الأربعاء، 26 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الثاني

الجزء الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم

مدخل
ظل التاريخ العربي القديم -كما أشرنا من قبل- حتى أخريات القرن الثامن عشر الميلادي، يعتمد في الدرجة الأولى على ما جاء عنه في كتب اليهود واليونان والرومان، فضلا عن المصادر العربية بأنواعها المختلفة، إلى أن بدأ الأوربيون يهتمون في العصر الحديث ببلاد العرب، لأسباب كثيرة، منها الرغبة في معرفة ما كان يجري في مكة والمدينة، إذ ألهب ذلك الموضوع خيال الأوربيين، بخاصة وأن المدينتين المقدستين محرمتان على غير المسلمين، ومنها الرغبة في السيطرة على تلك المنطقة بعد أن امتد نفوذ الغرب إلى الشرقين -الأقصى والأوسط- مما جعل دراسة هذه المنطقة ضرورة سياسية بالنسبة إلى أوربا، ومنها أن الأوربيين في أسفارهم إلى الهند -عن طريق البحر الأحمر ومصر- سمعوا ما يتناقله سكان شواطئ اليمن وحضرموت عن آثار الأبنية المدفونة في رمال تلك البقاع، وما عليها من كتابات لم يستطع العرب- ولا اليهود قراءتها.
وهكذا بدأ نفر من المستشرقين في طليعة القرن التاسع عشر الميلادي يتطلعون إلى ضرورة الاعتماد على مصادر أثرية، من كتابات ونقوش، توضح ما خفي من هذا التاريخ، كما دفعتهم الكتابات القصصية التي سجلها مؤرخو اليونان والرومان والعرب، وما حفلت به الكتب المقدسة عن ملكة سبأ وسليمان، إلى التفكير في الكشف عن التراث القديم لبلاد اليمن.
وانطلاقًا من هذا كله بدأت رحلات الأوربيين إلى شبه الجزيرة العربية، ثم تلتها بعثات علمية منتظمة اتجهت إلى مختلف أنحاء بلاد العرب، لتكشف لنا عن الحضارات العربية المختلفة، وكانت نتيجة هذه البعوث أن حصلنا على كثير من المعلومات التي تلقي أشعة قوية على الماضي العربي المجيد، ونستطيع أن نتتبع جهود الأوربيين -من مغامرين ورحالة وبعثات علمية- في هذا السبيل، على النحو التالي:
أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية
تميزت الفترة ما بين عامي 1513، 1756م، بالمغامرين من الرحالة الأوربيين إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ففي عام 1513م يهاجم "ألفونسو دي البوكرك" ميناء "عدن" بعد أن استولى البرتغاليون على مجموعة حصون في جنوب بلاد العرب، وكان قد رسم خطة دنيئة، يستولي بها على الجثمان الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، ثم يطلب في مقابل ذلك كنيسة القدس، ولكن الله رد كيده في نحره، "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، فباءت قواته بفشل ذريع أمام أسوار عدن الحصينة، كما أدى ذلك إلى أن يقوم الأتراك المسلمون بالاستيلاء على اليمن، بعد حملتين بحريتين في عامي 1519، 1538م.
ثم تلت ذلك مغامرات فردية إلى "جِدّة" و"المخا" في عام 1517م، ثم مغامرة النصرانيّين "بائز ومونصرات" عام 1589م، حيث كانا أول أوربيين يشاهدان "محرم بلقيس"، ثم رحلة المؤرخ اليسوعي "مانوئيل دي الميدا" في عام 1633م، من عدن إلى خنفر ولحج.
إلا أن الفضل الأكبر في الاكتشافات العلمية ببلاد العرب إبان القرن الثامن عشر، إنما يرجع إلى الألمان، وربما كان العالم "ميخايلس" هو أول من وجه الأنظار إلى بلاد العرب، وإلى الصلات القوية التي تربط بينها وبين العلوم المتصلة بالكتاب المقدس، ومن ثم فقد أقنع "فردريك الخامس" ملك الدانيمارك، بإرسال بعثة علمية إلى بلاد العرب، تحركت من ميناء "كوبنهاجن" في 4 يناير 1761م، ووصلت إلى ميناء القنفذة في 29 أكتوبر 1762، غير أن النكبات بدأت تحل بها يومًا بعد آخر، حتى لم يبق من أعضائها على قيد الحياة، غير الضابط الصغير "كارستن نيبؤور" الذي أخذ على عاتقه تنفيذ الخطة التي رسمت للبعثة، ومن ثم فقد قرر ألا يعود إلى وطنه، إلا بعد أن يحقق الهدف، وقد بر الرجل بوعده، ولم تطأ قدماه أرض "كوبنهاجن" إلا في عام 1797م، بعد أن قطع رحلة طويلة مارًّا بالبصرة وبغداد والموصل وحلب والقدس وقبرص واستنبول.
وبالرغم من أن أربعة من الباحثين قد ماتوا، إلا أن النتائج التي توصلت إليها هذه البعثة كانت أفضل نتائج البعثات العلمية في ذلك الوقت، وما زالت المعلومات التي دونها "نيبؤور" مرجعًا أساسيًّا عن اليمن حتى الآن، فضلا عن أنه لفت أنظار العلماء إلى "المسند" والرُقُم العربية، إلى جانب ما قدمه من خرائط لأماكن مجهولة لم تكن قد وطأتها قدم أوربي قبل ذلك، هذا وقد وضع هذا الرحالة الممتاز كتابًا عن رحلته باللغة الألمانية، ظهرت له أكثر من ترجمة فرنسية وإنجليزية.
شجعت رحلة "نيبؤور" العلماء على مواصلة البحث عن النقوش العربية الجنوبية، ثم كانت حملة نابليون بونابرت" على مصر في عام 1798م، وكشف حجر رشيد في العام التالي، ثم الجهود المضنية التي بذلها العلماء من أمثال "إكربلاد" عام 1802م، و"توماس يونج" عام 1814م، وأخيرًا جاء "جان فرنسوا شامبليون" "1790-1823م" الذي تمكن من حل رموز الهيروغليفية المصرية، كل ذلك وغيره دفع الباحثين إلى القيام برحلات كثيرة إلى بلاد العرب.
وفي 8 أبريل من عام 1810م، يصل إلى "الحديدة" الدكتور "أولريخ جاسبار سيتزن" الألماني، ويتمكن من الوصول إلى "ظفار" حيث ينجح في العثور على النقوش التي أشار إليها "نيبؤور"، وفي نسخ خمسة نقوش بالقرب من "ذمار" تعتبر أولى النقوش العربية الجنوبية، إلا أن الرجل سرعان ما اختفى في ديسمبر عام 1811م، في ظروف غامضة في "تعز" أو "صنعاء" بيد الأعراب أو بيد الإمام نفسه.
وفي عام 1834م، يدخل الإنجليز الميدان، ويتمكن الضابط "جيمس ولستد" من زيارة جنوب بلاد العرب، واكتشاف "حصن الغراب" ونسخ نقش كتابي وجده مسجلا عليه، يرجع تاريخه إلى عام 525م، ثم يقوم "ولستد" في العام التالي برحلة إلى غرب "وادي ميفعة"، حيث يعثر هناك في "نقب الهجر" على بقايا مدينة أو حصن.
وفي عام 1835م، تمكن "هوتن" من إضافة عدد جديد من النقوش، والأمر كذلك بالنسبة إلى "كروتندن" الذي جاء عام 1838م بنقوش جديدة، وكذا الدكتور "مايكل" الذي زودنا بخمسة نقوش سبئية، مما ساعد على حل رمور "المسند".
وفي عام 1843م تمكن الرحالة الألماني فون فريدة" من ارتياد الصحراء المعروفة باسم "بحر الصافي" أو "الأحقاف" شمالي حضرموت، حيث اكتشف في سهل ميفعة الشرقي في "وادي أوبنة" بقايا حائط قديم، عليه نقش حضرمي عرف "بنقش أوبنة".
وقد تميز هذا العام كذلك برحلة الصيدلي الفرنسي "جوزيف توما أرنو" الذي نجح في 12 يوليه 1843م في السفر من صنعاء إلى مأرب، فزار خرائب "صرواح" وفحص بقايا أسوار في مأرب، وكذا معبد "المقه" إله القمر، الذي تقوم آثاره خارج مأرب، والذي يطلق العرب عليه اسم "محرم بلقيس"، هذا إلى جانب نقله لـ 56 نقشًا سبئيًّا رآها هناك، وقد قام "فرزنل"، القنصل الفرنسي في جدة بنشر هذه النقوش عام 1845م، أما "أرنو" نفسه، فقد أثرت عليه رحلته وفقد بصره حينًا من الدهر، بسبب ما تعرض له من أمطار عند عودته من صنعاء إلى الشاطئ في بلاد تهامة.
وفي عام 1860م نجح الضابط الإنجليزي "كوجلان" في شراء مجموعة كبيرة من النقوش، عثر عليها في أنقاض مدينة "عمران" عام 1854م، من بينها تماثيل وأحجار مكتوبة وألواح من النحاس لا يقل عددها عن الأربعين.
وفي تلك الأثناء نجح العلماء في فك رموز هذه الكتابة العربية الجنوبية وأطلقوا عليها اسم "الحروف الحميرية"، ولكن سرعان ما تبين لهم أن هذه النقوش ليست كلها حميرية، وأن بعضها نصوص معينية، وبعضها الآخر سبئية، بل إن فيها نصوصًا تختلف عن الحميرية بعض الاختلاف، وهذه الكتابة هي المسماة "بخط المسند"، وبالقلم المسند، وبالمسند في الموارد العربية.
وبدأت فرنسا تهتم بالأمر، ومن ثم فقد رأت أكاديمية الفنون والآداب الجميلة في باريس عام 1869م، إصدار موسوعة النقوش السامية:
Corpus Inscriptionum Semiticarum
، واختير المستشرق الفرنسي اليهودي "جوزيف هاليفي" لرياسة بعثة إلى اليمن، لتزويد الموسوعة بنقوش جديدة، وكان اختيار "هاليفي" اختيارًا موفقًا، فهو كيهودي يستطيع أن يتجول بين أفراد القبائل العربية المستقلة بكل حرية، لأن اليهود كانوا يعاملون في اليمن معاملة المنبوذين، فلا يسمح لهم بحق من الحقوق إلا ما تجود به النفس العربية مدفوعة بعامل الرفق والعطف، ومن ثم فلا يسمح لليهودي مثلا بحمل السلاح، كما كان المسلم ينظر إليه نظرة كلها احتقار، وفي نفس الوقت، فإن الشهامة العربية إنما كانت تقضي بعدم الاعتداء على اليهودي الأعزل؛ لأن ذلك الاعتداء إنما كان يشين الكرامة البدوية التي رأت أن قتل اليهودي لا يختلف عن قتل المرأة أو الطفل.
وهكذا بدأ "هاليفي" رحلته في عام 1870م، وحينما وصل إلى "عدن" تلقى معونة الجالية اليهودية فيها، فضلا عن خطابات التوصية لكل يهود اليمن، ثم تزي بزي يهودي فقير جاء من القدس، ثم زار بقايا "القليس" في صنعاء، ثم اصطحب معه يهوديًّا يدعى "حاييم حبشوش"، وزار كل جهات اليمن تقريبًا، بما في ذلك مأرب والجوف ونجران، الأمر الذي لم يتحقق لغيره من قبل، وأخيرًا عاد إلى فرنسا، ومعه 676 نقشًا، لم يكن من بينها إلا أحد عشر نقشًا سبق أن نقلها "أرنو" ونشرها "فرزنل"، ومع ذلك فأهم نتائج الرحلة لم يكن في كمية النقوش، بقدر ما كان في المعلومات الجديدة التي جاءت بها هذه النقوش، فضلا عن بعض الآثار القديمة التي رآها، إلى جانب معلومات كثيرة عن حياة بعض القبائل التي زارها في داخل البلاد.
على أن أعظم اكتشافات هاليفي، إنما كان خرائب "قرناو" عاصمة دولة معين، والمعروفة اليوم "بمعين" وكانت تقع على مرتفع حصين تحيط به الأسوار والأبراج، فضلا عن النقوش التي تشير إلى أن "براقش" الحالية، إنما كانت تسمى في العصور القديمة، "يطيل"، هذا إلى جانب مدينة "السوداء" التي يعتقد "هاليفي" أنها كانت مدينة قديمة صناعية.
وفي عام 1882م، قام المستشرق النمساوي، "سيجفريد لانجر" المتخصص في اللغة العربية برحلة إلى اليمن، حيث عثر على نقش حميري هام بالقرب من "ظران" كما حصل على نقوش أخرى على مقربة من "ضاف" التي بحث عنها "سيتزن" دون جدوى، كما تمكن من نسخ عدد من النقوش في صنعاء، فضلا عن الحصول على نقوش من عدن، لم يعرف موطنها الأصلي، من بينها نقش حضرمي له أهمية لغوية، على الرغم مما به من تلف.
وجاء "إدوارد جلازر" تلميد "موللر"، والذي ترجم الجزء الثاني من "الإكليل" إلى اللغة الألمانية -فقام فيما بين عامي 1882، 1892م، بثلاث رحلات إلى اليمن، كانت ذات نفع كبير في تاريخ البحث العلمي، وقد أعد "جلازر" نفسه للمهمة إعدادًا طيبًا، فرغم أنه كان أستاذًا للغة العربية، فقد أقام -قبل رحلاته إلى اليمن- فترات في تونس والقاهرة، ليتمكن من اللغة العربية، وليتعرف على العادات العربية، وأخيرًا رغم أنه يهودي، فقد ادعى الإسلام، وارتدى زي علمائه وسمى نفسه "الحاج حسين".
وقد بدأ "جلازر" رحلته الأولى في أكتوبر 1882م، في رفقة حملة تركية جردت لفتح مدينة "سودة" التي كانت تناصب الحكومة العداء، وفي هذه الرحلة زار المنطقة الوسطى، وعاد إلى فرنسا في مارس 1884م، ومعه 250 نقشًا، ثم كانت رحلته الثانية، فيما بين أبريل 1885، وفبراير 1886م، وقد اهتم فيها بالمنطقة الواقعة بين عدن وصنعاء، كما زار "ظفار" ونسخ عددًا كبيرًا من النقوش المعينية، وقد أضيفت فيما بعد إلى ممتلكات المتحف البريطاني.
وفيما بين عامي 1887، 1888م، قام برحلته الثالثة، التي زار فيها "مأرب" ورسم تخطيطات لآثار القنوات والسدود القديمة، كما رسم خريطة جغرافية للمناطق التي زارها، فضلا عما قدمه من وصف لآثارها، وفي رحلته الرابعة "1892- 1894م"، نراه يستعين بالأعراب في نسخ النقوش القديمة في مناطق الجوف، ومن ثم فقد تيسر له جمع مئات من النقوش المهمة، دون أن يذهب بنفسه إلى تلك المناطق الخطرة البعيدة، ومن هذه النقوش "نقش صرواح"، الذي يرجع إلى أقدم عصور الدولة السبئية، فضلا عن مجموعة من العملات العربية القديمة، ضمت إلى مقتنيات متحف الفنون بفيّنا، كما نشر الكثير منها، وإن لم يتم للآن نشر كل أعماله.
وتأثرت أكاديمية الفنون بفينا بنتائج رحلات "جلازر"، فقررت عام 1898م، إرسال بعثة إلى جنوب بلاد العرب، يشرف عليها "موللر" و"لندبرج"، غير أن الإنجليز لم يسمحوا لها بالتوغل داخل اليمن مستغلين نفوذهم هناك، فذهبت إلى حضرموت لزيارة الخرائب القريبة من "شبوه" فأقام العرب العقبات في طريقها، مما اضطرها إلى العودة بعد أن بلغت "عزان"، وإن تمكنت من طبع نقوش "نقب الهجر" و"أوبنة" و"حصن الغراب" وفي يناير 1899م، توجهت إلى سوقطرة لدراسة لهجتها، كما درست فيما بعد اللغات الحديثة في الصومال ومهرة وسوقطرة وشخوري، ونشرت أبحاثًا فيها بعد ذلك.
وتقوم الحرب العالمية الأولى "1914-1918م"، ويتوقف هذا النشاط العلمي الممتاز، ولكن ما أن تضع الحرب أوزارها، وتنال اليمن استقلالها، حتى يغلق الإمام يحيى الأبواب أمام البعثات العلمية والمغامرين سواء بسواء، وذلك إبان الصراع الذي نشأ بينه وبين الإنجليز، بشأن قضايا عدن والمحميات، إلا أن الرجل كان -مع ذلك- جد حريص على الكشف عن آثار بلاده، ولكن بطريقته الخاصة. وهكذا -وعلى نفقة ولي العهد- بدأ البحث من جديد عن آثار اليمن، ففي عامي 1931، 1932م، قام كل من "كار راتيز" و"فون فيسمان" برحلات متعددة إلى الحبشة وحضرموت واليمن، وقاما بأول حفائر في منطقة النخلة الحمراء وغيمان وحقه شمالي صنعاء، إلا أن العقبات سرعان ما أحاطت بهما، كما أن الحفائر لم تكن منظمة، وعلى نطاق ضيق، حتى أن الرجلين لم يتيسر لهما مطلقًا -رغم إقامتهما مدة غير قصيرة في اليمن -أن يزور آثار مأرب أو الجوف، إذ لم تسمح لهما السلطات بالسفر مطلقًا إلى شرقي وشمالي صنعاء، وقد نشر نتيجة أبحاثهما الجغرافية والأثرية في مؤلف من خيرة الكتب عن اليمن، وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، خصص الجزء الثاني منه للآثار.
وفي عام 1931م، تمكن الرحالة الإنجليزي "برترام توماس"، والذي كان وزيرًا للمالية في حكومة سلطان مسقط، مما أتاح له الفرصة لمعرفة الكثير عن أحوال جنوب بلاد العرب، وزيارة الأماكن النائية، ودراسة أحوال تلك البلاد وما فيها، تمكن من اجتياز الربع الخالي، أو "مفازة صيهد" كما كان يعرف، في 58 يومًا، فكان أول أوربي جرؤ على اجتياز هذه المنطقة، وقد كشف "توماس" هناك عن بحيرة ملحة، يتجه البعض إلى أنها كانت من متفرعات الخليج العربي، كما عثر على آثار جاهلية، لم يعرف عنها شيء حتى الآن.
وتابع "جون فلبي" توماس في اجتياز الربع الخالي، فسافر في 7 يناير 1932م، من الهفوف إلى واحة يبرين، ومنها اتجه جنوبًا إلى الربع الخالي في متوسط نقاطه عند "بئر نيفا" حتى وصل إلى بلدة سليل في منتهى وادي الدواسر، وفي هذه الرحلة زار عسير ونجران وشبوه وتريم، ثم واصل السير حتى بلغ الشحر، وقد نشر رحلته هذه في عام 1939م.
وفي عام 1936م سمحت الحكومة اليمنية للصحفي السوري "نزيه مؤيد العظم" بزيارة مأرب، ومن ثم فقد حصل على معلومات ذات قيمة، نشرها في عام 1938م، ثم قام "ريكمانز" بدراسة النقوش التي حصل عليها "نزيه العظم".
وفي نفس عام 1936، أرسلت جامعة القاهرة بعثة علمية إلى جنوب بلاد العرب، تحت رياسة الدكتور سليمان حزين، كانت مهمتها دراسة المنطقة من نواحيها الجغرافية والزراعية والجيولوجية -وكذا دراسة النقوش السبئية- إلا أن نشاط البعثة الأثري اقتصر على المنطقة المحيطة ببلدة "ناعط"، وقد نشر الدكتور حزين والدكتور خليل نامي بعضًا من نتائج البعثة.
وفي عام 1937م، قامت ثلاث رحالات أوربيات "ج. كاتون طمسون، أ. جاردنر، ف. شترك" برحلة إلى حضرموت نجحن خلالها في الكشف عن معبد الإله القمر في وادي عمد، مقابل حريضة، وعن وسيلة من وسائل الري التي كانت مستخدمة هناك قبل الإسلام في وادي بيش، كما عثرن على عدد من النقوش، وقد ظهرت نتائج الرحلة في كتاب أصدرته "ج. كاتون طمسون" في عام "1944". هذا وفي نفس العام "1937" قام "فان درمويلن" و"فون فيسمان" بالتعاون مع "بتينا فون فيسمان" و"فون فاسيلفسكي" برحلة أخرى "غير رحلتهما الأولى التي قاما بها عام 1931"، أتت بفوائد كثيرة لعلم اللغات السامية.
وهناك غير هذه الرحلات العلمية، رحلات سياسية المظهر والمخبر، كتلك التي قام بها "هارولد" و"انجرامز"، وقد أفادتنا من الناحية الجغرافية، وزادت معلوماتنا عن إقليم حضرموت، ثم هناك رحلة "هاملتون" إلى شبوه في عام1938م، هذا إلى جانب رحلات "تزيجر" في عامي 1945-1946م، إلى بلاد العرب السعيدة.
وفي عام 1945م، تغزو أسراب الجراد اليمن، وتستغيث حكومة الإمام بمصر، طالبة منها العون في رد هذا الكرب، وتسرع جامعة القاهرة بإرسال الأستاذ محمد توفيق -عضو بعثة عام 1936- لدراسة هجرة الجراد في بلاد العرب، والبحث عن وسيلة لإنقاذ اليمن منها، وينتهز الأستاذ محمد توفيق الفرصة، فيزور آثار الجوف، وينقل كثيرًا من النقوش ويأخذ لها صورًا "فوتوغرافية"، وقد نشرت هذه النقوش في القاهرة في عامي 1951-1952م2، كما قام الدكتور خليل يحيى نامي بنشر نقوش خربة براقش، على ضوء مجموعة الأستاذ محمد توفيق.
وفي عام 1947م، يقوم أستاذنا الدكتور أحمد فخري -طيب الله ثراه- برحلة إلى اليمن، يزور فيها مناطق صرواح ومأرب وما حولهما، وكذلك جميع مراكز الحضارة المعينية في الجوف، وقد عثر أستاذنا في رحلته هذه على نحو 120 نقشًا جديدًا لم تكن معروفة من قبل، كما أخذ مجموعة من الصور "الفوتوغرافية" لكل ما رآه من آثار، وكانت مجموعته هذه أول صور "فوتوغرافية" وافية تنشر عن سد مأرب والمعابد المختلفة، وقد نشر نتائج رحلته هذه في بضع مقالات، وفي كتاب أصدره عام 1952م، في ثلاثة أجزاء، اقتصر الجزء الثاني منها على النقوش التي فحصها وترجمها الأستاذ "ريكمانز".
وكانت أمريكا حتى ذلك الوقت لم تدخل الميدان العلمي في اليمن، ومن ثم فقد نظمت "مؤسسة دراسة الإنسان الأمريكية "The American Foundation For The Study Of Man"، في الفترة ما بين عامي 1950، 1952م، بعثتين علميتين برياسة "وندل فليبس"، ضمت بين أعضائها الأثري المشهور "وليم أولبرايت"،اتجهت الأولى إلى الحفر في "بيجان" بحضرموت، واتجهت الثانية إلى اليمن، إلا أن بعثة "فيلبس" كانت للأسف غير موفقة في صلتها بالحكومة اليمنية، ومن ثم فلم تتمكن من إتمام حفر المساحة الأمامية لمعبد محرم بلقيس على مقربة من مأرب، ولكن الأسابيع القليلة التي قضتها البعثة هناك كانت كفيلة بإظهار كثير من المباني والنقوش الجديدة، وإظهار مدى النجاح الذي ينتظر أية بعثة علمية تقوم بالحفر في هذه المناطق البكر.
وهكذا تمكنت البعثة من الحصول على نتائج جديدة لم تكن معروفة عن تاريخ قتبان وسبأ، فضلا عن حفائرها في "تل هجر بن حميد" الذي كشفت فيه عن كثير من الفخار الذي يرجع إلى ما قبل الميلاد بألفي سنة، كما كشفت عن معابد وقصور في "تمنع" -العاصمة القتبانية القديمة- والتي يتجه البعض إلى أنها خربت لأول مرة في حوالي عام 25ق. م، وأما في مأرب فقد كشفت البعثة عن معبد الإله القمر، وعن سد مأرب، وعن خرائب ترجع إلى القرن السابع ق. م، كما عثرت البعثة على كثير من الآثار البرونزية والرخامية وبعض النقوش السبئية، وأخيرًا فقد ظهرت في الصحف بعض المقالات عن حفائر البعثة، فضلا عن كتابين، الواحد منهما للقارئ العادي كتبه "وندل فيلبس"، والآخر تقرير علمي واف عن الحفائر.
وفي عام 1952م، وبينما كانت البعثة العلمية قد توقفت عن عملها في مأرب، كانت هناك بعثة جامعة الدول العربية في صنعاء، تقوم بتصوير المخطوطات العربية النادرة في اليمن، وهنا طلبت حكومة اليمن من الدكتور خليل يحيى نامي -رئيس البعثة والأستاذ بجامعة القاهرة، والمتخصص في النقوش اليمنية- أن ينضم إلى لجنة فحص ما تركه الأمريكيون، وتقديم تقرير عما قاموا به من حفائر، ومن ثم فقد تيسر له أن يزور المنطقة، وأن يأخذ لها كثيرًا من الصور "الفوتوغرافية".
وفي مايو 1959م، قام أستاذنا الدكتور أحمد فخري -أستاذ تاريخ مصر الفرعونية والشرق الأدنى القديم بجامعة القاهرة -برحلته الثالثة إلى اليمن- وكانت رحلته الثانية في عام 1948م- وفيها زار مأرب وآثارها للمرة الثانية، ونقل نقوشًا جديدة لم تكن معروفة من قبل، كما نجح في الوصول إلى موقع معبد في منطقة المساجد، وهو معبد كبير في حالة لا بأس بها، وقد شيده "يدع إيل ذريح"، والذي شيد كذلك معبد صرواح ومعبد مأرب، وبالرغم من أن اسم هذه المنطقة الأثرية كان معروفًا لنا من روايات البدو، فقد ظل أشبه بأسطورة، ولم يسبق للأثريين من قبل زيارته أو أخذ صور فوتوغرافية له.
وأخيرًا، وفي عام 1960، عادت البعثة الأمريكية للحفر في "ظفار" بعمان، لإكمال ما بدأته في المرة الأولى، حيث كشفت عن بعض الجوانب في تاريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان، هذا وقد تمت كذلك تنقيبات في "تاج" و"وادي الفاو" عام 1968م، بإشراف بعثة متحف أرهوس الدنماركية، وفي نجران في عام 1968م كذلك، بواسطة "معهد سيمشونيان بواشنطن".
ولعل من الجدير بالذكر هنا أن الزميل الأستاذ شرف الدين قام بعدة جولات في مناطق الآثار في بلاد اليمن، زار فيها مأرب والجوف وظفار وبيجان، والحدأ وذمار ورداع وهمدان وأرحب، عاد منها وفي حوزته مئات من الصور الفوتوغرافية والنسخ الخطية والأبحاث والخرائط، أصدر أول كتاب له عن لغة المسند في عام 1968م، متضمنًا تراجم عدد من النقوش وبعض الملاحظات عن قواعد لهجات "المسند" كالمعينية والسبئية والقتبانية، كما أصدر في عام 1975م كتابًا آخر عن "اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام" تحدث فيه عن قواعد هذه اللغة، فضلا عن نشر نماذج من نقوش حضرمية وسبئية ومعينية وديدانية ولحيانية وثمودية وصفوية، وإني على علم بأنه قد انتهى من دراسة تاريخية، حقق فيها نصوصًا جديدة تحت عنوان "مختارات من النقوش العربية القديمة" "Seiected Arabic Inscription"
هذا، وقد بدأت جامعة الرياض تدخل الميدان، فأرسلت بعثة برياسة الدكتور عبد الرحمن الأنصاري للتنقيب تدخل "الفاو" في الفترة "من 24/ 11/ 90 إلى 5/ 12/ 1390هـ"ثم تلتها مواسم أخرى فيما بين عامي 1392، 1396هـ، وقد نجحت البعثة في تصوير ونقل حوالي 250 نقشًا منتشرة على سفوح خشم قرية، من شماله حتى جنوبه، فضلا عن مجموعة كبيرة من شواهد القبور والأواني الحجرية والفخارية والخزفية، إلى جانب قطع حجرية تحتوي على نصوص وكتابات هامة بالخط المسند، وكذا مجموعة من قطع النسيج، بالإضافة إلى أشياء دقيقة كالخرز والأساور الزجاجية وأدوات الحياكة وبعض العملات الفضية والنحاسية، وقد أرخت البعثة لهذه القطع الأثرية -وكذا للمواقع الأثرية الهامة كتل القصر الكبير- بالفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد، والقرن الثاني الميلادي.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن إدارة الآثار بوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية -والتي أنشئت في 23/ 6/ 1392هـ- تقوم الآن بعمل مسح أثري لكل المناطق الأثرية بالمملكة، تمهيدًا للقيام بحفائر أثرية على نطاق واسع، وبطريقة علمية.
والواقع أن هناك اهتمامًا جديًّا بدراسة الآثار في الجامعات السعودية، فقد أنشأت جامعة الرياض تخصصًا في الآثار بقسم التاريخ منذ العام الجامعي 94/ 1395هـ، كما قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العام الجامعي 95/ 1396هـ "75/ 1976م" بإدخال مادة الآثار ضمن برامج الدراسة في قسم التاريخ بها، والأمل كبير في أن تثمر هذه الدراسات الأثرية قريبًا، فتخرج أجيالا من علماء الآثار، تعقد البلاد عليهم آمالا كبارًا في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العريقة.
ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية
لم يكن حظ شمال شبه الجزيرة العربية ووسطها، بأقل من جنوبها، فإن آثار البتراء وسورية الجنوبية، قد استهوت عددًا من العلماء الأوربيين، كما أن تحريم دخول المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، على غير المسلمين، قد ألهب خيال الأوربيين وزادهم رغبة في التعرف على ما يجري فيهما، وبخاصة في موسم الحج، ومن هنا رأينا كثيرًا من الأوربيين يأتون إلى زيارة الحرمين الشريفين متخفين، ذلك لأن منطقة مكة والمدينة إنما كانت تحت حراسة مشددة، خشية أن يتسلل إليها الأوربيون، وهكذا وجدنا من القادمين إلى وسط شبه الجزيرة العربية وشمالها، أنواعًا مختلفة من الرحالة الأوربيين، من مغامرين وحجاج وباحثين.
ولعل أقدم ما نعرفه عن هؤلاء الرحالة هو "ل- دي فرتيما" الذي وصل إلى مكة قادمًا من دمشق عام 1503م، وإن كان هناك من يزعم أن "كابوت" الرحالة الكبير قد قام بزيارة مكة بين عامي 1476، 1490م، وأن ملك البرتغال قد أرسل "بور دي كوفيلها"، الذي كان يتكلم العربية، إلى شبه الجزيرة العربية في عام 1487م، وذلك للتحقق من إمكانية الذهاب إلى الهند عن طريق البحر الأحمر، وأنه وصل فعلا إلى عدن، ومنها إلى الهند، وسواء أصح هذا، أم أن الأمر مجرد زعم كذوب، فإن هذه الرحلات لا قيمة لها من الناحية العلمية، وإن كان "دي فرتيما" قد وصف لنا رحلته التي زار فيها الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وصفًا صحح فيه كثيرًا من الأخطاء الشائعة عنهما لدى قومه الأوربيين.
على أن كتابات "دي فرتيما" قد تأثرت إلى حد كبير بعقيدته الدينية، كما دلت على جهل واضح بجغرافية المنطقة، فضلا عن تقديمه معلومات ساذجة عن مشاهداته هناك، فمن ذلك مثلا، تفسيره لعدم صيد الحمام الذي يكثر بمكة، من أن المسلمين يعتقدون أنه سليل تلك الحمامة التي كانت تكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوصفها الروح القدس:
"أولًا" أن مكة بلد الله الحرام، لا يجوز الصيد فيها، وليس -كما زعم- لأن هذا الحمام ينحدر من تلك الحمامة التي كلمت مولانا وجدنا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ثم من أين جاء بكل هذا؟.
"ثانيًا" أن المسلمين لا يؤمنون بحمام على أنه الروح القدس، وإنما ذلك هو "جبريل" عليه السلام، ولعله في ذلك كان متأثرًا بعقيدته الدينية.
ومنها كذلك حديثه عن "رمي الجمار" وأنه رمز لطاعة إسحاق، ودليل على الرغبة في الاقتداء به، فقد جاء في التعاليم الإسلامية أن الشيطان حاول إقناع إسحاق بعدم اللحاق بأبيه إبراهيم العازم على التضحية به.
ويبدو هنا، مرة أخرى، أن "دي فرتيما" إنما يتحدث بمنطق اليهود والنصارى وعقيدتهم في الذبيح، حتى في موطن العرب أنفسهم، ونسي -أو تناسى:
 "أولًا" أن الذبيح عند العرب -على الأقل- إنما هو إسماعيل، وليس إسحاق، عليهما السلام.
"ثانيًا" أنه في مكة، وليس في فلسطين، والأولى موطن إسماعيل، والثانية مستقر إسحاق، ولو كان الأمر، كما يرى "دي فرتيما"، لكان رمي الجمار في فلسطين، وليس في مكة، ومن ثم فلست أدري من أين جاء بذكر إسحاق هنا؟.
ثم إن قوله إن مدائن صالح والعلا، إنما هما سدوم وعمورة، لا يدل على جهل واضح بجغرافية المنطقة فحسب، وإنما يدل كذلك على جهل بروايات التوراة، كتابه المقدس، وخاصة حين يذهب إلى أن أهل سدوم وعمورة كانوا يعيشون على المن والسلوى، وأنهم كفروا بأنعم الله، فعاقبهم بأعجوبة منه والمعروف أن تلك قصة بني إسرائيل في التيه، وأن ما حدث في سدوم وعمورة، إنما كان لأن قوم لوط عليه السلام كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ومن ثم فقد "أمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض"، ومن هنا رأى بعض العلماء أن هناك شَبَهًا بين مصير قوم عاد وثمود من ناحية، وبين مصير سدوم وعمورة وبقية مدن الدائرة في عمق السديم، من ناحية أخرى، ولعل هذا هو السبب في اضطراب فكرة "دي فرتيما"، ومن ثم فقد ذهب إلى أن مدائن صالح والعلا، هما سدوم وعمورة.
وأيًّا ما كان الأمر، ففي عام 1509م، يتابع "دي فرتيما" رحلته إلى الجنوب، وهناك في عدن يتهم بأنه نصراني يتجسس لحساب البرتغاليين الذين كانت سفنهم نشطة أمام السواحل العربية الجنوبية، فيتم القبض عليه، ويودع في قصر السلطان تمهيدًا لإعدامه، وهنا يتجه "دي فرتيما" في كتاباته وجهة دنيئة، فيجعل من زوج السلطان إمراة العزيز، ويجعل من نفسه الصديق، ثم تنتهي مغامراته الفاشلة بالرحيل إلى بلاد الفرس ثم الهند، حيث يقوم هناك بدوره الحقيقي، دور الجاسوس لملك البرتغال، وينال جزاءه على ذلك، فتكرمه جامعة البندقية، وينال حماية أسرتين كبيرتين هناك، فتكرمه جامعة البندقية، وأخيرًا تتم الدراما بأن يعلن الكاردينال "كارفجال" حمايته لـ "دي فرتيما" فضلا عن الإنفاق على ترجمة مؤلفه إلى اللاتينية.
ولعل كل ما قدمته هذه الرحلة خريطة لشبه جزيرة العرب، -كما رسمها بطليموس، منذ ثمانية عشر قرنًا- وبعض المعلومات المشوهة عن المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، ثم مقارنة جغرافية بين العربية الشمالية، والعربية الجنوبية، وقبل ذلك وبعده، سموم ضد الإسلام والعرب، وهو أمر لا يعد غريبًا، إن جاء من موطنه، ولكن الغريب حقًّا أن يترجم ذلك، وأن يذاع بين شباب العرب، والمسلمين منهم بخاصة، حتى دون التعليق على ما فيه من روايات لا تعرف نصيبًا من صواب، وحكايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، إلى جانب ما فيه من دعاوى تتعارض مع الإسلام، فضلا عن المنطق والحق والصواب، وقد تكون المصيبة أعظم، لو أن الذين ترجموا ذلك يظنون أنهم يقدمون بعملهم هذا للعروبة وللإسلام -فضلا عن العلم- خيرًا، أو حتى بعض الخير.
هذا وقد تميزت الفترة ما بين عامي 1604، 1739م، برحلات الحجاج إلى مكة، ففي عام 1643م، قام المطران "ماثيو دي كاسترو" -القاصد الرسولي في بلاد الهند- بزيارة الأماكن المقدسة، متنكرًا في زي رحالة غريب، وذلك أثناء رحلته من الهند إلى روما، مارًّا بشبه الجزيرة العربية، ولا شك في أنه -إذا صحت روايته- رجل الدين المسيحي الوحيد الذي قام بزيارة المدن الإسلامية المقدسة، ولكنه لم يكتب بنفسه شيئًا عن ذلك.
وفي عام 1660م نرى "لويس دارفيو" يزور شمال بلاد العرب، ويكتب وصفًا للبدو، إلا أنه كان بعيدًا عن المنهج العلمي في وصفه، فضلا عما فيه من مطاعن على العرب، وتمجيد للرواية الإسرائيلية عن إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، وعن والدتيهما الكريمتين -سارة وهاجر- بجانب الترجمة غير الصحيحة، أو على الأقل غير الدقيقة، لنصوص التوراة، فيما يتصل بإسماعيل بالذات.
وفي عام 1807م، وصل إلى "جدة" الرحالة الأسباني "باديابي لبلخ" تحت اسم "علي بك العباسي" مدعيًّا أنه ليس مسلمًا فحسب، وإنما آخر أمير من نسل الخلفاء العباسيين، ومن عجب أن الأوربيين أنفسهم في حيرة من أمرهم، بشأن "علي بك" هذا، فهو جاسوس لنابليون على رأي، وهو أحد موظفي إمارة البحر الفرنسية على رأي آخر، إلا أن هناك اتفاقًا على أنه كان عالمًا، وأنه قد زود بآلات قياس دقيقة للغاية، وأنه قد نجح إلى حد كبير في تعيين المواقع المختلفة التي مر بها على سواحل البحر الأحمر، مثل ينبع وجدة وغيرهما، وبصورة تقريبية موقع المدينة المنورة التي لم يقدر له أن يشرف بزيارتها، وبصفة دقيقة لموقع مكة المكرمة على خريطة العالم، وهكذا أمكن -ولأول مرة- تحديد الموقع العرضي لأحد الأماكن في داخل بلاد العرب بالنسبة إلى خط الاستواء، هذا إلى جانب وصف دقيق للكعبة المشرفة ولكل ما كان يجري في موسم الحج.
والذي يقرأ وصف الرجل للأماكن المقدسة، كما جاء في كتاب جاكلين بيرين، يدرك أن الرجل كان مسلمًا عن يقين -كما كان يعلن هو دائمًا- رغم ما أثير حول إسلامه من شبهات.
والرأي عندي، أن من يعيش الظروف التي عاشها "علي بك العباسي" ويزور الأماكن الطاهرة التي زارها، وينال شرف رؤية الكعبة -أقدس مقدسات المسلمين- من داخلها، ويسهم في تنظيف البيت الحرام، إن من يسبغ الله عليه كل هذه النعم، ليس ببعيد أن يهديه الله سواء السبيل ويفتح قلبه للإسلام، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}  وعلى أي حال، فإني لا أثبت هنا إسلام "علي بك العباسي"، ولا أنفيه، فليست لدي الأدلة على هذا أو ذاك، والله وحده يعلم الغيب من الأمر، ولكن بعد أن مَنَّ اللهُ عليَّ بفضله، وعشت فترة من عمري بين رحاب هذه المقدسات الشريفة، لا أستبعد أن الله جل وعلا، قد فتح قلب الرجل للإسلام، بصرف النظر عن المهمة التي جاء من أجلها، والله يهدي من يشاء.
وجاء بعد ذلك الرحالة السويسري، "جوهان ليدونج بوركهارت" الذي وصل إلى سورية في مارس 1809م، ليقوم بزيارة المناطق المتاخمة لشبه الجزيرة العربية، وليجمع المعلومات عن البدو، وهناك بذل جهدا كبيرًا في دراسة القرآن الكريم وتفسيره -بعد أن كان قد درس اللغة العربية في إنجلترا- حتى عرف باسم الشيخ إبراهيم، العالم العظيم في شئون الإسلام.
وهكذا تمكن "بوركهارت" من القيام برحلته إلى الحجاز تحت اسم "الشيخ إبراهيم بن عبد الله"، فزار الحرمين الشريفين، وقدم وصفًا دقيقًا لموسم الحج، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علمية، وفي عام 1812م، اكتشف مدينة "البتراء"، ثم أصدر عدة كتب عن رحلاته في سورية وفلسطين وشمال بلاد العرب، وأخيرًا توفي في 15 أكتوبر 1817م، ودفن بسفح جبل المقطم في القاهرة.
وفي عام 1815م، زار "نجد" المستشرق "جورج أوغسطس فالين" للقيام ببعض الدراسات اللغوية، وهناك رواية مشكوك فيها تذهب إلى أن "محمد علي باشا" والي مصر، قد أرسله إلى هناك بعد أن فشلت جهوده في توطيد نفوذه في الشام، وذلك للقيام بمهام سياسية في جبل "شمر".
وفي عام 1853م، زار "سير ريتشارد برتون" الحرمين الشريفين، متنكرًا في زي مسلم يسمى "الحاج عبد الله" ثم كتب وصفًا لرحلته هذه.
وفي يولية 1862م، قام "وليم بلجريف" برحلته إلى العربية الوسطى، ونشر في عام 1865م كتابًا عن رحلته هذه، سرعان ما ترجم إلى الفرنسية ثم الألمانية بعد ذلك، كواحد من أحسن الكتب عن بلاد العرب، ويزعم "بلجريف" أنه وصل إلى مناطق في قلب بلاد العرب، ولم يصلها أحد قبله، وأما رفيقه في رحلته هذه فقد كان لبنانيا يدعى "بركات"، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريرك الروم الكاثوليك تحت اسم "بطرس الجريجيري".
وتوغلت "الليدي آن بلنت" عام 1789م في شمال بلاد العرب، حتى "نجد" وكانت مولعة بدراسة الخيول العربية، إلا أن "هوبر" و"أويتنج" يعدّان من الذين غامروا بحياتهم، وقاموا برحلات شاقة، فيما بين عامي 1876، 1884، وقد بلغا "حايل" في شمالي بلاد العرب، وحصلا على كثير من النقوش العربية الشمالية.
وهناك "سنوك هورجونيه" الهولندي، الذي زار الحجاز، فيما بين عامي 1885، 1886م، وقدم لنا دراسة عن الأحوال في مكة، ووصف للحياة في الحجاز، وفي موسم الحج بصفة خاصة.
وهناك كذلك الرحالة الإنجليزي "تشارلسن دوتي"، وقد كان هذا الرجل من أشد المتعصبين ضد الإسلام، وأكثرهم تطاولا على المسلمين، بل إنه في تطاوله إنما يحاول أحيانًا أن يتجاوز كل حدود الأدب، وأن يمس المثل الأعلى للإنسانية جمعاء، سيدنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وإن لم يستطع في كل الأحوال، إلا أن يعترف بأن المصطفى المختار- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- إنما كان دائمًا وأبدًا، المثل الأعلى، والأسوة الحسنة لكل المسلمين وغير المسلمين، في كل زمان ومكان.
وفي عام 1889م، يقوم "تيودور بنت" وزوجته، برحلة إلى البحرين ومسقط وعمان في جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث زارا كثيرًا من المناطق الأثرية، وكتبا عنها كتابهما المعروف.
وأشرف القرن العشرون، وبدأت الأبحاث العلمية تزداد، وأصبح بين أيدينا مؤلفات مهمة، لعل من أروعها ما كتبه "ألويس موسل"، الذي زار العربية الحجرية، وكتب عدة مؤلفات في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر ونجد، ثم هناك كذلك ما كتبه "جوسين وسافينياك" في مؤلفهما الشهير عن آثار الحجاز، وبخاصة مدائن صالح والعلا، أما كتاب "لورنس" "أعمدة الحكمة السبعة"، فقد نال مكانة عالية بين مؤلفات الأدب الحديث بعد الحرب العالمية الأولى.
وكان أكثر الرحالة نشاطًا في نجد وأواسط بلاد العرب "هاري سان جون بريدجر فلبي" والذي سمى نفسه "الحاج عبد الله" وقد أتيح له ما لم يتح لغيره من الأوربيين، إذ كان من المقربين إلى جلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، ومن ثم فقد قام برحلات كثيرة، وكتب عدة كتب، وكانت آخر رحلاته تلك التي قام بها في صحبة العالم البلجيكي "ج. ريكمانز" في شتاء 1951-1952م، وكانت في المثلث الواقع بين جدة ونجران والرياض، وعاد ومعه 1200 نقش، منها تسعة آلاف نقش ثمودي، وبقيتها نقوش لحيانية وسبئية، بعد أن زارت البعثة كل ما وجدته من بقايا المدنيات القديمة، في المنطقة الواقعة داخل المملكة العربية السعودية
وفي عام 1962م، قامت بعثة أمريكية بزيارة مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية، فزارت سكاكا والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورًا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها ما وجدته في قمة جبل غنيم، على مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من تيماء، وتعد من أقدم ما عثر عليه في العربية الشمالية.
وليس من شك في أن تاريخ البحث العلمي في تاريخ العرب القديم يدين بالكثير لنفر من المستشرقين قدموا له أبحاثًا جادة في مختلف الميادين، من أمثال "كوسان ده برسيفال"، والذي يعتبر من الرواد في التأريخ لبلاد العرب قبل الإسلام، وكذا "تيودور نولدكه"، و"ج. روتشتاين"، و"رينيه ديسو" و"جاك ريكمانز" "كيتاني" و"أوليري" و"أوتووبير" و"فلهاوزن" و"ج ريكمانز" و"الكسندر كندي" و"أدولف جرومان" و"فريتز هومل" و"رودوكناكيس" و"ديتلف نلسن" و"تشارلس فورستر" و"ألفردونيت" و"بيستون"، و"ألبرت جام" و"كاسكل" و"فون فيسمان وماريا هوفتر" و"لودلف كريل" و"كوك"وهوجوفنكلر ورايت وسبرنجر وليتمان ووليم أولبرايت وغيرهم ممن قاموا ببحوث قيمة، ولا يزالون يبحثون في التاريخ العربي القديم.
أما العلماء العرب المحدثون -من أمثال جرجي زيدان وسليمان حزين ويحيى نامي وأحمد فخري ومحمد مبروك نافع ومحمد توفيق وعبد العزيز سالم وسعد زغلول، وجواد علي وصالح العلي ومنذر البكر، وحمد الجاسر وعبد الرحمن الأنصاري وعبد القدوس الأنصاري وعبد الله مصري، وأحمد حسين شرف الدين ومظهر الإرياني وغيرهم من علمائنا الأفاضل- فليس من شك في أنهم قد ساهموا في هذا الميدان بقسط وافر وجهد ممتاز، يستحقون عليه كل تقدير واحترام

ثالثًا: في شرق شبه الجزيرة العربية
مدخل
في أخريات عام 1953م، أرسل متحف آثار عصور ما قبل التاريخ في أرهوس بالدنيمارك، بعثة علمية إلى البحرين، برياسة "ب. ف. جلوب وجفري"، كشفت أطلال معبد "باربار"، والتلام الممتدة على مساحات واسعة، ثم امتد نشاطها إلى قطر، حيث كشفت عن مواقع أثرية، وآثار أخرى، تمثل حضارات العصر الحجري، وسرعان ما امتد نشاطها إلى الكويت، حيث عثرت على آلات حجرية، تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، وخاصة العصر الحجري القديم، فضلا عن معابد جزيرة "فيلكا"، وأخيرًا اتسع نطاق ميدان البعثة إلى شرق الجزيرة وإمارات الساحل العربي، ولعلنا نستطيع أن نلخص نتائج هذه البعثة كالآتي:
1- البحرين:
لعل أهم اكتشافات البعثة الدنماركية إنما كان الكشف عن أطلال معبد "باربار"، وتلال جنزية عديدة تعود إلى العصر البرونزي، هذا فضلا عن أوان فخارية في تل رأس القلعة، وهي المنطقة التي حوت أقدم محلة سكنية، ترجع إلى الألف السادس قبل الميلاد، وظلت مأهولة حتى العصر المسيحي، هذا وقد كشفت البعثة عن ست مدن حول القلعة، تؤرخ الأولى بحوالي عام 2800ق. م، وهي مبنية بمحاذاة البحر، وبيوتها صغيرة، وتبدو غير مسورة، وربما كان الملك الأكدي "سرجون الأول" قد قام بغزوها حوالي عام "2300ق. م".
وأما المدينة الثانية، فتؤرخ بحوالي عام 2300ق. م، ويعتبر سكانها بناة الآلاف من المقابر الواقعة في وسط جزيرة البحرين وكذا معبد باربار، وقد عثر فيها على الأختام المسماة تقليديًّا "الأختام الدلمونية"، والأوزان الهندية التي ظهرت في نفس الوقت في بلاد ما بين النهرين ومدن وادي السند
2- قطر:
تعتبر من أهم مناطق الخليج العربي، حيث تتمثل فيها أقدم الحضارات الإنسانية التي تم الكشف عنها في المنطقة حتى الآن، ولقد اهتم الباحثون الأجانب بمنطقة قطر، فقامت بعثة دنماركية للبحث عن آثارها، وتم تحديد حوالي 200 موقع أثري، تنتمي إلى مرحلة عصور ما قبل التاريخ، منها حوالي 131 موقعًا تعود إلى العصر الحجري، هذا وليس في قطر مخلفات أثرية تنتمي إلى حضارة باربار في البحرين، كما أن آثار قطر لا تتشابه مع آثار البحرين.
وعلى أية حال، فلقد عثر عند الساحل الغربي قرب "رأس عوينات علي" على شظايا مصقولة تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن أعداد من الأحجار قرب الطرف الجنوبي من جبل الجساسية وقرب عقلة المناصير والحملة وقرب الساحل الشرقي في الوصيل -على مبعدة 25 كيلو مترًا شمالي الدوحة.
هذا ويميل "كابل" إلى أن المخلفات الأثرية في قطر، والتي تتمثل في الصناعات الحجرية، إنما يمكن تقسيمها إلى مجموعات مستقلة ومختلفة عن بعضها تمامًا، وذلك اعتمادًا على الاختلافات المظهرية وطريقة الصناعة الفنية، هذا فضلا عن العثور على طبقة يمكن تصنيفها طبقيًّا، ومن ثم يمكن تحديد التتابع الزمني لهذه الآثار.
على أن البعثة الدنمركية إنما قد حصلت على أدوات وشظايا صوانية عديدة وآثار احتراق، ثم جمعت عينات من الآثار المحترقة، وقد ثبتت بالفحص العلمي، بطريقة الكربون 14، بأن تاريخ هذه العينات إنما يرجع إلى حوالي عام "5020-130ق. م".
هذا وقد قسمت البعثة الدنمركية المواقع التي تنتمي إلى العصر الحجري -وعددها 68 موقعًا- إلى أربع مجموعات حضارية وذلك وفقًا للتطور المادي المتمثل في التقدم من التقنية البدائية إلى الأحجار الظرانية، إلى تقنية متطورة تتمثل في الرقائق الحجرية الممتازة مثل الفئوس والمعاول ورءوس السهام الكبيرة، غير أنه لا يمكن القول أن هذا التقدم المتدرج قد حدث نتيجة الانتقال من حضارة إلى حضارة أرقى، أو نتيجة لتعاقب مجتمعات إنسانية مختلفة أو قبائل مهاجرة استقرت لفترات طويلة أو قصيرة
3- دولة الإمارات العربية:
قامت البعثة الدنماركية بالتنقيب في بعض المواقع الأثرية التي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ في دولة الإمارات العربية، وتعتبر جزيرة "أم النار" في "أبو ظبي" من أهم المواقع التي تضم العديد من المدافن الغنية بأثاثها الجنزي المتضمن للأواني الفخارية والحجرية والأسلحة وأدوات الزينة، هذا وقد تم الكشف في أم النار عن تل يضم أربعة أطوار من الاستقرار
4- دولة الكويت:
إنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في أوائل عام 1972م، تولى أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري، رياسة بعثة علمية كويتية، تمكنت من الكشف عن عديد من المواقع الأثرية المنتمية إلى العصر الحجري القديم، مثل مواقع الصليبخات ووارة والبرقان وجليعة العبيد وكاظمية وجزيرة أم النمل وجزيرة عكاز، فضلا عن التعرف على مواقع جديدة في جزيرة فيلك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق