبنا إليه من قبل في هذه الدراسة من أصحابنا الأخباريين إنما يضعون تاريخ معركة ذي قار، فيما بين الأعوام 571م، 611م، 613م، 624م.
ويذهب "روتشتاين" إلى أن موقعة ذي قار، إنما كانت حوالي عام 604م، بينما يتجه "نولدكه" إلى أنها ما بين عامي 604، 611م1، والعام الأخير هو الذي يميل إليه "نيكسون"، وأما "كوسان ده برسيفال" فالرأي عنده أنها حدثت في يناير من عام 611م، وهو ما تميل إليه الغالبية العظمى من المؤرخين.
ويميل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم إلى أن الموقعة إنما حدثت حوالي عام 609م -أو بعد ذلك بأشهر- معتمد في ذلك على أن المصادر تكاد تجمع على أن مبدأ النبوة إنما حدث على رأس أربع سنين من ملك "أياس بن قبيصة"، وروى قوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بعث وهو في الأربعين من عمره الشريف، ولما كان من المعروف أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد انتقل إلى الرفيق الأعلى في 12 ربيع الأول سنة 11هـ "8 يونية 632هـ، وهو في سن الثالثة والستين على أرجح الآراء، فإن بعتثه تكون قد حدثت في سنة 609م، وهو ابن أربعين سنة، وتكون وقعة ذي قار قد حدثت بعد سنة 609م، بقليل، أو على أبعد تقدير في سنة 610م.
وأيا ما كان تاريخ موقعة ذي قار، فقد تولى ملك الحيرة بعد "إياس" اثنان من قبل ملك الفرس، كان آخرهما "المنذر الخامس" -الملقب بالمغرور- ثم سقطت الحيرة تحت أقدام خالد بن الوليد في سنة 13هـ "633م"، على أيام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- "11-13هـ-632-634م" وإن كان هناك من يرى أن الفرس قد أقاموا إلى جانب "إياس" مقيما فارسيا، يشرف على مهام الحكومة، بل إن ملوك الفرس سرعان ما ألغوا نظام الإمارة العربية وولوا من قبلهم حكاما من الفرس، يخضع لهم زعماء العرب، وأن الأمر قد استمر كذلك حتى الفتح الإسلامي في عام 633م.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق