الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الخامس عشر

الجزء الخامس عشر: التدمريون
1-  مدينة تدمر وتطورها التاريخي:
تقع مدينة تدمر على مبعدة 100 كيلو مترا من حمص، 150 كيلو مترا إلى الشمال الشرقي من دمشق، في منتصف المسافة تقريبا بين دمشق والفرات، ومن ثم فقد كانت موقعا مهما على الطريق التجاري بين العراق والشام، بل كانت نقطة التقاء التجارة القادمة من أسواق العراق، وما يتصل بها من أسواق في إيران والهند والخليج والعربية الشرقية، وبين تلك التي على البحر المتوسط، وبخاصة في الشام ومصر، فضلا عن اتصالها بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال إفريقيا والعربية الجنوبية والهند، وهكذا أصبحت "تدمر" ملتقى جميع القوافل، وبخاصة فيما بين القرن الأول قبل الميلاد، وعام 273م، ومن ثم فقد وجد في نقوشها عبارة "زعيم القافلة" و"زعيم السوق"، باعتبار أن المشار إليه من زعماء المواطنين.
واسم "تدمر" اسم سامي، يرجع ظهوره للمرة الأولى إلى أيام الملك الأشوري "تجلات بلاسر" الأول "1116-1090ق. م" في صورة "تدمر أمورو"، وأما إسم "تدمر" فهو النطق الآرامي لكلمة "تتمر" العربية، ومعناها المدينة التي يكثر فيها التمر والنخيل، وإن كنا على غير يقين من اشتقاق كلمة "تدمر"، وربما كان لها صلة بكلمة، "تدمورتا Tedmorta" السريانية، ومعناها "يعجب من".
وقد ورد اسم "تدمر" في المصادر اليهودية، فكاتب الحوليات العبراني يسجل في التوراة، أن سليمان قد بنى مدينة تدمر في البرية، والأمر كذلك بالنسبة إلى المؤرخ اليهودي "يوسف بن متى"، وليس من شك في أن وجهة النظر اليهودية هذه خاطئة؛ ذلك لأن المدينة -كما أشرنا آنفا- إنما ذكرت في الوثائق الآشورية قبل أن يولد سليمان نفسه، وبفترة تسبق ما دون في التوراة بشأنها، بأكثر من سبعة قرون.
ومن هنا فقد رأى العلماء أن الرواية التي تذهب إلى أن سليمان هو الذي بنى تدمر، إما إنها أرادت تعظيم شأن مملكة سليمان كعادة الروايات اليهودية -وكأن مكانة النبي الكريم لا تأتي إلا ببناء المدن واتساع مملكته، وليست برسالته السماوية- ومن ثم فقد نسبت إليه بناء هذه المدينة، التي تقع في منطقة بعيدة عن حدود دولته إسرائيل، وأما أن هناك خطأ وقع فيه كاتب الحوليات العبراني حين خلط بين "ثامار" التي أسسها سليمان، وهي موضع جاء ذكره في سفر حزقيال، ويقع إلى الجنوب الشرقي من "يهوذا" وإن كنا لا ندري موقعه الآن على وجه التحقيق، وربما كانت الشهرة التي اكتسبتها "تدمر" على أيام كتبة الأسفار العبرانيين هي السبب في نسبة بنائها إلى النبي الكريم، ومن ثم فقد ذهب هؤلاء الكتبة إلى أن المدينة التي بناها سليمان، ليست هي "ثامار"، وإنما "تدمر" والتي كانت مدينة عامرة، بسكانها، وذات شهرة في مجاوراتها فيما بين عامي 300، 200ق. م.
وأما الاسم اليوناني للمدينة فهو "بالميرا Paimya"، وهي ترجمة لكلمة "ثامار" العبرية، وتعني مدينة النخيل، وإن كان هناك من يرى أن كلمة "Paimyra" من كلمة "Paima" بمعنى النخل حتى الآن في بعض اللغات الأوربية، وأن الإسكندر المقدوني هو الذي أطلق عليها اسم "Paimyra" بعد أن استولى عليها، بسبب ما يكتنفها من غابات النخيل، ومن ثم فقد عرفت عند اليونان واللاتين بهذا الاسم، وهو رأي لا يزال بعد في مرحلة التخمين، ويحتاج إلى ما يدعمه من أدلة وبراهين.
وهناك ما يشير إلى وجود نفوذ سلوقي في تدمر، وربما كانت من نصيب السلوقيين بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323ق. م، وتقسيم امبراطوريته بين قواده، وعلى أي حال، فهناك حصن سلوقي في المدينة، وربما أقيم في عام 280ق. م، كواحد من سلسلة الحصون التي أقامها القوم في المناطق الإستراتيجية التي خضعت لهم.
أما الروايات العربية فلا تفيد علما، ولا تصلح أن تكون دليلان فهي روايات متأخرة دخلت إلى المسلمين من أهل الكتاب، فأخذوها بغير تحقيق ولا تدقيق، فضلا عن أن ضخامة آثار المدينة وعظمتها، ربما أدهشتهم، ومن ثم فقد نسبوا بناءها إلى الجن بأمر من سليمان عليه السلام، على أن "ياقوت الحموي" إنما يستبعد نسبة تدمر إلى سليمان، معللا ذلك بأن أهلها إنما يزعمون أنها ترجع إلى ما قبل عهد سليمان، بفترة تقارب ما بيننا وبينه، وأن الناس إذا ما رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه، أضافوه إلى سليمان وإلى الجن.
ومع ذلك فهناك من يقدم لنا أبياتا من شعر "النابغة الذبياني"، يذهب فيه إلى أن المدينة من بناء جن سليمان، وفات أصحاب هذا الزعم أن النابغة لم يكن عالما من علماء التاريخ والآثار، حتى يكون شعره حجة في بناء مدينة يرجع ظهورها في التاريخ إلى أخريات القرن الثاني عشر، أو الحادي عشر قبل الميلاد، ثم من أدرانا أن هذا الشعر للنابغة الذبياني حقا، فإن من نسبوا شعرا إلى آدم وهابيل وقابيل، وإلى الجن وإبليس، أليسوا بقادرين على وضع شعر على لسان النابغة الذبياني، وأما قصة بناء المدينة بأمر من امرأة تدعى "تدمر بنت حسان بن أذينة"، فليست إلا من هذا النوع من الكتابات التي ملأ الأخباريون بها صفحات كتبهم.
ولعل "بليني" "32-79م" أول الكتاب الكلاسيكيين الذين أشاروا إلى تدمر، فوصفها بأنها مدينة شهيرة ذات موقع ممتاز، وأرض خصبة، وأن بها عيونا وينابيع، وتحيط بحدائقها الرمال، وأنها تقع بين الأمبراطورية الرومانية والفارسية، ومن ثم فقد اضطر أهلها -ضمانا لاستقلالهم- أن يقفوا موقف الحياد بين هاتين القوتين المتصارعتين، ثم تابع "بليني" من جاء من بعده من الكتاب، مما يدل على أن شهرة المدينة كانت في ازدياد.
وأما أقدم كتابة عثر عليها في المدينة، فإنما ترجع إلى شهر نوفمبر من السنة التاسعة قبل الميلاد، وإن كان قد عثر في مدينة "دورا" -وتقع في مكانها الصالحية الحالية- على العرات الأوسط تجاه تدمر، على نقش يعتبر من أقدم النقوش التدمرية التي كشف عنها حتى الآن، ويرجع إلى عام 33ق. م، وفي هذا الوقت كانت تدمر مركزا تجاريا خطيرا بين دولتي الروم والفرس، ومع ذلك فإن أكثر ما نعرفه عنها إنما يرجع إلى ما بعد الميلاد، حيث لدينا نصوص إلى عام 271م.
وليس من شك في أهل كانوا عربا -شأنهم في ذلك الأنباط في البتراء- بدليل وجود بضع المصطلحات والكلمات العربية الأصلية في كتاباتهم، كما أن أسماء الأصنام عندهم عربية، والأمر كذلك بالنسبة إلى أسماء الأعلام، ومن ثم فقد رأى بعض العلماء أنهم من القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة في شرق الأردن، عقب انهيار الدولة البابلية الحديثة، وسقوط بابل تحت السيادة الفارسية في عام 539ق. م، ثم أخذت تستعمل الآرامية -وهي لغة الكتابة والثقافة في غرب الفرات وقت ذاك- لغة لها، ومع هذا فإن لغتهم هذه، ليست إلا لهجة من اللهجات الآرامية، وأنها لا تختلف كثيرا عن لغة الأنباط، وعن الآرامية المصرية.
ومع ذلك فإن اللهجة الآرامية التدمرية لها مميزات بررت أن يختصها بعض الباحثين بدراسة لغوية منفصلة، ومن أشهر هذه الدراسات كتابات المستشرق الفرنسي "كانتنيو"، وقد طور التدمريون الكتابة الآرامية، وعنهم انتقلت إلى السريان في "الرها"، فظهر منها الخط السرياني القديم المعروف باسم "الخط السرنجيلي" الذي ظهر بعد الانشقاق المذهبي بين سريان الرها في عام 489م، ثم ظهور لهجة غربية تسمى اليعقوبية، وشرقية تسمى النسطورية.
وأما الثقافة التدمرية، فكانت مزيجا من الثقافات العربية والآرامية واليونانية واللاتينية؛ ذلك لأن تدمر -كما كانت البتراء من قبل- قد نمت في ظل حضارة الآراميين، واتخذت لغتهم، فضلا عن المبادئ الأساسية في تفكيرهم الثقافي والديني، هذا في وقت الذي أخذت فيه كذلك كثيرا عن دنيا اليونان والرومان.
هذا، وقد قامت كذلك في تدمر جالية يهودية، منذ وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، فربما كان ذلك قبل سقوط القدس في أيدي الرومان على أيام الإمبراطور "فسباسيان" "69-79م"، ثم عمل هؤلاء اليهود بالتجارة وربما نشطوا في تهويد بعض السكان، وأن فريقا من هؤلاء اليهود، ربما رجعوا إلى القدس قبل تدميرها -المشار إليه آنفا- على يد "تيتوس" في عام70م.
وعلى أي حال، فلقد بدأت تدمر تزداد قوة وشهرة منذ النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، بسبب الأهمية التجارية والدبلوماسية لموقعها بين إمبراطوريتي الفرس والروم المتنافستين، ثم ساعد موقعها الجغرافي على عدم تمكن أي من الفريقين المتنازعين من سهولة الاستيلاء عليها، وقد حاول "مارك أنطونيو" عام 41ق. م، الاستيلاء على خزائن المدينة ففشل، وإن أصابها منه ضرر كبير غير أن مدينة مهمة كتدمر، لها مال وثروة، وليس لها جيش قوي ضخم، ولا مجال لتكوين هذا الجيش فيها، لا يمكن أن تبقى في مأمن ومنجاة من مطامع الغزاة، ولو كانت في بقعة منعزلة، أو في بادية بعيدة.
ومن هنا، فإن تدمر -على الأرجح- قد اعترفت بنوع من السيادة عليها للرومان، منذ أوائل العصور المسيحية، ودليلنا على ذلك المراسيم الإمبراطورية التي ترجع إلى عهد "تيبيريوس" "14-37م"، والتي تتعلق بالرسوم الجمركية، وقد عثر في تدمر على قوائم ترجع إلى عام 17م، وتبين بعض الرسوم على البضائع أثمانها باليونانية والتدمرية، هذا ويبدو أن تدمر قد أصبحت على أيام "فسباسيان" تحت الإشراف الروماني، وإن كان هذا لا يعني الخضوع لروما، أو أن الإشراف على الشئون المدنية بالمدينة، كان بأيدي الرومان، وإنما كان هناك إشراف رومي عام على المدينة، بدليل أن الروم قد سمحوا للمدينة بحق الاحتفاظ بحامياتها "Miiitia"  في خارج تدمر.
وقد بذل "تراجان" "98-117م" جهده لضم تدمر إلى المقاطعة العربية، التي أنشأها في عام 106م، واتخذ من "بصرى" مقرا لها، وفي عام 130م، زار "هدريان" "117-138م" تدمر، وجعلها تابعة لروما، ثم منحها لقب "هدريانا بالميرا" "Hadrinana Paimya" و"هدريانوبوليس "Hadrianopoiis"، كما أصبحت المدن التابعة لتدمر، تابعة لروما، وفي الواقع لقد نالت تدمر عناية كبيرة من "هدريان"، حتى قيل أنه "المؤسس الثاني" لها، فاهتم بحماية الطرق البرية التي توصلها إلى نهر الفرات، والتي كانت شريانا مهمًا للتجارة العالمية وقت ذاك، ثم كانت العلاقة الطيبة بين الفرس والروم في عهده سببا في رخاء تدمر، فوصلت الحاميات الرومية إلى شواطئ الفرات الغربية، وأقام التجار في مدينة "Voiogasia"، كما بنوا لهم معبدا هناك، ولدينا كتابة ترجع إلى عام 137م، أصدرها مجلس شيوخ المدينة لتنظيم التجارة وتثبيت الضرائب، وكيفية جبايتها.
وفي أوائل القرن الثالث الميلادي منح "سبتميوس سيفيروس" "193-211م" تدمر حقوق المستعمرة، واستمرت كذلك حتى على أيام "كراكلا" "211-217م"، وهكذا اكتسبت تدمر حق الملكية والإعفاء من الخراج، فضلا عن الحرية التامة في إدارة شئونها، وبدأ كبار القوم يضيفون إلى أسمائهم العربية أو الآرامية، أسماء رومية، بل وقد أضافت إحدى الأسر اسم "سبتميوس" أمام أسمها السامي، مما يدل على نوالها حق الرعاية في عهد "سيفيروس"، وربما كان ذلك سبب الخدمات التي قدمتها في الصراع ضد الفرس، إلا أن ذلك لا يعني أن تدمر، إنما أصبحت مقاطعة رومية تماما، وإنما كانت حكومة شبه مستقلة، تدير شئونها الإدارية بنفسها، ولكنها تخضع لإشراف روما عليها.
وانتهزت تدمر فرصة انشغال روما بغزوات الجرمان التي كانت تهدد دولتهم في أوروبا الغربية، وأخذت توسع رقعتها، وإن ظلت وفية للروم، وهكذا أصبحت دولة تدمر تشمل عددا من المدن الصغيرة التابعة لها، مثل "دورا" و"الرصافة"، وقد استخدمت "دورا" كمعقل لحماية تجارة تدمر الناشئة، وقد وجدت فيها بقايا أبنية ذات زخارف نافرة تمثل جنودا تدمريين، وأما "الرصافة" فقد دعيت في كتابة أثرية أشورية تعود إلى أخريات القرن التاسع قبل الميلاد باسم "رصابا Rasappa" وهي نفس المدينة التي جاءت في التوراة تحت اسم "رصف" بمعنى "الجمر المتوهج" وهدمها "سنحريب" "705-681ق. م" في أوائل القرن السابع ق. م، وقد عرفت فيما بعد باسم "سرجيوس بولس" نسبة إلى قديسها المحلي "سرجيوس" الذي استشهد في عهد دقلديانوس" "284-305م".
2- أذينة:
ارتفعت أسرة أذينة التي كان يتصدر اسمها كلمة "سبتميوس" إلى مكان الزعامة في تدمر في منتصف القرن الثالث الميلادي، وهناك ما يشير إلى أن جد "أذينة" الكبير كان يدعى "ناصر" "نصرو" والد "وهب اللات" "وهبلات"، وأن هذا الأخير إنما هو والد "خيران" أبو "أذينة"، وهناك كتابة ترجع إلى عام 235م ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصرو"، وأنه كان عضوا بمجلس الشيوخ الروماني، كما أن أباه "خيران" كان يحمل لقب "سبتميوس خيران"، وأنه كان "رأس" تدمر، وعضو مجلس شيوخها الممتاز، وأنه قد تمكن من تثبيت حكم أسرته، ومن الهيمنة على شئون المدينة، ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر وعند الرومان.
وفي عهد "خيران" هذا، أخذت تدمر دورها في القضايا الدولية، وما أن قامت الدولة الساسانية في عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان" "226-241م"3، حتى بدأ الشرق يضطرب بالصراع بين الروم والفرس، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى القوتين الكبيرتين، فآثروا الإنضمام إلى الروم بسبب العلاقات القديمة، ولأن الأمبرطور الروماني بسبب بعد روما، إنما هو أقل خطرا عليهم من الإمبرطور الساساني القريب منهم، واغتنم أهل تدمر فرصة نجاج "سابور" "241-272م" ملك فارس في التوغل في سورية، والقبض على الإمبراطور الروماني "فاليران" "253-260م" بعد هزيمة مخجلة للجيوش الرومانية قرب "ايسا" في عام 260م، كسب الساسانيون من ورائها شهرة عريضة، فضلا عن أسر ستين ألفا من جنود الرومان، واستيلاء الفرس على آسيا الصغرى وشمال سورية.
وكان أذينة له ثأر عند الرومان، منذ أن قتل قائدهم "روفينوس" أباه "أذينة الأول" وعدم موافقة الإمبراطور فاليران على أن يأخذ له بثأر أبيه من "روفينوس"، ومن ثم فإنه ما أن علم بهزيمة الروم في عام 260م، وأسر "فاليران" حتى أسرع بالاتصال بالفرس، مقدما لهم الهدايا، وعارضا عليهم صداقته، إلا أن الإمبرطور الفارسي، الذي كان يحس في ذلك الوقت أنه ملك الشرق والغرب جميعا، احتقر العرض التدمري، وأمر بإلقاء الهدايا في النهر، وتوعد أذينة بسوء المصير.
جزاء وفاقا على جرأته على مخاطبة ملك الملوك "شاهنشاه إيران وأنيران"، أي ملك ملوك إيران وغير إيران"، وهو لا يعدو أن يكون شيخا لمدينة صغيرة في بيداء قاحلة، لا أهمية لها ولا نفع منها.
وكان هذا التصرف الأحمق من ملك الفرس، سببا في أن يجمع أذينة القبائل بظاهر تدمر تحت إمرة ولده "هيرودوس"، والفرسان تحت قيادة "زيدا"، والقواسة ورماة السهام تحت قيادة "زباي"، وأن يضمم إلى أولئك وهؤلاء فلول جيش "فالريان"، وأن يخرج بكل هذه الجموع إلى "المدائن" للانتقام من "سابور"، ولإنقاذ "فالريان" من الأسر، وهناك على ضفاف الفرات تدور رحى الحرب بين أذينة والفرس، وتنتهي المعركة الضارية بهزيمة منكرة للفرس، يصل مداها إلى أن يترك "سابور" حريمه وأمواله غنيمة في أيد التدمريين، وأن يفر بالبقية الباقية من فلول جيشه إلى ما وراء الفرات ثم لا تستطيع هذه البقية أن تعبر النهر إلا بشق الأنفس وإلا بعد خسائر فادحة في الأرواح، بل وتذهب بعض الروايات إلى أن "أذينة" قد طارد المهزومين حتى أسوار عاصمتهم "اصطخر" -التي خلفت مدينة "برسيبوبوليس" القديمة- وإن لم ينجح في فك أسر الإمبراطور السجين، ولكنه استولى على الكوخ ونصيبين، بل وامتد نفوذه إلى الشام، وبعض أقاليم آسيا الصغرى الرومية.
ويكتب "أذينة" إلى الإمبراطور الروماني الجديد "جالينيو" "260-268م" بن فالربان، بكل هذه الأحداث، فيطرب الأخير لسماع هذه الأخبار، ويطلب من أذينة الاستمرار في الحرب، حتى ينقذ "فالريان"، ثم ينعم عليه في عام 262م بلقب "زعيم الشرق" "Dux Orientis"، مما جعله أشبه بنائب الإمبراطور الروماني في الشرق، وكان "فالريان" قد أنعم عليه في عام 258م، بمرتبة "القنصلية".
وبدأ "أذينة" "أودينات Odenathus" يسترجع أرض الإمبراطورية الرومية من الفرس، فنجح في استرداد نصيبين -كما أشرنا آنفا- وحران، واستقبل هناك استقبال الأبطال، ثم سرعان ما اتجه في عام 264م، نحو "طيسفون" وضرب الحصار حولها، وكاد الإمبراطور الفارسي أن يستسلم، لولا أن المؤامرات الرومية قد لعبت دورا خطيرا في إفساد نجاح أذينة، ذلك أن القائد الروماني "مكريانوس" -الذي كان سببا في هزيمة الروم ووقوع فالريان في الأسر- قد أعلن الثورة على "جالينو"، ونصب نفسه امبراطورا على القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية "آسيا الصغرى والشام ومصر"، ومن ثم فقد اضطر أذينة إلى أن يرفع الحصار عن الفرس، وأن يعود لإخماد هذه القتنة الجديدة، إلا أنه ما أن بدأ يعد العدة لمواجهة "مكريانوس" حتى علم بقتله، ثم اتجه إلى حمص للقضاء على ولده "كياثوس"، وبعد أن شدد الحصار على المدينة، قتل "كاليستوس" سيده "كياثوس"، ورمى برأسه من فوق السور تحت قدمي أذينة، وفتح الأبواب والتمس الأمان منه، وبذا انتهت ثورة القائد "مكريانوس"، غير أن "كاليستوس" سرعان ما عاد إلى الثورة من جديد، ومن ثم فقد أمر أذينة بعضا من رجاله باغتيال "كاليستوس" وعاد الهدء إلى هذه المنقطة الهامة من الإمبراطورية الرومانية بفضل جهود "أذينة".
وفرح جالينيو" بالقضاء على الثورة، ومن ثم فقد أمر عام 264م بمنح أذينة لقب "Imperator Touyius Orientis" أي "إمبراطور جميع بلاد الشرق"، وعهد إليه بالإشراف على جميع القوات الرومية في الشرق، والقضاء على فلول جيش "مكريانوس" غير أن أذينة لم يكتف بكل هذا، فلقب نفسه بلقب "ملك الملوك" تقليدا لملك الفرس، كما أمر بأن تنقش صورته بجوار صورة الإمبراطور الروماني على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس، أضف إلى ذلك أن مجلس الشيوخ الروماني قد منحه لقب "أغسطس"، وهكذا صار أذينة مساويا لإمبراطور روما نفسها.
وفي عام 265م، اتجه أذينة، أو ملك الملوك، إلى محاربة الفرس من جديد، ربما لأنه لم ينس إهانة "سابور" له، يوم مزق رسالته أما رسله، وربما رغبة منه في التودد إلى الرومان، ونيل الحظوة عند "جالينو"، وأيأ ما كان السبب فإننا نرى أذينة يترك ولده البكر من زوجته الأولى، ويدعى "سيبتميوس هيرودوس" نائبا عنه في تدمر، ثم يخرج على رأسه جيشه إلى "طيسفون"، فيضرب الحصار عليها، ويضطر "سابور" إلى أن يظهر استعداده لعقد محالفة مع أذينة، إلا أن الأخير طلب فك أسر "فاليران، وهو شرط في نظر الفرس جد عظيم، ومن ثم فقد أوقفت المفاوضات بين الطرفين.
وهنا يتغير الموقف -للمرة الثانية- في مصلحة الفرس، إذ يعبر "القوط" البحر الأسود، منتهزين فرصة غياب أذينة عن آسيا الصغرى والشام، وينزلوا بميناء "هرقلية" ويتجهوا نحو "قبادوقيا"، ومن ثم فإن أذينة سرعان ما يضطر إلى رفع الحصار عن مدينة الفرس، والعودة لقتال الغزاة الجدد، إلا أن القوط سرعان ما علموا بعودة أذينة، فعادوا إلى مياء هرقلية، ثم أبحروا منها عائدين إلى بلادهم.
وهنا، وفي هذه اللحظات التي وصل فيها أذينة إلى ذروة مجده، وبينما كان يجهز لجولة أخيرة مع الفرس، يفتح فيها "طيسفون"، يذهب البطل العربي- وكذا ولده هيرودوس- ضحية الغدر والخيانة في أحوال غامضة في عام 266م "أو 267م"، يلعب فيها ابن ماجه "معنى بن خيران" الدول الأول، وإن كان الروم ربما قد أدركوا خطورة أذينة على إمبراطوريتهم، فعملوا على التخلص منه، وبيد أقرب الناس إليه، وإن كان هناك من يرى عكس ذلك تماما، وأن الرومان بموت أذينة، إنما فقدوا الحماية لإمبراطوريتهم في الشرق، وأن المؤامرة ربما تكون قد لعبت فيها أطراف أخرى، قد تكون "الزباء" التي رأت أن العرش سوف يذهب إلى ابن ضرتها، بينما يحرم منه بنوها، وقد تكون عصبة من الوطنيين، خيل إليهم أن أذينة قد أصبح أداة طيعة في أدي الرومان فقرروا التخلص منه، وهكذا بات من الصعب على العلماء الوصول إلى قرار صائب، أو حتى قريب من الصواب، فالأدلة غير متوفرة، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير أكثر من شك، فالجيش يبايع القاتل دون ثورة، أو حتى تردد، وأهل حمص يقتلون القاتل بعد حين من الدهر، ثم تنصيب "الزباء" بعده مباشرة، ألا يثير كل ذلك شكا؟ أو حتى يلقي شبهة من ظن في شخص آخر؟، ومع ذلك، فما لا شك فيه، أن هناك أمورا تحتاج إلى وقفة، ولكنها لا تقدم جديدا، ما لم تحدثنا الوثائق ع هذا الجديد.
3- الزباء:
جاءت الزباء أو "زنوبيا" إلى العرش وصية على ولدها القاصر "وهب اللات" بعد مقتل أبيه أذينة، وتدعى في الكتابات التدمرية "بيت زباي" "Bath Zabbay" أي "ابنة العطية"، وهي "الزباء" في المصادر العربية، وإن اختلفت هذه المصادر في اسم هذه المرأة، فيه "الزباء بنت عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" وهي "ليلى" على زعم آخر، ولها أخت دعوها "زبيبة" لها قصر حصين على شاطئ الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر، كما كان لها جنود، هم -في نظر هذه المصادر العربية- من العماليق والعرب العاربة الأولي، ويروي الأخباريون أن ملك العرب بأرض الحيرة، ومشارف الشام كان لعمرو بن الظرب، وكان جنود الزباء "بمعنى الجميلة ذات الشعر الطويل" من بقايا العماليق من عاد الأولى، ومن نهد وسليح ابني حلوان، ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات في قصر لها هناك، وتربع ببطن المجاز،وتصيف بتدمر.
وينسب الأخباريون إلى الزباء كثيرا من القصص، بعضها لطيف وبعضها غريب، وإن كان معظمه بعيد عن الحقائق التاريخية، فإذا ما تجاوزنا الاختلاف في نسبها، بل وحتى في اسمها "الزباء، فارغة، ميسون، ليلى"، لرأينا بعضهم ينسب إليها شعرا، وبعضهم ينسب إليها حكما وأمثالا، في لغة عربية بليغة، وإن كان هذا ليس غريبا، على من ينسبون إلى آدم وإلى إبليس شعرا مضبوطا وفق قواعد النحو والصرف، ومن ثم فليس من العجيب أن ينسبوا إلى الزباء شعرا كذلك.
وهناك رواية تزعم أن "جذيمة الأبرش" ملك الحيرة، كان قد قتل والد الزباء "عمرو بن الظرب"، ومن ثم فقد أرادت الزباء أن تثأر لأبيها، غير أن أختها "زبيبة" قد نصحتها بترك الحرب، واصطناع الحيلة عن طريق دعوة جذيمة إلى تدمر ثم قتله، وهكذا تنجح الزباء في استدعاء جذيمة إلى عاصمتها وفي قتله، إلا أن ابن أخته وخليفته "عمرو بن عدي" سرعان ما يحتال على الزباء، بمساعدة "قصير"، فينتقم منها في مدينتها، وذلك بأن حمل إلى تدمر رجالا في جوالق كبيرة، يستطيع عن طريقهم القضاء على حرس الزباء التي تهرب إلى نفق كانت قد حفرته في قصرها لمثل هذه الظروف، غير أن "قصيرا" -وكان على علم بسر النفق- سرعان ما يضع في طريقها "عمر بن عدي"، الذي ما أن تراه الزباء، والسيف في يده، حتى تمص خاتمها المسموم، قائلة "بيدي لا بيد عمرو"، ومع ذلك فإن عمرا قد أطاح رأسها بسيفه، وأخذ بثأره.
والقصة في صورتها الراهنة لطيفة، ولكنها بعيدة عن الحقائق التاريخية، فقد جمع الأخباريون فيها كل ما عرفوه من أساطير الشرق القديم، كقصة تحوتمس الثالث "1490-1436ق. م" وفتح يافا، وكقصة عدي مع أخت جذيمة، هذا فضلا عن قصة وفاة الزباء مسمومة، وصلتها بقصة كليوبترا ملكة مصر، أضف إلى ذلك أن الصنعة واضحة في الأمثال التي نسبت في القصة إلى جذيمة وقصير والزباء وعدي وابنه عمرو، وأخيرا فالثابت تاريخيا أن الزباء قد حملت أسيرة إلى روما بعد استيلاء الرومان على تدمر -كما سوف نرى فيما بعد.
على أن الغريب من الأمر حقا، ذلك الإغريق في رواية الأساطير، من جانب المؤرخين المسلمين، وفي نفس الوقت، ذلك التجاهل غير الطبيعي منهم، لدور "الزباء" الفذ في تاريخ الشرق القديم في تلك الفترة، بل إننا نرى في نفس الوقت كذلك، إطنابا في مدح الفرس لا يتفق وحقائق التاريخ، بل هو مديح لم يقل مثله مؤرخوا الفرس أنفسهم -الأمر الذي نراه كثيرا من المؤرخين المسلمين، وبصورة واضحة، حين يتحدثون عن تاريخ اليهود- وربما كان السبب في ذلك أن مصادر المؤرخين الإسلاميين- وبخاصة في تاريخ مصر وسورية والعراق فيما قبل الإسلام- إنما هي مصادر فارسية ويهودية في الدرجة الأولى، وهي مصادر لا يمكن أن توصف بأقل من أنها متحيزة لأصحابها، وأن الأخباريين إنما كانوا -في أغلب الأحايين- يتساهلون في نقل أخبارهم عن عصور ما قبل الإسلام بدرجة ملفتة للنظر، بل إن الواحد منهم إنما كان ينقل من أخبار عن يهود أو فارس، دونما تعقيب أو تعليق، وكأنها حقائق ترقى فوق مظان الشهات، وإن كان الأمر غير ذلك تماما بالنسبة إلى المصادر اليونانية والرومانية.
وأيا ما كان الأمر، فهناك روايات يفهم منها أن الزباء إنما كانت تزعم أنها مصرية، من سلالة كيلوبترا، وأنها كانت تتحدث المصرية بطلاقة، وقد ألفت كتابا في التاريخ -وبخاصة في تاريخ مصر- خطته بيدها، وأنها كانت مثقفة ومن ثم فقد استدعت إلى عاصمتها المشاهير من رجال الفكر، وذهبت روايات أخرى إلى أنها سمحت لجالية يهودية بالإقامة في عاصمتها، وأن هذه الجالية قد جاءت إلى تدمر بعد تدمير بيت المقدس على يد "تيتوس" في عام 70م، وأنها قد بلغت حوالي نصف سكان المدينة، بل إن القديس "أثناسيوس" والمؤرخ "فوتيوس" إنما يذهبان إلى أن الزباء نفسها قد اعتنقت اليهودية، وإن لم تسمح بإقامة معابد يهودية في تدمر، غير إن هناك ما يشير إلى أن اليهود ربما قد اضطهدوا على أيامها، حتى أن واحدا من أحبار عصرها يقول "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر".
ومن عجب أن هذه الآراء المتضاربة، إنما تذهب كذلك إلى أن الذي هود الزباء، إنما كان الأسقف "بولس السميساطي" ولست أدري كيف يهود أسقف مسيحي الزباء، أما كان الأولى أن ينصرها؟ ومن ثم فإن التحيز- فضلا عن الاضطراب- في هذه الرواية، لا يحتاج إلى إثبات، وربما كان السبب أن هذا الأسقف المسيحي قد أبدى رأيه في "الثالوث" بما لا يتفق وآراء الكنيسة وقت ذاك، ومن ثم فقد حكم عليه في أنطاكية عام 269م بالعزل من الأسقفية، وعلى أي حال، فهناك الكثير من الشواهد التي تدل على أن اليهود إنما كانوا ناقمين على المملكة وعلى الدولة كذلك، ربما بسبب أذينة ضد الفرس؛ ذلك لأن الزواج المختلط إنما نتج عنه جيل جديد أضاع الدين والتقاليد الإسرائيلية، وأن الحروب ضد الفرس قد ألحقت ضررا كبيرا بالجاليات اليهودية التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العراق والشام.
هذا، وقد حرص فريق آخر على أن يجعل الزباء نصرانية، وإن ذهب فريق ثالث إلى أنها إنما كانت محبة للنصارى، ولكنها لم تكن نصرانية، بينما اتجه فريق رابع إلى أن المرأة لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما كانت بين بين، كانت تعتقد بوجود الله -سبحانه وتعالى- وترى التوحيد، كما يراه الفلاسفة، وليس كما تصوره ديانة الكليم أو المسيح عليهما السلام.
ويختلف المؤرخون كذلك في أصل الزباء، فذهب فريق منهم إلى أنها مصرية، وذهب فريق ثان إلى أنها من العماليق، وذهب فريق ثالث إلى أنها آدومية، واتجه فريق رابع إلى أنها من أصل عربي، ولكنها من دم مصري من ناحية الأم، بل إن المسعودي ليرى أنها رومية تتكلم العربية، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى إنما تكاد تجمع على أنها عربية.
وأيا ما كان الصواب في هذه الروايات المتضاربة، فمما لا شك فيه أن شخصية تلك المرأة القوية لتعد واحدة من الشخصيات الهامة في تاريخ الشرق الأدنى القديم، ويصفها المؤرخون بأنها امرأة قوية الشخصية، قوية البنية، شجاعة جميلة، ذات هيبة ووقار، كانت تستوي في الجمال مع كيلوبترا، وإن فاقتها عفة وطهارة، وجرأة وشجاعة، كانت من ألطف بنات جنسها، وأكثرهن بطولة، كانت سمراء الوجه، ذات أسنان ناصعة البياض كاللؤلؤ، تفيض عيناها السوداوان حيوية غير عادية، مع رقة جذابة إلى أبعد حد، كان صوتها قويا مطربا، وكانت سيرتها أقرب إلى سير الأبطال، منها إلى سير النساء، فلم تكن تركب في الأسفار غير الخيل، وقد سارت على قدميها في بعض المرات عدة أميال على رأس الجيش، وكانت تلبس في المناسبات الرسمية ثوبا من الأرجوان موشى بالجواهر، مشدودا عند الحصر، وإذا ما استعرضت جيشها في الميادين العامة تمر أمام الصفوف فوق جوادها، وعليها لباس الحرب، وفوق رأسها الخوذة الرومانية، تاركة إحدى ذراعيها عاريا حتى الكتف -كما يفعل المحاربون من اليونان القدامى- تحرض جندها على الصبر في القتال، والشجاعة عند لقاء العدو، فإذا ما كان عندها فراغ من وقت، قضته -كما كان يفعل أذينة- في صيد وحوش الصحراء الكاسرة، كالأسد والدب والنمر.
كانت طموحة أريبة ذات سبق في مضمار السياسة، تبت في الأمور بحزم وحكمة، بدلا من أن تتردى في حمأة الأهواء التافهة، التي كثيرا ما تشوب حكم النساء، فإذا كان الأوفق أن تعفو وتصفح، استطاعت أن تحد من غضبها وتخفف من غلوائها، وإذا كان لزاما أن تبطش، استطاعت أن تخرس نداء الشفقة والرحمة، وكانت مثقفة، لم تكن تجهل الاتينية، ولكنها كانت تجيد اليونانية والسريانية والمصرية بنفس القدر، وهي لغات المثقفين في ذلك العصر، كما ألفت أن تعقد موازنة بين روائع هوميروس وأفلاطون تحت إشراف "لونجينوس"، وأن تعيش في قصرها على نظام بلاط الأكاسرة، إذ كان حاشيتها تحييها بالسجود، حسب الأسلوب الفارسي.
وأيا ما كانت المبالغة في ذلك كله، فالذي لا شك فيه أن تلك المرأة كانت خيرب خلف لزوجها البطل، وأنها منذ أعلنت نفسها ملكة على الشرق- مستخفة إلى حين بالإمبرطورية الرومانية- بدأت تعمل على تكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، بخاصة وأنها أدركت بفطتها السياسية أن أعداء تدمر، إنما هم الرومان، والذين لا يفكرون إلا في مصلحة روما فحسب، ومن ثم فقد بدأت تتقرب إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، فضلا عن الأعراب الذين كانت ترى أنهم عمادها في القتال وسندها في الحروب، إلا أن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على آمالها قبل أن تتحقق، بل واحتلوا تدمر نفسها.
وكانت بداية النزاع بين الزباء والرومان، يوم أرسل "جالينو" بجيش لاحتلال تدمر والقضاء على الزباء، قبل أن يستفحل خطرها، متظاهرا بأنه يريد محاربة الفرس، إلا أن الملكة العربية سرعان ما اكتشفت السر، ومن ثم فقد دارت بين الفريقين معركة حامية الوطيس، كتب النصر فيها للزباء، وحاقت الهزيمة بالروم، وفي نفس الوقت، فإن الملكة قد خافت أن يستغل الفرس الفرصة، فيوجهوا إليها ضربة قد تكون غير مستعدة لها، ومن ثم فقد أنشأت حصنا على الفرات، دعته "زنوبيا" "Zenobia" نسبة إليها.
وأخيرا بدأت الزباء ترنو بناظريها نحو أرض الكنانة -تلك الأرض الخصبة الآهلة بالسكان، وذات التاريخ المجيد، والثقافة العريقة- بعد أن أذاعت- إن صدقا أو كذاب- أنها مصرية من نسل كليوبترا، وجاءتها الفرصة ممثلة في مقتل "جالينو" عام 268م، وتولية "كلوديوس" "268-270م" خلفا له، وفي نفس الوقت كان الألمان والقوط قد بدءوا بهاجمون القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، مما دفع "بروبوس" -الحاكم الروماني في مصر- إلى أن يخرج بأسطول الإسكندرية لمطاردة القوط، وهنا بدا الزعماء المصريون -وعلى رأسهم تيماجنيس وفرموس- يحرضون الزباء على فتح مصر، بل ويقدمون لها العون المادي على هذا الفتح.
وهكذا تحرك "زبدا" -قائد جيش الزباء، على راس حملة، قوامها سبعون ألف رجل- إلى مصر، وهناك دارت معركة رهيبة بين الفريقين، انتهت بنصر مبين لجيش زنوبيا، وهزيمة ساحقة لجيوش الرومان، وضم مصر إلى دولة الزباء، ولكن ما أن يمضي حين من الدهر، حتى يعود "زبداط بجيشه إلى تدمر، تاركا الأمور بيد "تيماجنيس" ومع فرقة صغيرة لا يتجاوز عددها خمسة آلاف جندي، وفي نفس الوقت كان "بروبوس" قد علم بما حدث، فأسرع عائدا إلى مصر، وأخذ يتعقب الجنود التدمريين، ويطاردهم في كل مكان، وتعلم الزباء بالتطورات الجديدة، فتأمر "زبدا" بالعودة إلى مصر، حيث يشتبك الرومان والتدمريون في معارك ضارية، يلعب فيها عرب مصر من سكان المناطق الشرقية، فضلا عن "تيماجنيس" -وهو مصري على رأي، وعربي متمصر على رأي آخر- أخطر الأدوار إلى جانب التدمريين، وبخاصة في المعارك التي دارت حول حصن بابليون.
وتنتهي المعارك باتفاق بين الزباء والرومان في أخريات أيام "كلوديوس"، على أن يكون حكم مصر مشتركا بينهما، بدليل ما جاء في بعض المراجع من أن المصريين قد حلفوا يمين الولاء للقيصر، وبدليل ما عثر عليه من عملات تدمرية نقشت في الإسكندرية في عام 270، 271م، وعلى وجهها صورة القيصر" "أورليان" "270-275م"، بجانب صورة "وهب اللات" "ابن الزباء"، مما يدل على الحكم المزدوج بينهما.
كان فتح الزباء مصر، والاستيلاء على الإسكندرية -أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة بعد روما- ضربة أصابت الروم في الصميم، ثم جاءت سياسة الزباء التوسعية في الشام وآسيا الصغرى، دليلا على أن طموح تلك المرأة القوية لا يقف عند حد، ومن ثم فإن الإمبراطور "أورليان" سرعان ما انتهز فرصة القضاء على الاضطرابات في روما، ورد هجوم القوط، حتى بدأ يعد العدة لمعركة فاصلة مع الزباء، غير أن الملكة العربية سرعان ما علمت بدورها بنية الإمبرطور الروماني، فقررت أن تتحداه إلى آخر الشوط، وهكذا نراها تأمر بإلغاء الإتفاقية المبرمة مع سلفه "كلوديوس"، فتصدر النقود في الإسكندرية وقد خلت من صورة "أورليان" واقتصرت على صورة ولدها "وهب اللات" الذي اتخذ لقب "أغسطس" -وهو اللقب الخاص بأورليان- كما أسبغت هي على نفسها لقب "اغسطا"، ثم أقامت لزوجها المتوفي تمثالا كتب عليه "تمثال سبتميوس أذينة ملك الملوك، ومجدد الشرق كله".
وهناك رواية تذهب إلى أن الزباء قد اتصلت بالملكة "فيكتوريا" ملكة إقليم الغال، لتنسيق خططهما ضد الرومان، ثم بدأت جيوشها تتوغل في آسيا الصغرى، وأقامت الحاميات باتجه الشمال الغربي حتى "أنقره"، وظلت جيوشها تتقدم دونما أدنى مقاومة، حتى "خلقدونية" مقابل بيزنطة، وهكذا استطاعت ملكة البادية أن تكون لنفسها ولإبنها إمبراطورية انتزعتها من بين مخالب النسر الروماني، وهو في أوج قوته، ورغم أنها كانت إمبراطورية قصيرة الأجل، إلا أنها كانت ومضة عربية تستحق التقدير في تاريخ العلاقات العربية الرومية، وتسبق إمبراطورية الأمويين "-132هـ = 661-750م" بأربعة قرون.
غير أن تنفيذ هذه الخطة، دعا الزباء إلى أن تسحب كثيرا من قواتها من مصر، وانتهز أورليان الفرصة، ونجح قائده في أن يلحق بالتدمريين في عام 271م، هزيمة كانت نتيجتها خروج مصر من إمبراطورية الزباء، وانقطاع ضرب النقود في الإسكندرية باسم ولدها "وهب اللات"، وإن كان أخطر النتائج التي تمخضت عن فقد مصر، أن الزباء بدأت تفقد الثقة بنفسها وبجيشها، كما شجعت أهل خلقدونية بآسيا الصغرى على صد هجوم التدمريين، أملا في نجده قريبة تأتي من القيصر الروماني، وهذا ما حدث بالفعل، إذ سرعان ما قدمت الجيوش الرومانية بقيادة القيصر نفسه فعبرت البسفور، وطردت التدمريين من "بتينية" ثم اتجهت إلى "غلاطية" فـ "قبادوقيا" حتى بلغت "أنقرة"، وهكذا استطاع أوليان في عام 272م، أن يخضع الحاميات التدمرية في آسياء الصغرى، وأن يتابع مسيرته حتى سورية.
وحاولت جيوش الزباء أن توقف جيوش الروم في سورية، في الوقت الذي بدأت فيه الدعايات الرومانية تنتشر بين الناس بنبؤات الآلهة عن سقطو تدمر، وقبلت عقول العامة هذه الأكاذيب، وأخذ اليأس يتسرب إلى نفوس الجنود، وأرادت الزباء أن تخرس الألسنة فخرجت لملاقاة أورليان عند أنطاكية- فارسة تحارب في طليعة الجيش- ونجحت شخصيتها القوية في أن تعيد الثقة إلى جنودها، وحققت نصرا على الرومان، إلا أن أورليان الذي تراجع بقواته سرعان ما باغت الزباء بهجوم مفاجئ حقق فيه نصرا كبيرا، مما اضطر الزباء إلى ترك أنطاكية لأورليان، لا بسبب هزيمتها فحسب، ولكن لأن القوم هناك كانوا يميلون إلى جانب الرومان بعواطفهم، فهناك جالية يونانية ذات نفوذ في المدينة تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين، وهناك كره النصارى للزباء بسبب موقفها من الأسقف "بولس السميساطي" الذي عزله مجمع أنطاكية، ولكنها لم تنفذ قرار العزل، وهناك كراهية اليهود للتدمريين.
واستعدت الزباء لملاقة "أورليان" في حمص، على رأس جيش قوامه سبعون ألفا، وتكرر ما حدث في أنطاكية، نصر الزباء في أول الأمر، ثم هزيمة لها بعد ذلك، مما اضطرها إلى ترك حمص، والاحتماء بتدمر نفسهان وهكذا دخل أورليان حمص، فزار معبد الشمس، وقدم القرابين لإله المدينة، كما تعهد بتجميل المعبد وتوسيعه.
وحاولت الزباء الاتصال بالفرس طلبا للمساعدة ضد عدوهما المشترك، غير أن القوم قد انشغلوا عن ذلك كله، بموت "سابور"، وتولية ولده "هرمز الأول" "272-273م"، ثم عزله بعد عام واحدا، هذا فضلا عن أن حراب القيصر وسخائه، كانا كفيلين بقطع الطريق على أية مساعدة فارسية تأتي للزباء، أضف إلى ذلك أن أورليان كان قد عزز قواته بنجدات أتته من مختلف أنحاء سورية، إلى جانب وصول "بروبوس" بقواته الظافرة من مصر.
وهكذا بدأ الحصار القاتل على المدينة الشجاعة، التي قابلته بصبر وبطولة، بل وسخرية من قيصر روما، حتى أن هذه السخرية سرعان ما وصلت إلى روما نفسها، فبدأ الرومان بدورهم يسخرون من القيصر الذي عجز عن التغلب على امرأة في مدينة صحراوية، وهناك رواية تذهب إلى أن القيصر قد كتب إلى مجلس الشيوخ يقول: "قد يضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة، ألا فليعلموا أن الزباء إذا قاتلت كانت أرجل من الرجال".
ويعرض القيصر على الزباء التسليم بشروط معتدلة، وترفض الملكة العربية العرض بإباء وشمم، مذكرة إياه بأنها تفضل كيلوبترا على عار الاستسلام له، وأنها سوف تلقنه درسا قاسيا على جرأته على الكتابة إليها، طالبا منها الاستسلام، عندما يحين الوقت، ويأتي إليها أعوانها من الفرس والعرب والأرمن، ومن أسف أن الملكة انتظرت، وطال انتظارها، وأخيرا أدركت أنها تحارب في معركة خاسرة، ومن ثم فقد قررت أن تذهب بنفسها إلى ملك الفرس، فخرجت ليلا على هجين سريع تبغي حصنها "زنوبيا"، ثم تعبر الفرات من هناك إلى فارس، إلا أن الأقدار أبت أن تكتب لها أي نجح في إثرها، فقبضت عليها، وهي تهم بركوب زورق ينقلها إلى الشاطئ من الفرات، وهكذا فقدت الزباء الأمل في نصرة الفرس لها، كما فقدت ابنها، وهو يذود عن حياض بلاده.
وهكذا لم يصبح أمام تدمر سوى الاستسلام، ومن ثم فقد فتحت أبوابها في أوائل عام 273م لقيصر روما، فدخلها أورليان دخول الفاتحين، كما جردها من تحفها الثمينة التي أخذ بعضها لتزيين معبد الشمس الجديد في روما، واقتصر عقاب السكان على فرض غرامة مالية عليهم، وتعيين حاكم روماني، مع عدد من الرماة، وهكذا عادت تدمر إلى حظيرة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن شقت عصا الطاعة، منذ أسر فالريان في عام 260م.
وأخذت الزباء إلى حمص، وهناك عقد مجلس لمحاكمة الملكة العربية العظيمة ورجال بلاطها، وتذهب بعض الروايات إلى أن الزباء قد تنصلت عن مسئوليتها عما حدث، فضلا عن اعترافها بأنها لم تكن إلا الاحتقار لأمثال جالينوس وكلوديوس، ولكنها تعترف لأورليان وحده بأنه ملك فاتح، إلا أن كثيرا من المؤرخين ينكرون هذه الرواية التي لا تتفق وما كانت عليه الزباء من سمو الأخلاق، فضلا عن الكرم والشجاعة والثقافة، وأيا ما كان نصيب هذه الرواية من الخطأ والصواب، فإن أورليان قد أمر بإعدام بعض رجال الزباء، وإن كان قد أبقى عليها، هي وابنها "وهب اللات" "الذي ذهبت الروايات إلى أنه قتل في ميدان القتال"، بغية إلحاقهما بموكب النصر، الذي سوف يقيمه عند دخوله روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية.
وجاءت الأنباء إلى قيصر، وهو في طريقه إلى روما، بثورة عاتية في تدمر، وأخرى في مصر، وهنا لم يتردد "أورليان" لحظة في أن يتولى وجهه شطر سورية، وروعت أنطاكية لعودة الأمبراطور على عجل، وأحست تدمر وطأة حنقه الذي لا يمكن دفعه، وهناك رسالة يعترف فيها أورليان بأن الشيوخ والنساء والأطفال والفلاحين لم ينجوا من العقاب الرهيب، الذي كان خليقا بأن يقتصر على المتمردين المسلحين، وبعد أن أشبع أورليان نهمه الدنيء من التدمريين، أمر بالكف عن المذابح وترميم معب الشمس، إلا أن المدينة كانت قد فقدت كل عظمتها القديمة، وأخذ رماة السهام وقواسي تدمر ليعملوا في خدمة الجيش الروماني في إفريقيا، وحتى في بريطانيا.
وهكذا أخذت تدمر تتوارى في الظلام، حتى أنها غدت على أيام "دقلديانوس" "284-305م" بمثابة قرية صغيرة، وقلعة من قلاع الحدود، وطبقا لرواية "ملالا" فإن "دقلديانوس" قد ابتنى فيها "Castra"، بعد أن تم صلح بينه وبين الفرس، كما يشير الأب "سبستيان رتزقال" إلى أنه فعل بنصارى تدمر، ما فعله بإخوتهم في كل أقاليم الإمبراطورية.
وفي أوائل القرن الخامس الميلادي، أصبحت تدمر تابعة لولاية "فينيقيا"، وقد عين فيها "ثيودوسيوس" "408-450م" فرقة من الجنود لحمايتها من هجمات رجال البادية، وفي العام الأول من حكم "جستينيان" "527-565م" أصبحت تدمر على خط الحدود الخارجية للإمبراطورية، ومن ثم فقد أمر بتقوية حاميتها، وإصلاح ما تهدم من مبانيها، فضلا عن تحصين قلاعها وأسوارها وتحسين موارد مياها، ثم اتخاذها مقرا لحاكم ولاية فينيقيا، ومع ذلك، فإن تدمر بدأت تفقد أهميتها شيئا فشيئا، ورغم الإشارة إليها كمركز أسقفي في الصحراء، فإن الصحراء قد تغلبت عليها يوم فقد سكانها السيطرة على هذه الصحراء، وظلت كذلك حتى فتحها "خالد بن الوليد" صلحا في عام 634م، على أيام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه وأرضاه- "11-13هـ=632-634م" غير أنها لم ولن تعود كما كانت على أيام الزباء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق