الخميس، 27 أغسطس 2015

جغرافية شبه الجزيرة العربية

جغرافية شبه الجزيرة العربية

1- موقع بلاد العرب:
تقع شبه الجزيرة العربية بين خطي عرض 12 َ، 32 درجة شمالا، 30 َ، 12 جنوبًا، أي أنها تمتد عشرين درجة من درجات العرض كما أنها تمتد بين خطي الطول 40 َ، 34، 40 َ، 58 شرقًا، وبذا يصبح امتدادها من الغرب إلى الشرق، أربعًا وعشرين درجة، وهي بهذا تأخذ شكلا مستطيلا، وتبلغ مساحتها أكثر من مليون ميل مربع بقليل، ومن ثم فهي أكبر شبه جزيرة في العالم، أما أبعاد شبه الجزيرة، فيبلغ طول ساحلها الغربي من رأس خليج العقبة حتى خليج عدن 1400 ميل، ويبلغ طول ساحلها الشرقي من رأس الخليج العربي شمالا، حتى رأس الحد جنوبًا "أقصى اتساع لخليج عمان" 1500 ميل، ويبلغ امتدادها من بحر العرب جنوبًا إلى الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية 1600 ميل، أما عرضها في أضيق نطاق بين البحر الأحمر والخليج العربي فهو 750 ميلا، وأما بين خليج عمان والبحر الأحمر، فيصل الاتساع إلى 1200 ميل.
وتقع شبه الجزيرة العربية بين بادية الشام شمالا، والخليج العربي وبحر عمان شرقًا، والمحيط الهندي جنوبًا، والبحر الأحمر غربًا، وهكذا يبدو واضحًا أن المياه تحيط بها من أطرافها الثلاثة فقط، ومن ثم أخطأ مؤرخو العرب وجغرافيوهم حين أطلقوا عليها اسم "جزيرة العرب" وربما كان ذلك لأن مياه البحار تحيط بها من ثلاث جهات، ثم يعقد لها نهر الفرات والعاصي عند اقترابهما في أعالي الشام حدًّا من الماء، ومن ثم كان التعليل "إحاطة البحار والأنهار بها من أقطارها وأطرارها "أو أطرافها" فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات القافل من بلاد الروم قد ظهر بناحية "قنسرين"، ثم انحطَّ على الجزيرة وسواد العراق، حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة وامتد إلى "عبادان"، أو "لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها".
على أن شبه جزيرة العرب ليست وحدها هي مسكن العرب، فقد كانت لهم مساكن فيما حولها، إلا أنها مساكن أكثرهم، وأهم مساكنهم، ومن ثم فقد أضيفت إليهم، وذلك لأن العرب قد سكنوا في العراق من ضفة الفرات الغربية، حتى بلغوا أطراف الشام، كما سكنوا في فلسطين وسيناء إلى ضفاف النيل الشرقية حتى أعلى الصعيد، وهي أرضون يرى الكتاب القدامى -من يونان ولاتين وعبريين وسريان- أنها من مساكن العرب، ومن ثم فقد دعوها "بالعربية" و"بلاد العرب" لأن أغلب سكانها إنما كانوا عربًا، وأما بلاد العرب في التوراة فهي موطن "الإسماعيليين و"القطوريين"، وهي بواد تقع في شمال بلاد العرب، وفي الأقسام الشمالية منها.
2- التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب
يقسم اليونان واللاتين شبه الجزيرة العربية إلى أقسام ثلاثة:
أ- العربية الصحراوية: Arabia Deserta
ويعنون بها بادية الشام في أغلب الأمر، وبادية السماوة في بعض الأحايين،بل إن "ديودور الصقلي" إنما يذهب إلى أنها المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وأن سكانها من الآراميين والنبط، وأنها تقع بين سورية ومصر، كما أنها مقسمة بين شعوب ذات مزايا وصفات متباينة، وإن كان يبدو أن الرجل لم يكن لديه خط واضح يفصل بين العربية الصحراوية والصخرية، كما عند الجغرافيين الرومان، وأما "إيراتو سثينيس"- وربما سترابو كذلك- فقد أطال حدود العربية الصحراوية من الشمال الغربي وجعلها حتى "هيرابوليس" في نهاية خليج السويس، وإن وضع الحد الجنوبي لها عند بابل.
ونقرأ في النصوص الآشورية من عهد "شلمنصر الثالث" "859-824ق. م" أن من بين أعدائه في موقعة "قرقر" عام 853ق. م، مجموعة عربية، ولعلهم يكونون مشيخة أو إمارة، على رأسها "جندب"، وجدت هناك منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وكانت مصدر قلق للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وأنها كانت تنتقل في هذه البادية بحرية، لا تعترف بحدود أو فواصل، وإنما كانت تقيم بحيث الماء والكلأ والمكان الذي يتلاءم وطباعها.
ب- العربية الصخرية: Arabia Peteaee
وكان مركزها سيناء وبلاد الأنباط، وعاصمتها البتراء، وأنها سميت كذلك، إما نسبة إلى عاصمتها، أو إلى طبيعة المنطقة الصخرية، ويرى بعض الباحثين أنها إضافة من بطليموس الجغرافي، وقد قصد بها شبه جزيرة سيناء، وما يتصل بها من فلسطين والأردن، ويرى "ديودور" أنها تقع إلى الشرق من مصر، وإلى الجنوب والجنوب الغربي من البحر الميت، وفي شمال العربية السعيدة وغربها، وأن الأنباط كانوا يقيمون في المنطقة الجبلية منها، فضلا عن المرتفعات المتصلة بها في شرق البحر الميت ووادي عربة، وفي جنوب اليهودية، وحتى خليج العقبة، وأما الأقسام الباقية فقد سكنتها قبائل عربية، دعاها الكتاب اليونان والرومان "سبئية"، الأمر الذي تكرر كثيرًا في كتاباتهم عن القبائل التي كانوا لا يعرفون أسماءها، والتي كانت تقطن فيما وراء نفوذ الأنباط والرومان، ولعلهم يعنون بذلك أنها قبائل جنوبية في غالب الأمر.
ج- العربية السعيدة: Arabia Feiix
وهي أكثر الأقسام الثلاثة اتساعا، وتشتمل على كل المناطق التي دعاها الكتاب العرب -من مؤرخين وجغرافيين- "بلاد العرب"، كما أن حدودها الشمالية لم تكن ثابتة، وإنما كانت تتغير طبقًا للظروف السياسية، التي تقع إلى الشمال منها، ويتجه البعض إلى أن جهل القدماء بداخل بلاد العرب، هو الذي دعاهم إلى احتساب هذا الجزء من بلاد العرب السعيدة أو الخضراء، مع أنه في الواقع يعتبر من بلاد العرب الصحراوية، وأما الجزء الذي يمكن أن يطلق عليه "بلاد العرب السعيدة"، فهو الجزء الجنوبي الغربي، حيث تقع بلاد اليمن، لغنى محاصيلها وتنوعها، ولاعتدال مناخها، على النقيض من المناطق المستعرة الحر وراءها، وقد أدت هذه الظروف منذ الألف الأول قبل الميلاد، إلى قيام مجتمعات سياسية مستقرة في تلك المنطقة، امتد أثرها إلى الساحل الأثيوبي المقابل في صورة تجارة واسعة، وموجات من المهاجرين المستوطنين.
وعلى أية حال، فإن الجغرافيين اليونان لم يفرقوا بين بلاد العرب الصحراوية والصخرية، حيث يكون الفاصل بينهما صعبًا جدًّا بالنسبة إليهم، فاعتبار اليونان القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية منطقة واحدة يمكن ملاحظته في تعليق "إريان"على سفرتي رسل قمبيز وبطليموس الأول عبر صحراء جرداء، وكذلك اعتبر "إيراتوسثينيس" -كما أشرنا آنفًا- الخط الفاصل بين بلاد العرب السعيدة والصحراوية هو الذي يبدأ من "هيرابوليس" إلى بابل مارًّا بالبتراء، علمًا بأن الجغرافيين اليونانيين- وحتى الرومان من بعدهم- لم يضعوا صحراء النفود الكبرى ضمن بلاد العرب الصحراوية، وإنما جعلوها جزءًا من العربية السعيدة.
أضف إلى ذلك أننا لم نقرأ في كتاباتهم شيئًا عن المدن الهامة كتيماء ودومة الجندل، فضلا عن وادي السرحان الذي ذكره الجغرافيون وبعض المؤرخين التالين لهم تحت اسم "سيرميون- بيديون" "Syrmaion Pedion"، مما يدل على أنهم لم يذهبوا إلى هذه المناطق، وإنما اعتمدوا في الكتابة عنها على معلومات شفهية متداولة، وإن كان هذا لا يعني أن التغلغل اليوناني في المناطق الشمالية من بلاد العرب كان معدومًا، فهناك معالم كثيرة يغلب عليها الطراز اليوناني في العمارة، إلى جانب كثرة ما وجد من النقود اليونانية.
3- التقسيم العربى:
وأما الكتاب العرب، فقد قسموا شبه الجزيرة العربية إلى خمسة أقسام، هي:
اليمن وتهامة والحجاز ونجد واليمامة "وتسمى أيضًا العروض"، وكان أساس تقسيمهم "جبل السراة" -أعظم جبال بلاد العرب- وهو سلسلة جبال تبدأ من اليمن، وتمتد شمالا حتى أطراف بادية الشام، على مدى 1100 ميل تقريبًا، ويطلق عليها عدة أسماء، فهي جبال السراة "السراة هي الأرض المرتفعة"، وهي جبال السروات "جمع سراة" وهي جبال الحجاز، كما كانت تسمى باسم الإقليم الذي هي فيه، فيقال جبال الحجاز في الحجاز، وجبال عسير في إقليم عسير.
وقد أضاف بعض الكتاب قسمًا سادسًا هو البحرين- والذي يسمى كذلك "هجر"- وهو في نظر البعض جزء من اليمامة، وفي نظر آخرين جزء من العراق، وأخيرًا فهناك من يقسم بلاد العرب إلى قسمين اثنين، الواحد: اليمن والحجاز، والآخر: تهامة ونجد واليمامة.
أ- اليمن:
وتمتد على طول المحيط الهندي، ويحدها البحر الأحمر من الغرب، والحجاز من الشمال، وفيها التهائم والنجد، وهي في عرف بعض الباحثين، إنما تقع من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان، إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود، وتخترق "السراة" اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها الأمطار، وتمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواسطها، وتقع بين مأرب وحضرموت.
واليمن -في رأي القلقشندي- قطعة من جزيرة العرب، يحدها من الغرب بحر القلزم، ومن الجنوب بحر الهند، ومن الشرق بحر فارس، ومن الشمال حدود مكة، حيث الموضع المعروف بطلحة الملك، وما على سمت ذلك إلى بحر فارس، وهكذا كان اليمن لا يقتصر على الجنوب الغربي لشبه جزيرة العرب فحسب، ولكنه يشمل كل دويلات جنوب شبه الجزيرة العربية، كسبأ وأوسان وحضرموت وعمان وغيرها.
وأما سبب تسميتها باليمن، فذلك أمر ما يزال موضع خلاف، فهناك من يذهب إلى أن ذلك إنما كان نسبة إلى أول من قطنها من العرب، الذي قال له والده قحطان أنت أيمن ولدي، أو لأنها تقع إلى يمين الكعبة، بينما يتجه فريق ثالث إلى أن السبب إنما كان في طبيعة البلاد نفسها، فهي بلاد اليمن والخير والبركة، على أن رأيًا رابعًا يذهب إلى أنها سميت بذلك لتيامن العرب إليها، أو لأن الناس قد كثروا بمكة فلم تحملهم فالتأمت بنو يمن إلى اليمن، وهي أيمن الأرض فسميت بذلك، وأخيرًا فهناك من يرجح أنها سميت اليمن من كلمة "يمنات" الواردة في نص يرجع إلى أيام الملك "شمر يهرعش" غير أن كل تلك الآراء لم تقل شيئًا عن الاسم الذي كان يطلق عليها قبل أن تسمى باليمن.
وتشتهر بلاد اليمن بغنى محاصيلها وتنوعها، واعتدال مناخها، حتى لقد سميت -كما يقول الهمداني- باليمن الخضراء، لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها، على أن فريقًا من المستشرقين إنما يرى أن ما نسب إلى اليمن من غنى وخصب مبالغ فيه، وأن معظم الحاصلات التي كان يظن أن بلاد اليمن مصدرها، إنما كان يستجلبها العرب -والمصريون الذين كانوا يحتكرون التجارة في البحر الأحمر- من جزائر الهند وسواحل أفريقية الشرقية، وأنهم كانوا يخفون هذا عن جيرانهم، حتى لا يزاحموهم في الحصول عليها من هذه الأنحاء، إلا أن هناك حقيقة واضحة، هي أنها كانت بسبب الجبال التي تقع في داخلها عرضة للرياح الموسمية، فتسقط الأمطار التي تجعل أرض اليمن تجود بالبن أهم حاصلاتها، وبالفاكهة والقمح والأعناب والتوابل.
ب-  تهامة:
ورد اسم تهامة في النصوص العربية الجنوبية "تهمت" "تهمتم"، وقد حاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين هذه اللفظة وكلمة "Tiamtu" البابلية، ومعناها البحر، وكلمة "تيهوم" "Tehom" العبرية، بينما يتجه "جواد علي" إلى أن الكلمة إنما ترجع إلى أصل ساميٍّ قديم، له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، ومن ثم فهي شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف، ومن هنا سميت "تهامة" من التهم، وهو شدة الحر وركود الريح، إلا أن هناك من يرى أن السبب إنما هو تغير هوائها، كما أن هناك من يرى أن التهمة هي الأرض المتصوبة نحو البحر، ولعل انخفاض أرض تهامة كان هو السبب في أن يسمى "بالغور" و"بالسافلة"، وعلى أي حال، فهي تتكون من المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر من اليمن جنوبًا إلى العقبة شمالا.
وهي تتألف من تهائم، فهناك تهامة اليمن، وتهامة عسير، وتهامة الحجاز، وفي الواقع أن التهائم ليست هي المنطقة الساحلية السهلة فحسب، ولكنها تشتمل كذلك على أكثر المناطق الواقعة إلى المنحدر الغربي لسفوح جبال الحجاز، وتختلف في عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من البحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلا في بعض الأماكن، وقد تضيق في أماكن أخرى إلى أن تصبح الهضاب القريبة من الساحل متصلة بالشاطئ رأسًا، هذا إلى أن أكثر هذه المنطقة الساحلية رملي شديد الحرارة، قليل الإنبات، كما أن جميع المدن الساحلية إنما تقع في هذه المنطقة5.
ج- الحجاز:
وهو منطقة جبلية تقع غرب تهامة، وتحاذيها من الشمال إلى الجنوب، وتمتد رقعته -في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين- من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"، وهو واد بأسفل السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ أرض تهامة، أو هو من تخوم صنعاء من العبلاء وتبالة إلى تخوم الشام، وقد ذهب البعض إلى أن تبوك وفلسطين، إنما هما من أرض الحجاز، بينما سمي القسم الشمالي من الحجاز بأرض مدين وحسمي، نسبة إلى جبال "حسمي" التي تتجه من الشمال إلى الجنوب، والتي تتخللها أودية محصورة بين التيه وإيله، وبين أرض "بني عذرة" من ظهر حرة "نهيل"، وكانت تسكنها في العصر الجاهلي قبائل "جذام"، وعرب الحويطات في أيامنا هذه والذين يرى بعض الباحثين فيهم بقايا الأنباط.
وأما سبب تسميته حجازًا، فلأنه يحجز بين ساحل البحر الأحمر، وهو هابط مستواه، وبين النجاد الشرقية المرتفعة بالنسبة إلى الساحل الغربي، أو لأنه احتجز بالجبال، أو لأنه يحجز بين الغور والشام، أو لأنه يحجز بين تهامة ونجد، وما سال من "ذات عرق" مقبلا فهو نجد إلى أن يقطعه العراق، أو لأنه يحجز بين الشام واليمن والتهائم، أو بين تهامة والعروض، وفيما بين اليمن ونجد
 د- نجد:
وهي في الكتب العربية اسم للأرض العريقة التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها العراق والشام، وحدها "ذات عرق" في الحجاز، وما ارتفع عن بطن الرمة فهو نجد إلى أطراف العراق وبادية السماوة -وهي ما بين جرش وسواد العراق- وليست في الكتب العربية حدود واضحة دقيقة لنجد، فهم يقولون "إذا خرجت من المدينة فأنت منجد إلى أن تتصوب في مدارج العرج -وهو واد بين مكة والمدينة- فإذا تصوبت فيها فقد أتهمت إلى مكة"، ويقولون "إذا خلفت عمان مصعدًا فقد أنجدت، فلا تزال منجدًا حتى تنزل في ثنايا ذات عرق فإذا فعلت ذلك فقد أتهمت إلى البحر"، وعلى أي حال، فإن "نجدًا" بصفة عامة إنما هي الهضبة التي تكون قلب شبه الجزيرة العربية، وهي ليست قاحلة- كما يتصورها معظم الناس- وإنما نثرت فيها أراض صالحة للزراعة، بل هي دون شك أصح بلاد العرب، وأجودها هواء، ومن ثم فقد ترنم الشعراء برباها ورياضها.
وتتألف نجد من الوجهة الطبيعية من مناطق ثلاثة: منطقة وادي الرمة، فالمنطقة الوسطى، ثم المنطقة الجنوبية، أما علماء العرب فقد قسموا نجدًا إلى عالية وسافلة، أما نجد العالية: فما ولي الحجاز وتهامة، وأما السافلة فما ولي العراق، وكانت نجد حتى القرن السادس الميلادي ذات أشجار وغابات ولا سيما في "الشربة" جنوب وادي الرمة وفي "وجرة".
هـ- العروض:
وتشمل اليمامة والبحرين وما والاهما، وسميت عروضًا لأنها تعترض بين اليمن ونجد والعراق.
أما اليمامة فقد سميت كذلك نسبة إلى اليمامة أشهر بلادها، والتي كانت تعرف من قبل "جو والقرية"، وإن هذا التغيير في الاسم، إنما تم -طبقًا لرواية الأخباريين- بعد القضاء على "طسم" التي كانت تسكن الخضراء، و"جديس" التي كانت تسكن الخضرمة -الأمر الذي سنناقشه بالتفصيل في مكانه من هذه الدارسة.
هذا وقد عثر "جون فلبي"، وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية، و"ألبرت جام" وبعثة جامعة الرياض، على كتابات ونقوش في موضع "قرية الفاو" -على مبعدة 120 كيلو مترًا من نجران- مكتوبة باللهجات العربية الجنوبية، وترجع إلى ما قبل الميلاد، كما عثروا على مقابر وعلى أدوات فخارية، ظهر من فحصها أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
وإنه لمن الأهمية الإشارة إلى أن "برترام توماس" إنما يذهب إلى أن آبار "العويفرة" القريبة من "القرية" إنما هي موضع "أوفير"، التي أرسل إليها سليمان ملك اليهود، و"حيرام" ملك صور، بأساطيلهما لإحضار الذهب والأخشاب النفيسة وكل ما هو نادر وغريب، وأن الاسم العربي القديم إنما هو "عفرة" وقد تحرف بالنقل إلى العبرانية واليونانية فصار "Ophir"، وهذا الموضع قريب من مناجم الذهب.
ويبدو أن هناك عدة عوامل أثرت في اليمامة وفي أواسط شبه الجزيرة العربية،فحولت أرضها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب العربية، أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومزارع.
وأما البحرين، أو "هجر"، فهي منطقة تمتد من البصرة شمالا إلى عمان جنوبًا، وتتكون من: قطر، والتي تمتد من عمان إلى حدود الإحساء، ثم الإحساء، وكانت تسمى قديمًا "هجر والبحرين" "والتي سميت بالبحرين من أجل نهرها محلم ولنهر عين الجريب" وأما أغنى مناطق الإحساء فهي منطقة الإحساء والقطيف حيث تكثر الآبار والعيون.
وهناك على مقربة من القير -وهي ميناء صغير يقع قريبًا من القطيف- توجد خرائب "جرها" "الجرعاء" المدينة التجارية القديمة، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب إلى العراق وإلى البتراء، وإن كان "جرانت" يذهب إلى أن الجزء الأوسط من هذا الطريق -والذي يمر في صحراء النفود- يصل حدًّا يستحيل معه المرور، ويؤيد "ألويس موسل" هذا الاتجاه مضيفًا إليه بأن تركيبات "اللافا" للتربة مسؤولة عن هذه الصعوبة.
وأما القسم الشمالي من هذه المنطقة فهو "الكويت"، ومعظم أرضه منبسطة، وأكثر سواحله رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة، وأكثر ما يزرع هناك النخيل، وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد يقال له "المقطع" وأشهر مدنه الكويت وجهرة، وهي من أخصب بقاع الكويت حاليًّا، كما أنها كانت مأهولة بالسكان منذ عصر ما قبل الإسلام.
مظاهر السطح:
مدخل
تتكون أغلب الأرض في بلاد العرب من بواد وسهول تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية، ولكن قسمًا كبيرًا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة، والأرض الصالحة للزراعة تزرع فعلا لوجود المياه فيها، أما الأرضون التي تعد اليوم من المجموعة الصحراوية، فهي:
1- الحرار:
الحرة -كما في معجم ياقوت- أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أُحْرِقَت بالنار، وهذه الحرات إنما هي مقذوفات بركانية تبتدئ من شرق حوران، وتمتد منتثرة إلى المدينة المنورة -التي هي نفسها تقع بين حرتين "واقم والوبرة" وهي كثيرة في بلاد العرب عدة منها بعض الكتاب نحوًا من تسع وعشرين حرة، وأشهرها حرة واقم، والتي تنسب إليها وقعة الحرة "63/ 683" على أيام يزيد بن معاوية، حيث قتل الأمويون أكثر من عشرة آلاف من أهل المدينة، وارتكبوا ضد أهلها الكثير من الفظائع، وفعلوا بها -كما فعلوا بمكة من بعد- ما لا يتفق مع خلق أو دين، فضلا عن انتهاك حرمة مدينة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم.
والحرة عادة مستطيلة الشكل، فإذا كان فيها شيء مستطيل غير واسع، فذلك الكراع واللابة "اللافا" وهي صخور بركانية، وتكثر الحرات في الأقسام الغربية من شبه جزيرة العرب، وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام بمنطقة حوران -ولا سيما في الصفاة- وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه نحو الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، حيث نلاحظ الحجارة البركانية، على مقربة من باب المندب وعند عدن، وقد ذكر العرب أسماء عدة منها -كما أشرنا آنفًا- وأضاف إليها السياح عدد آخر، عثروا عليه في مناطق ثانية.
ولعل أهم هذه الحرات: حرة العويرض، وتقع غرب درب الحاج الممتد من تبوك إلى العلا، ويبلغ طولها أكثر من مائة ميل، بعرض يكاد يقرب من ذلك، ومتوسط ارتفاعها عن سطح البحر حوالي خمسة آلاف قدم، كما أن أعلى مواقعها جبل عنازة الذي يزيد ارتفاعها على 7000 قدم فوق سطح البحر، وهناك كذلك حرة الحذرية وحرة واقم وحرة ليلى شوران وحرة النار قرب خيبر، وجميع هذه الحرار في الحجاز قرب المدينة المنورة.
وفي أرض اليمن عدد كبير من الحرار، منها حرة "أرحب" شمالي صنعاء، ولها "لابة" "لافا" يستخرج الناس منها حجارة سوداء لبناء البيوت، كما أن هناك كثيرًا من الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"- بين صنعاء ومأرب- ولعل كثرة الحرار بجوار المدن القديمة هو الذي دفع البعض إلى تفسير هلاك بعض المدن -كخراب مأرب وحقه وشبوه- على أنه من هياج البراكين.
ولعل أشهر حرار اليمن "حرة ضروان" وقد بلغ من شهرة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، أن القوم كانوا يتعبدون لها ويتحاكمون إليها فيما يشجر بينهم من خلاف، إذ كانوا يعتقدون أن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم، وأخيرًا فهناك كذلك حرار في عدن وحضرموت وعمان والربع الخالي.
2- الدهناء:
وهي أرض رملية حمراء في الغالب، تمتد من النفود في الشمال، إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق، وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح وتغطي مساحات واسعة من الأرض، ويمكن العثور على المياه في قيعانها إذا حفرت فيها الآبار، وقد تنبت فيها أعشاب إذا ما وصلتها أمطار، وإن كان ذلك لفترة قصيرة، ربما لا تتجاوز أشهرًا ثلاثة.
وقد اعتبرها "ألويس موسل" فرعًا من النفود لا يتجاوز عرضه 30 كيلو مترًا، ولكنه يمتد مئات الكيلو مترات، ويبدأ في الشمال من نقطة تقع على مبعدة خمسين كيلو مترًا من درب الحج من جهة العراق، وأما "جون فلبي" فقد ذهب إلى أنها سلاسل رملية وآكام وكثبان متقطعة، ارتفاعها عن سطح البحر ما بين 1200، 1500 م، ويطلق الجغرافيون المحدثون على أقسامها الجنوبية اسم "الربع الحالي" لندرة السكان فيها، وكانت تعرف من قبل "بمفازة صيهد"، وتشغلها المنطقة الرملية الواسعة في جنوب المملكة العربية السعودية، والتي تمتد من المرتفعات الغربية القديمة في الغرب، وحتى مرتفعات عمان شرقًا، ومن هضبة نجد في الشمال، إلى مرتفعات حضرموت في الجنوب.
وأما القسم الغربي الجنوبي من الدهناء فيسمى "الأحقاف" "والحقف المعوج من الرمل أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشرف" وهي منطقة واسعة من الرمال، بها كثبان من الرمال اقترن اسمها باسم "عاد"، كما تكوّن "وبار" قسمًا من الدهناء، وهي أرض كانت مشهورة بالخصب والنماء، ثم أصبحت اليوم من الصحراوات، وفي الجهة الشمالية من وبار "رمال يبرين" التي يصفها "ياقوت" بأنها "رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة"، وقد كانت مسكونة، غير أن الرمال حولتها آخر الأمر إلى خراب.
3- النفود:
وهو الصحراء المسماة "بادية السماوة"، أما "النفود" فاسم لم يكن يعرفه العرب، وعلى أي حال، فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذرها الرياح، فتكون كثبانًا مرتفعة وسلاسل رملية متموجة، يحدها من الشمال وادي السرحان، ومن غربها الجنوبي واحة تيماء، ومن الجنوب جبلا أجأ وسلمى "جبل شمر"، ومن شرقها الجنوبي مدينة حائل، وهكذا يبدو واضحًا أن صحراء النفود "أو النفوذ بالذال المعجمة" تمتد على مسافة كبيرة من الأرض، تزيد عن مائة ألف كيلو متر مربع.
وكان يطلق على النفود الكبير قديمًا "رملة عالج" وقد وصفه البكري وياقوت تحت هذا الاسم، وتخترق القوافل النفود الكبير بالقرب من رأسه، إذ ترى درب الحج المسمى "درب زبيدة" كما تخترقه كذلك في مناطق معينة بين الكثبان الرملية، فهناك طريق بين الجوف ومنطقة جبل شمر.
التضاريس:
1- الجبال:
تكوِّن سلسلة جبال "السراة" العمود الفقري لشبه جزيرة العرب، وتتصل فقراتُه بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة، وقد تتساقط عليها الثلوج كجبل "دباغ" الذي يرتفع إلى 2200 فوق سطح البحر، وجبل "وثر" وجبل "شيبان"، وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود إلى الارتفاع، حيث تصل إلى مستوى عال في اليمن، فتتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال.
وتشتهر منطقة مكة بمجموعة من الجبال، أشهرها جبل "أبي قبيس" في جنوب مكة، وجبل "حراء" في شرقها، وفيه كان يتحنث جدُّنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وجبل "ثور" ويشرف على مكة من الجنوب، وفيه الغار الذي بقي فيه -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- مع أبي بكر، فترة إبان الهجرة من مكة إلى المدينة في عام 622م، وهناك كذلك جبل "رضوى" بين المدينة المنورة والبحر الأحمر.
وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه شرقًا إلى عمان، حيث ترتفع قمة الجبل الأخضر إلى 9900 قدم، وفي نجد -وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء2500 قدم- منطقة جبلية تسمى جبل شمر، وتقع بين الحافة الجنوبية للنفود الكبير وبين وادي الرمة، وتتكون من سلسلتي جبال "أجأ وسلمى"، ويمتدان متوازيين من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي والمسافة بينهما حوالي 45 ميلا، وأما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتكون من الصخور الجوراسية، ويطلق الجغرافيون العرب عليها جبال العارض، وهناك ما يشير إلى صخور أو مواد بركانية قذفتها البراكين إلى هنا.
2- الأنهار والأودية:
لا تستطيع شبه الجزيرة العربية أن تفاخر بوجود نهر واحد دائم الجريان يصب ماؤه في البحر، وليس في نهيراتها الصغيرة ما يصلح للملاحة، ومن ثم فهي تعد من جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يغلب عليها الجفاف، ويقل فيها سقوط الأمطار، ومن ثم فقد أصبحت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان.
وقد عوضت عن الأنهار بشبكة من الأودية التي تجري فيها السيول غبّ المطر، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرًا من أودية شبه الجزيرة العربية كانت أنهارًا في يوم ما، ويعتمدون في ذلك على أدلة منها:
"أولًا" وجود ترسبات في هذه الأودية من النوع الذي يتكون عادة في قيعان الأنهار.
"ثانيًا" ما عثر عليه من عاديات وآثار سكن على حافة الأودية.
"ثالثًا" ما جاء في كتابات القدامى من مؤرخي الأغارقة والرومان وجغرافيهم عن وجود أنهار في شبه الجزيرة العربية، فمثلا "هيرودوت" يحدثنا عن نهر أسماه "كورس"، زعم أنه يصب في البحر الأحمر، و"بطليموس" يذكر لنا نهرًا دعاه "لار" وزعم أنه نهر عظيم ينبع من منطقة نجران، ثم يسير في اتجاه شمالي شرقي، مخترقًا بلاد العرب، حتى يصب في الخليج العربي، ويرى "مورتز" أنه وادي الدواسر يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد خمسين ميلا، من جنوب شرق السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول.
والأمر كذلك بالنسبة إلى البحيرات، فليس في بلاد العرب بحيرات، وإنما هناك عدد كبير من "السبخات" الملحة، وهي مناطق واسعة تؤلف مساحة عظيمة من الأرض في نشأتها، وتحتوي على كثير من الأملاح المتجمدة، وقد اختلف الباحثون في نشأتها، فهناك من ذهب إلى أنها بقايا أنهار أو بحيرات ملحية قديمة، ومن ذهب إلى أنها بقاع تجمع فيها الكثير من الأملاح، وبمرور الزمن تكونت هذه السبخات، والتي منها، سبخة رابغ بين جدة ورابغ، وسبخة المدينة المنورة، وسبخة قريات الملح، وسبخة حضوضاء في وادي السرحان، وسبخة الأحساء بين الأحساء والخليج العربي، وإنه لمن الجدير بالملاحظة أن هذه السبخات تصبح في موسم الأمطار لزجة جدًّا، لا تتحمل ثقلا، وتغور بمن يمرُّ عليها.
وأما الأودية فكثيرة في شبه الجزيرة العربية، لعل من أهمها:
أ- وادي الرمة:
ويمتد من شرق المدينة المنورة في اتجاه شماليٍّ شرقيٍّ حتى يصل إلى "واحة البعايث"، ثم يتجه شرقًا فجنوب شرق، ثم شرق، حتى أطراف نفود "الثويرات"، حيث تطمس هذه النفود مجراه، وبعدها يأخذ الوادي نفس اتجاهه إلى الشمال الشرقي حتى رمال الدهناء تحت اسم "وادي الأجردي"، ثم يسير بعد ذلك في نفس الاتجاه باسم "وادي الباطن"، حيث مدينة البصرة على شط العرب، ويتصل بهذا الوادي مجموعة ضخمة من الروافد تجري في كل شمال غربي هضبة نجد، ويبلغ اتساع وادي الرمة في بعض المناطق خمسة أميال، وتقع عليه -وكذا على روافده- أكبر القرى الواحية في منطقة القصيم، وأهمها بريدة وعنيزة والرس ورياض الخبراء وقصر بن عقيل والبديع والخبراء والبكيرية والدليمية والديبية والنبهانية والقرعاء والروضة والعيون والرويضة والربيعية وغيرها.
هذا ويتجه بعض الباحثين إلى اعتبار وادي الرمة هذا، إنما هو نهر "فيشون" المذكور في التوراة كواحد من أنهار الجنة الأربعة، "دجلة، والفرات وجيحون وفيشون"، وتصف التوراة فيشون هذا بأنه "يحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، وفيها المقل وحجر الجزع"، بل أن هناك من يذهب إلى أن الأنهر المذكورة في التوراة إنما هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأنها وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي السرحان ووادي حوران، وأن ميل السطح في شبه جزيرة العرب وتعرضه للرياح الموسمية، ربما كان قد تغير بانخساف في طبقات الأرض، فندر الماء في شبه الجزيرة العربية، ولعل سبق اليمن إلى عمارة السدود وخزانات المياه التي من أشهرها "سد مأرب"، إنما يرجع إلى محاولة القوم التغلب على هذا القحط، بل لعل المأثورات المتداولة بين عرب الجاهلية عن وجود ما يسمى بالعرب البائدة مثل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم ووبار وغيرهم، إنما هو صدى لتلك الكوارث الجغرافية -فضلا عن الأسباب الدينية- التي دفعت بالساميين الأصليين من سكان بلاد العرب إلى البحث عن القوت في أماكن أخرى، وإن كان "ألويس موسل" يتجه إلى أن سبب الهجرات وتحول الأرض الخصبة إلى صحاري، إنما يرجع إلى ضعف الحكومات، وإلى تحول الطرق التجارية.
ب- وادي الحمض:
وكان يسمى قديمًا "وادي إضم"، ويبدأ من جنوب حرة خيبر، ثم يتجه إلى المدينة المنورة حيث به أودية فرعية كوادي العقيق ووادي القرى، ثم يسير في مرتفعات الحجاز، حتى يصل إلى سهول تهامة فيتجه إلى الشمال الغربي، حيث يصب في البحر الأحمر جنوب ميناء "الوجه"، وهناك بقايا قرية يونانية قديمة، ومعبد يعرف عند الأهلين "بقصر كريم"، وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة، التي كان الملاحون والتجار اليونان قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصان "أولًا"، وللاتجار مع الأعراب "ثانيًا"، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد "ثالثًا"، ويذهب "مورتز" إلى أن هذا الموضع هو مكان مدينة "لويكة كومي" المشهورة في أحداث حملة "اليوس جالليوس" على اليمن في عام 24ق. م، بينما يذهب آخرون إلى أنها المحل المعروف باسم "الحوراء"، وأما طول وادي الحمض، فيقدره الجغرافيون بحوالي 900 كيلو متر.
ج- وادي السرحان:
ويمتد من "عمان" عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، حتى قرب "الجوف" جنوبًا، على الأطراف الشمالية للنفود الكبير، ويبلغ طوله حوالي 300 ميل، ويصل اتساعه في بعض المناطق إلى عشرة أميال، وهو منخفض واسع يطلق عليه "قريات الملح" و"وادي السرحان"، وهو ليس واديًا بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة، وإنما هو منخفض واسع من الأرض يمتد من الجنوب إلى الشمال، وتنحدر منه أودية كثيرة من جميع جهاته، ولا شك أنه كان متصلا بإقليم الجوف، غير أن الرمال قد تراكمت في نقطة التقاء المنطقتين -في الموضع المعروف باسم عريق الدسم وما بقربه -تراكمًا فصل بينهما، وهذا المنخفض من الأرض كان يدعى قديمًا "فرافر"، كما كان يدعى "البياض" كذلك.
د- وادي حنيفة:
وكان يسمى "فلجا"، ويمتد هذا الوادي، ومجموعة الوديان المتصلة به، بين جبال طويق غربًا، وبين هضبة العرمة شمالًا، بين خطي عرض 24، 26، ويبلغ طوله حوالي 250ميلا، ويجري موازيًا له من الشمال إلى الجنوب "وادي الأيسن" حتى مدينة الرياض، حيث يمتد في جنوبها وادي السلمى، وطولهما 110 ميلا، وهذه الوديان جميعها تنتهي في منطقة الخرج أو منطقة اليمامة.
هـ - وادي الدواسر:
وهو وادٍ كبيرٌ يتجه شرقًا عبر وديان جبل طوق، وتنتهي مياهه شرقها عند أطراف الربع الخالي، عند نقطة تبعد خمسين ميلا من جنوب شرقي السليل،، وأهم الوديان المتصلة به من الجنوب وادي تمرة ووادي ريان ووادي الحسي ووادي الحنو، ومن الشمال وادي المجامع ووادي بني ليب، وأهم القرى اللدام والسليل والخماسين والشرافا وليلى والبديع والروضة، وفي وادي الدواسر واحة تقع في مدخلها من جهة الشرق مزارع نخيل الشرافة، وهي غنية بشجر الآثل والكروم.
و- وادي بيشة:
وينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب مدينة "أبها"، ثم يسير موازيًا لوادي "تثليث" حتى يتصل به شمال غرب مدينة الخماسين، ويبلغ طوله حوالي 350 ميلا، ويتصل به من الغرب وادي "رينة" الذي ينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب بلاد "غامد" ثم يتجه شمالا مع الحافة الشرقية لحرة "اليقوم" حتى يتصل بوادي بيشة شرق قرية "رينة" عند الرغوة، ويبلغ طوله حوالي 350 كيلو مترًا، من بدايته وحتى بعد "الجنينة" ثم يستمر حوالي 100 كيلو متر في الرمال.
ز- وادي فاطمة:
وينتهي به وادي السيل، ويصب في البحر الأحمر جنوب ميناء "جدة"، وهو الذي يزود المدينتين المقدستين- مكة المكرمة والمدينة المنورة- بالمياه.
ع - وادي نجران:
وهو أحد الأودية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية، بل هو في الواقع مجموعة أودية كبيرة، منها:
1- وادي حرض: وينبع من مرتفعات "وشحة" ومرتفعات "خولان بن عامر" غربي صعدة، ويتجه مجراه إلى ساحل الأحمر شمالي "ميدي" في المملكة العربية السعودية.
2- وادي مور: وهو واد كبير تتصل به روافد كثيرة متعددة المنابع، بعضها من مرتفعات "العشمة"، وبعضها من مرتفعات "وشحه"، وبعضها من مرتفعات "كحلان"، وبعضها من بلاد "حاشد" ويصب وادي مور في البحر الأحمر شمال "اللحية".
3- وادي سردد: ويغذي مناطق زراعية واسعة، وتتصل به روافد عدة، أهمها وادي الأهجر الذي تكثر به الشلالات وقد استخدم على أيام "دولة حمير" في طحن الغلال، ويصب وادي سردد جنوب "الزيدية".
4- وادي سهام: وتقع منابعه في وادي آنس جنوب صنعاء، ويصب في البحر الأحمر جنوب الحديدة.
5- وادي رماع: وينبع من المرتفعات الواقعة شمال "ذمار" وتغذيه عدة روافد، ويصب في البحر الأحمر شمال "المفازة".
6- وادي زبيد: وهو من الأودية الغزيرة المياه، ومنابعه في مرتفعات "لواء آب"، ويصب في البحر غربي مدينة "زبيد".
7- وادي نخلة: ويصب في البحر شمالي "الخوخة"، ثم هناك كذلك وادي "رسيان" ووادي "موزع"، هذا مع ملاحظة أن كل هذه الأودية -الآنفة الذكر- إنما تتجه غربًا.
وأما الأودية التي تتجه شرقًا، فلعل أهمها:
1- وادي الجوف: وتتجمع فيه عدة أودية.
2- وادي مأرب: وينبع من جبال "بلق" ثم يتجه شرقًا، مارًّا بمدينة مأرب على مبعدة كيلو متر، من سد مأرب المشهور.
3- وادي حريب: وينبع من مرتفعات "خولان الطيال".
4- وادي أملح والعقيق.
4- وادي بيجان: وينبع من مرتفعات "لواء البيضاء" ثم يتجه إلى الشمال الشرقي حتى يصل إلى "بيجان القصاب" ثم تضيع مياهه شرقًا في الأحقاف.
وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الأودية التي تتجه شرقًا ذات أهمية تاريخية، فقد كانت مركزًا للسكنى والاستقرار، وكان حجم التجمعات السكانية، ولا شك كبيرًا، حتى أنهم فكروا في إقامة السدود العديدة على مجاري هذه الوديان، ومنها "سد مأرب"، وسد قتبان الذي أقيم في وادي بيجان عند "هجر بن حميد" وكان يسقي منطقة واسعة من دولة قتبان، هذا فضلا عن تلك السدود التي تظهر آثارها في وادي عديم وعند حصن العروثوبه في جنوب وادي حضرموت، فضلا عن سد عند "مرخة" وآخر عند شبوة"، وثالث عند "الحريضة"
ويصف الشاعر العربي السدود في منطقة "ياريم" فقط بقوله:
وفي الجنة الخضراء من أرض يحصب .................................. ثمانون سدًا تقذف الماء سائلا
وبقايا هذه السدود ما زال باقيًا يشهد بوجودها في مجاري في هذه الوديان، كما أن آثار العمارة ما زال باقيًا في المدن القديمة، وهناك المدن التي تنتشر بالقرب من مجاري هذه الوديان مثل "براقش" و"معين"، وقد ذكر "بليني" أنها بلاد كثيرة الغاب والأعراس- الأمر الذي سنناقشه في مكانه من هذه الدراسة.
أما الأودية التي تتجه شمالا، فقليلة وفقيرة جدًّا، أما المتجهة جنوبًا، فغنية بمائها، وتتركز الأراضي الزراعية في مجاريها الدنيا، وأهمها "وادي تبن" و"وادي بنا".
المناخ:
تعتبر شبه الجزيرة العربية من أشد البلاد جفافًا وحرًّا، وربما كان ذلك لوقوعها في منطقة قريبة من خط الاستواء، ولأن معظمها إنما يقع في الإقليم المداري الحار، ولأنها بعيدة عن المحيطات الواسعة التي تخفف في درجة الحرارة، ولأن المسطحات المائية التي تقع إلى الشرق وإلى الغرب منها- أي الخليج العربي والبحر الأحمر- أضيق من أن تكفي لكسر حدة هذا الجفاف المستمر، فهما مسطحان مائيان يتراوح اتساعهما بين 120، 150 ميلا، ولهذا كان أثرهما في اعتدال الحرارة غير محسوس، أما المحيط الهندي الذي يقع إلى الجنوب منها، فلئن ساعد في الجنوب على سقوط الأمطار في أطراف شبه الجزيرة العربية الجنوبية، فإن مرتفعات حضرموت والربع الخالي قد تمنعه عن داخلها، هذا فضلا عن أن رياح السموم التي تنتاب شبه الجزيرة العربية في مواسم معينة، فتشوي الوجوه وتعمي العيون، تسلب كذلك الرطوبة من الهواء قبل أن يبلغ داخل البلاد، أما الريح الشرقية المنعشة المعروفة "بريح الصبا"، فقد كانت موضوعًا محببًا يتغنى به شعراء العرب، بل ليس في أشعار العالم ولا في نثرهم شعرًا ونثرًا فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح.
والمطر غوث ورحمة لسكان شبه الجزيرة العربية، يبعث الحياة في الأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحول وجهها الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ومن هنا كانت مرادفات المطر الغيث، وفيها ما فيها من معاني الغوث والنصرة، وهو على أي حال، جد قليل في داخل البلاد، بالنسبة إلى شدة احتياج البلاد إليه، ولعل أكثر المناطق حظوة ونصيبًا من المطر هي النفود الشمالي وجبل شمر، إذ تنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع، وأما الصحاري الجنوبية فلا يصيبها المطر إلا زذاذًا، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ، وأما الساحل الغربي حيث معظم الأرض حَرّة، فإن المطر ينهمر هناك مدرارًا فتسيل السيول، ثم تبدو الأرض وكأن لم يصبها شيء، حيث لا يتسرب من هذه السيول شيء كثير إلى باطن الأرض، وإنما تصب في البحر، على أن ثمة بقاعًا قليلة تستفيد من المطر كالعقيق في المدينة وبعض البقاع حول مكة، ولا ريب في أن الطائف مثلا بلد خصب -وكذا خيبر- ولكن تلك الأماكن الخصبة قليلة جدًّا بالنسبة إلى اتساع الجزيرة العربية.
وتسقط الأمطار الموسمية في اليمن وعسير، وهي هناك تكفي لتأمين زراعة الأرض زراعة منتظمة، ففيها نجد خضرة دائمة تنبت في أودية خصبة تمتد إلى نحو مائتي ميل من الساحل، ويزيد ارتفاع صنعاء على 7000 قدم فوق سطح البحر، وهي لذلك من أصح المدن وأجملها في بلاد العرب، ويروي "الإصطخري" أنه ليس في الحجاز أبرد من جبل "غزوان" بجوار الطائف، وأنه ربما جمد الماء في ذروته، وأشار الهمداني إلى جمود الماء في صنعاء، ويضيف "جلازر" إلى هذين الموضعين جبل "حضور الشيخ" في اليمن، الذي كثيرًا ما تسقط عليه الثلوج في الشتاء وأما الصقيع فهو أكثر من ذلك شيوعًا.
وتهب على عسير في الصيف الرياح الموسمية، سواء الغربية منها أم الجنوبية الغربية، فالأولى تصل إلى المنطقة من المحيط الأطلسي وتسبب سقوط الأمطار فوق هضبة الحبشة، وعندما تجتازها تمر فوق مناطق منخفضة ثم فوق البحر الأحمر فتحمل معها بعض الرطوبة فعندما تصطدم بجبال عسير تسبب هطول المطر، بينما لا تسبب تهطالا فوق تهامة لحرارة المنطقة فتقل معها الرطوبة النسبية، ولكنها تسبب العواصف الرملية ولذا تعرف هناك باسم "الغبرة" وغالبًا ما تكون في نهاية الصيف. وبعد الزوال حتى غروب الشمس، أما الرياح الجنوبية الغربية فتأتي من المحيط الهندي وتكون في أوائل الصيف وتثير البحر الأحمر وتهيجه فترتفع الأمواج فيه، ولا تسقط إلا أمطارًا قليلة لأنها تقل في ظل القرن الأفريقي، كما أن جبال اليمن تكون قد أفقدتها أكثر حمولتها، ولا ينال تهامة منها شيئًا.
وتتميز حضرموت بالأودية العميقة وبالرياح الموسمية الجنوبية الغربية المشبعة ببخار الماء، ويصل إلى عمان قدر لا بأس به من المطر ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم.
ومن الغريب أن المطر ينهمر أحيانًا، وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكون سيولا عارمة جارفة، تكتسح كل ما تجده أمامها، وتسيل الأودية، فتتحول إلى أنهار سريعة الجريان، وقد لاقت مكة من السيول مصاعب كثيرة، هذا وقد خصص "البلاذري" في "فتوح البلدان فصلا كاملا لأخبار سيول مكة، والأمر كذلك بالنسبة إلى المدينة، وإلى غيرها من المدن، وقد يهلك في هذه السيول خلق من الناس كثير، كما حدث لشعب سبأ بسبب سيل العرم، وكما حدث قريبًا في عام 1336هـ عندما حدثت فيضانات كثيرة في وادي "تثليث" فتجاوزت السد الرملي ووصلت إلى وادي الدواسر، وأغرقت عدة قرى.
الموارد الطبيعية:
1- المعادن:
يمكن أن يقال بصفة عامة أن شبه جزيرة العرب تنقسم إلى قسمين جيولوجيين كبيرين، وبخاصة في المملكة العربية السعودية، وأن القسم الشرقي منها يمتاز بوجود صخور رسوبية، حيث تتركز الثروة البترولية، وأما القسم الغربي، فيمتاز بالصخور النارية المتبلورة القديمة، حيث توجد عروق المعادن الفلزية، والتي من أهمها:
أ- الذهب:
وهو من المعادن التي استخرجت منذ العصور القديمة، ومن ثم قد ذكر الجغرافيون العرب أسماء مواضع عرفت بوجود خام الذهب فيها مثل بيشة وضنكان والمنطقة ما بين القنفذة ومرسى حلج، كما أشارت المؤلفات اليونانية إلى المنطقة ما بين القنفذة وعتودة، ومن ثم فقد ذهب بعض الباحثين- كما أشرنا من قبل -إلى أنها "أوفير" التي أشارت إليها التوراة على أنها مورد الذهب لسليمان، كما أن هناك ما يشير إلى وجود الذهب على مقربة من "حمضة"، حيث كان يستخرج الذهب من هناك في العصور القديمة، هذا فضلا عن اشتهار ديار بني سليم بوجود معادن فيها، ومن بينها الذهب.
ويذهب الكتاب القدامى من الأغارقة إلى أن هناك مواضع في شبه جزيرة العرب، يستخرج منها الذهب نقيًّا، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب، ولا يصهر لتنقيته، ومن ثم فقد قيل له "أبيرون" "Apyron"، وأن العبرانيين إنما أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة، فيما يرى بعض العلماء المحدثين.
وقد عثر في "مهد الذهب" والذي يقع إلى الشمال من المدينة، على أدوات استعملها القدامى في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، فضلا عن آثار القوم في حفر العروق التي يتكون منها الذهب، مما يدل على أن الموقع إنما كان منجمًا للذهب في عصور ما قبل الإسلام، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى سليمان عليه السلام.
ب- الفضة:
وقد وجدت مناجم قديمة للفضة شرقي القنفذة، وعند منتصف المسافة بين وادي قينونة ووادي بنا، هذا وقد أشار الهمداني إلى استخراج الفضة من "الرضواض" في اليمن، وأن فضته لا نظير لها.
ولعل من الجدير بالإشارة أنه قد عثر على خامات الرصاص والزنك شرقي القنفذة، وفي منطقة مهد الذهب، كما عثر على مناجم الحديد في وادي فاطمة، وعلى مصنوعات حديدية في الخرائب والآثار والأماكن القديمة في اليمن، والتي اشتهرت بسيوفها في الجاهلية والإسلام، وإن كنا لا نعرف المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وأخيرًا فلقد ذكر "نيبؤور" أنه كان في "صعدة" منجم يستخرج منه الحديد، فضلا عن "نقم" و"غمدان".

2- النبات:
ليس هناك من شك في أن الماء هو العنصر الفعال في الإنتاج الزراعي، ومن ثم فإن الإنتاج لا يتيسر إلا حيث تتوفر المياه، الأمر الذي لم يحدث إلا في أقاليم قليلة من بلاد العرب، فإذا أضفنا إلى ذلك أن جفاف الهواء وملوحة التربة يحولان دون نمو النبات وازدهاره، لتبين لنا أن دولة النبات في شبه جزيرة العرب ليست بحال من الأحوال دولة ضخمة، ومن ثم فإن الأراضي الزراعية قد انتثرت في بلاد العرب كالجزر في محيط الصحراوات الرملية، والمرتفعات الوعرة التضاريس العارية من التربة في كثير من الأحايين، هذا إلى جانب بعض المناطق الجنوبية حيث تفرغ الرياح الموسمية أمطارها على سفوح السلسلة الجبلية، فتقوم فيها بعض الزراعات الناجحة، أو البستنة الرابحة، عن طريق توفير المياه وحسن تصريفها.
وتعتبر نخلة البلح ملكة عالم النبات في شبه جزيرة العرب، وما زالت حتى اليوم تحتفظ بمركز ممتاز بين الحاصلات الزراعية في بلاد العرب، وإن تدهورت قيمة التمور في السنوات الأخيرة، ولم تعد كما كانت من قبل عند البدوي، الذي كان قوام طعامه التمر والحليب، كما لم تعد كذلك منية البدوي أن يحصل على الأسودين الماء والتمر.
وقد أفادت النخلة القوم فوائد جمة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إدامًا للعرب، وطبًّا يستطبون بها لمعالجة عدد من الأمراض، ومادة استخرجوا منها دبسًا وخمرًا وشرابًا، بل لقد ذهبوا في ذلك إلى أبعد من الفوائد المباشرة، فحلوا بها مشكلة الصراع بين الحرارة والملوحة، ذلك أن الإشعاع الشمسي الهائل يرفع البخر إلى درجة تهدد الموارد الباطنية بالنفاد وسط التربة الزراعية بالاستملاح المتزايد، ولهذا لجأ القوم إلى النخيل، لا كغذاء فقط، وإنما لتستظل به الزراعة، ولهذا تمتاز بعض الواحات بعدة ملايين من النخيل، تقوم كالغابة الحقيقية، بينما ترقد عند أقدامها وبين جذوعها الزراعات، وهكذا تصبح الواحة بحق "غابة الصحراء" والنخلة عن جدارة "مظلة الواحة".
ولقد أدت تلك الفوائد الجمة للنخلة أن أصبحت "سيدة الشجر" لا عند العرب فحسب، بل عند قدماء الساميين جميعًا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم، وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة، وفي جملتها نقود العبرانيين، الذين يحترمون النخلة احترامًا لا يقل عن احترام العرب لها، ومن ثم فقد ورد ذكرها في مواضع عديدة من التوراة والتلمود، ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ملكة الأشجار العربية هذه، غير عربية الأصل، فقد نقلت إلى بلاد العرب من بابل، حيث كانت شجرة النخل من أعظم العوامل التي اجتذبت الإنسان القديم للتوطن هناك.
أما الكروم فقد غرست في مناطق من شبه جزيرة العرب، اشتهرت بها؛ كالطائف واليمن، كما غرس في الواحات العربية الرمان والتفاح والمشمس والبرتقال والليمون الحامض والبطيخ والموز، ويرجح أن الأنباط واليهود هم الذين أدخلوا هذه الفواكه إلى بلاد العرب من الشمال، كذلك زرع القمح والشعير في الواحات، كما كان ينمو الأرز في عمان والإحساء، ولا يزال شجر اللبان يزدهر على الهضاب المحاذية للساحل الجنوبي، لاسيما في مهرة، وقد كان لشجر اللبان هذا أهمية كبرى في الحياة التجارية الأولى في بلاد العرب الجنوبية، وأما الصمغ العربي فقد كان من أخص حاصلات عسير، التي أصبحت الآن أكثر الأقاليم زراعة للقمح، تليها في ذلك منطقة القصيم، وأما شجرة البن التي تشتهر بها اليمن الآن فقد أدخلت إلى جنوب بلاد العرب من الحبشة في القرن الرابع عشر الميلادي.
وتوجد في البادية عدة أنواع من شجر السنط، منها الآثل والغضال الذي ينتج الفحم الممتاز، والطلح الذي يستخرج منه الصمغ العربي، والسدر وهو شجر النبق وأوراقه عريضة، وترتفع أشجاره إلى عشرة أمتار عن سطح الأرض، ويكثر في بطون الأودية، ويكون ظلا يقي مَنْ يجلس تحته لهيبَ الشمس ووهجَها المحرق، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم، والآراك وهو شجر محبب للشعراء، وهو الحمض، أو شجر من الحمض، تتخذ منه المساويك، وترعاه الإبل، فيه ملوحة ومرارة، وهو للإبل كالفاكهة للإنسان، تأكل منه الإبل بعد أن تشبع من غيره، وللأراك ثمر إذا نضج يدعى الكباث، وأطيب مراعي الإبل السعدان، وهناك البرسيم، وهو حب القرظ -والقرظ نوع من الكراث- وهناك الآس، وهو شجرة طيبة الريح، ولها ثمر أسود وأبيض يؤكل، والأبيض أجود، وهناك العرار، وهو بهار البر، طيب الرائحة، والخزامى المشهور بطيب الرائحة وشقائق النعمان إلى غير ذلك من أشجار البادية3
3- الحيوان:
ليست دولة الحيوان في بلاد العرب بأفضل من دولة النبات، والجمل -على أي حال- هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وصلابته السير- بجبروت وبتبختر- فوق رمال الصحاري، فهو يتلاءم تمامًا مع ظروف البيئة الصحراوية: الرمال في السير، والعطش في الحرّ، الشوك في الأكل، والوبر في البرد، وارتفاع القامة والرقبة في العواصف الرملية، ولو أنه حين تشتد العواصف الرملية يلزم إلباس الفم والمنخرين لثامًا واقيًا.
والجمل اثنان: جمل العدو، وجمل الحمل، أما الأول، فالهجان أو الهجائن، أي خيار الإبل، وتسمى أيضًا ذللا، والواحد منها ذلول، وتستخدم للركوب، وأحسن الهجائن ما كان من عمارة ومهرة، ثم "البعران" -جمع بعير- وهي الإبل التي تسخدم في حمل الأثقال، وإن كانت أقل إبل الصحراء لبنًا، بينما تلعب الذلل دور الخيل في نطاقها، من حيث الحرب والانتقال.
والجمل ثروة العربي، وهو أداة انتقاله، بل هو نقده الذي يتبادل السلع بواسطته، وهو فوق ذلك وحدة القياس لمهر العروس، ودية القتيل، وأرباح الميسر، وغنى الشيخ، فكل ذلك قدر بعدد معين من الجمال، والجمل رفيق البدوي، وصنو نفسه، وحاضنته التي ترضعه، فيشرب لبنه بدل الماء "الذي يوفره للماشية"، ويجعل طعامه من لحمه، وكساءه من جلده، ويحوك بعض أجزاء خيمته من وَبَرِهِ، ويتخذ رَوَثَهُ وقودًا، وهكذا لم يعد الجمل -في نظر البدوي- "سفينة الصحراء" فحسب، بل هو "هبة الله"، وصدق جل وعلا حيث يقول: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، ومن هنا فقد لعب الجمل دورًا كبيرًا في حياة العرب الاقتصادية، يدل على ذلك ما يقال من أن اللغة العربية تضم نحو ألف اسم للجمل في مختلف أنواعه وأشكاله ومراحل نموه، وهو عدد لا ينافسه إلا عدد المترادفات لاسم السيف.
ويرى العلماء أن الإنسان قد ذلل الجمل حين صيره أليفًا مطيعًا في الألف الثانية قبل الميلاد هذا وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية إنما كانت الموطن الذي ذلل هذا الحيوان في الشرق الأدنى القديم، معتمدين في ذلك على أن العراقيين القدامى قد أطلقوا عليه اسم "حمار البحر"، وأن البحر هنا إنما يعني الخليج، وأن لفظة "الجمل" -جملو، وهي في الأكادية كملو- إنما جاءت من بادية الشام، ومعظم سكانها من العرب، وكانوا يستعملون الجمل منذ الألف الثانية ق. م، وأن دخول كلمة الجمل من البادية إلى العراق، دليل على أن العرب قد استخدموه أولًا، ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى.
وأما الخيل، فبالرغم من اشتهار بلاد العرب بجمال خيلها وبتربيتها لأحسن الخيول وبتصديرها لها، فإنها في شبه الجزيرة العربية من الحيوانات الهجينة غير الأصيلة في الصحراء -رغم الخطأ الشائع- بل هي دخيلة بقصد استعمالها آلة للعدو والكر في الحروب التي تعتبر ضرورة صحراوية، ولا ترتقي أيام وصولها إلى بلاد العرب إلى ما قبل الميلاد بكثير، وقد وردت إليها من العراق ومن بلاد الشام، أو من مصر، وربما من سيليسيا، أو حتى من إسرائيل.
ويبدو أن مصر كانت في الألف الأول قبل الميلاد، مصدرًا رئيسيًّا للخيل والمركبات، ونقرأ في التوراة "وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر، وجماعة تجار الملك "سليمان" أخذوا جليبة بثمن، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر بستمائة شاقل من الفضة، والفرس بمائة وخمسين"، وربما كان ذلك أقل من أسعارها العادية، ويعلل "برستد" لذلك، بأن سليمان ربما كان يتمتع في مصر بامتياز خاص عن طريق الفرعون حميّه.
وهناك مصدر آخر للخيل، هو "Koa"، وهو اسم دولة في سيليسيا، كانت تقع في السهل الخصب بين جبال طوروس والبحر الأبيض المتوسط، وتشتهر بتربية الخيول، ويذكر "هيرودوت" أن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا،.
وأما المصدر الثالث فربما كان إسرائيل -وفي عهد سليمان بالذات- ونقرأ في التوراة أن سليمان كان شغوفًا بالخيل رغم أن رب إسرائيل قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل والنساء والذهب، غير أن سليمان إنما كان يرى أن "الفرس معدة ليوم الحرب" وإن "كانت النصرة من الرب"، ورغم أن العلماء قد اختلفوا في أسباب ولع سليمان بالخيل، فالذي لا شك فيه أن الخيل كانت على أيامه سلعة تجارية رائجة، وأن أسرائيل كانت تحتكرها تمامًا، وأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر وسورية وآسيا الصغرى إنما كانت تمر بمملكة سليمان، وقد كشفت بعثات الحفائر الأمريكية في مجدو وبيت شان وتعنك وحاصور وأورشليم وغيرها من مدن مملكة سليمان على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من إسطبلات الخيول، والتي كان الواحد منها يسع 450 حصانًا.
وهكذا يبدو أن الخيل لم تكن أصيلة في بلاد العرب، هذا فضلا عن أن العربي إنما كان يبدو في الآثار المصرية والبابلية والآشورية والفارسية جمالا، لا خيالا،وكان الجمل -وليس الحصان- هو الذي يذكر عند جمع الجزية التي كان يفرضها الفاتحون الآشوريون على العربي والعربية، فالملك الآشوري "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" يفرض على الملكة "شمسي" جزية "جمالًا ونياقًا"، وإن رأينا الخيل، بجوار الجمال، في الجزية التي قدمت للملك "سرجون الثاني" "722-705ق. م"، والذي جاء بعد سليمان "960-922ق. م" بأكثر من قرنين ونصف من الزمان، وفي جيش "إكزركسيس الأول" "486-465ق. م" الذي كان متجهًا إلى بلاد اليونان لفتحها، ظهر العرب يركبون جمالا، وأخيرًا، فلقد أنكر "سترابو" وجود الحصان في شبه الجزيرة العربية.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن بيئة الصحراء ليست أمثل بيئة لتأقلم الخيل، فالعروض الجنوبية الحارة لا تلائمها، وهذا هو السبب في أن الخيل لا تسود في الصحراء، إلا في أقصى نطاقاتها شمالا، والسطح الرملي لا يلائم حوافر الخيل، ولذلك تميل الخيل في نطاقاتها إلى التركيز في صحراء الحمادة، أكثر منها في صحراء الأرج، كذلك يدفع الإنسان ثمن التأقلم باهظًا، فالخيل ليست حلوبًا بدرجة الإستبس، لفقر مراعي الصحراء، بل قد ينبغي إطعام الخيل بلبن الجمل، وبالحبوب المستوردة من بعيد، أو بالأسماك على السواحل، كما في منطقة الخليج العربي، كما ينبغي الاهتمام بها اهتمامًا خاصًّا، ربما كان اهتمامًا يفوق حد المعقول، وقد لاحظ "ألويس موسل" أن البدوي وذويه قد يبيتون على الطوى في سبيل توفير شيء من الحليب أو الحبوب، لفرس عندهم ذات فلوة.
وهكذا كان اقتناء الخيول هواية وكمالية، لا يقدر عليها إلا من كان على سعة من عيش، ولهذا تصبح سمة من سمات الأبهة والعظمة والتفاخر في المجتمع،ولا عجب أن تؤدي العناية المضاعفة بها إلى توليد أعظم السلالات في بلاد العرب، دون موطنها الأصلي، والاعتزاز بها إلى ظهور أنساب لها، ولعل أعرق الخيل نسبًا ما كان في نجد، بل إن خيول نجد لتعد من أجود الخيول في العالم قاطبة.
ولقد عرفت بلاد العرب كذلك -إلى جانب الإبل والخيل- البغال والحمير: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وهناك كذلك الشاة والماعز والبقر والقردة والنسانيس والحمير "وهو حامور في العبرية، وأنثاه أتون أي أتان في العربية"، ويظهر أنها أقدم عهدا في بلاد العرب من الجمل والخيل والبغال، إذ كانت وسيلة النقل والركوب في أوائل الألف الثانية ق. م.
وهناك من الحيوانات البرية، الأسد والفهد والنمر والضبع والثعلب والذئب وابن آوى والوعل واليربوع والخنزير والأرانب والغزلان والظباء، ويبدو أن هذه الحيوانا قد قلت الآن، ربما بسبب كثرة السكان واستعمال آلات الصيد الحديثة وتغير المناه، فمثلا كانت الأسود في وادي بيش، ووادي عتود وعثر، بل إن هناك أماكن اشتهرت بكثرة أسودها حتى قيل لها "مآسد" "والواحدة مأسدة"، ومن الطيور هناك النعام والقطا والحجل والكروان والغراب والبجع والرخم والهدهد والنسر والعقاب والصقر والبوم والحدأة وغيرها.
وهناك العقارب بأحجام وألوان مختلفة، والأفاعي والحيات، والتي كان بعضها كبير الحجم يقفرب على من يهاجمه بسرعة خاطفة، فأفزع الناس في البوادي والأودية، وحتى زعم البعض أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان مختلفة، إلى غير ذلك من صفات تركت أثرها في كتابا "هيرودوت" و"سترابو"، وتحدثنا النصوص الآشورية أن جيش "إسرحدون" "680-669ق. م" قد فزع من كثرة الثعابين والحيات في البادية، والتي زعمت النصوص أن من بينها ثعابين ذات رأسينن وأخرى لها أجنحة، وقد فزع الإسرائيليون كذلك في أثناء التيه من "الثعابين الطائرة"، كما فزع السياح والمستشرقون المحدثون من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزلوا بها، ومنها "وادي السرحان".
طرق القوافل:
تقع شبه جزيرة العرب في مكان وسط من حيث المناطق المناخية والنباتية في العالم القديم، فإلى شرقها يقع الإقليم الموسمي الغني بإنتاجه الزراعي، وإلى غربها وشمالها يقع إقليم البحر المتوسط وما وراءه، وله لون خاص من الإنا الزراعي يختلف عن الإنتاج في الغقليم الموسمي، وبعبارة أخرى، تقع الصحراء العربية على أقصر طريق بين أغنى أقاليم العالم القديم التي تتفاوت في إنتاجها تفاوتًا كبيرًا، مما يؤدي إلى التبادل التجاري، ومن ناحية أخرى يملك البدوي وسيلة المواصلات الوحيدة في الصحراء -الجمل وخاصة المهري- وأخيرًا فالتجارة وسيلة ممتازة للاستفادة، أفضل بكثير من رحلاته التي يقوم بها بطبعه إلى هوامش الصحراء، لمبادلة حاصلاته بحاصلات الزراع المستقرين، أضف إلى ذلك كله، أن البدو يمكنهم عبور الصحراء في قوافل ذات أعداد كبيرة، تضمن الحماية والسلامة من الغارات في أثناء الطريق.
وهكذا تكاملت الأطراف لإنشاء تجارة رابحة بين الإقليم الموسمي وبلاد الهلال الخصيب من ناحية، وبين جنوب غرب شبه الجزيرة العربية وجنوبها، ومصر ودول شرق البحر المتوسط من ناحية أخرى، أو بمعنى آخر، وجدت مناطق الإنتاج وأسواق الاستهلاك، والعرب الرعاة وإبلهم فيما بينهما وسطاء للتجارة، وهكذا نشأت الطرق والدروب الصحراوية لتسلكها التجارة، وأصبح جنوب غرب الجزيرة وجنوبها مركز إشعاع تخرج منه القوافل التجارية إلى الشمال -عبر مكة ويثرب- حتى الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وحول خليج العقبة إلى مصر، وكانت موانئ الخليج العربي مركز الإشعاع الثاني للطرق والدروب الصحراوية، فمنه تخرج الطرق إلى غرب شبه الجزيرة وإلى جنوبها، وشمالها الغربي.
لقد كان هناك مركزان تخرج منهما الطرق: جرها على الخليج العربي، ومدن الساحل الجنوبي الغربي، وقد سارت هذه الطرق كالآتي:
أ- الطريق الجنوبي الشمالي:
من مأرب إلى البتراء، ويبدأ في الواقع من عدن وقنا في بلاد اليمن وحضرموت، ثم مأرب -على مبعدة 80 ميلا إلى الشرق من صنعاء -ثم يتجه إلى نجران فالطائف، ثم مكة ويثرب وخيبر والعلاء ومدائن صالح، ثم ينفصل الطريق هنا ليتجه فرع منه إلى تيماء صوب العراق، ويستمر الفرع الآخر في نفس الاتجاه حتى البتراء فغزة ثم الشام ومصر.
ب- طريق مأرب -جرها:
ويتجه من مأرب ثم نجران، حيث يتجه إلى الشمال الشرقي في وادي الدواسر، ويمر بقرية "الفاو" -على مبعدة 50 كيلو مترًا إلى جنوب نقطة يتداخل ويتقاطع فيها وادي الدواسر مع جبال طويق عند فوهة مجرى قناة تدعى الفاو، وتشرف على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي- ومن هناك يتجه إلى الأفلاج فاليمامة، أو عن طريق واحة يبرين -على مبعدة 300 كيلو متر جنوب غرب الهفوف- ثم واحة الهفوف، فجرها "الجرعاء"، على ساحل الخليج العرب.
ج- طريق جرها- البتراء:
ويبدأ من جرها ثم الهفوف، ثم إلى شمال اليمامة، عند موقع مدينة الرياض الحالية تقريبًا، ثم يتجه إلى الشمال الغربي، موازيًا لجبل طويق، ثم يتجه غربًا إلى بريدة، ومنها حائل فتيماء، وأخيرًا البتراء.
د- ويرفد هذا، الطريق الرابع:
البحر العربي والمحيط الهندي والممالك العربية الجنوبية، وخاصة حضرموت ومنطقة عمان، ويبدأ من الخليج متجهًا شمالان بغرب مارًّا بمحاذاة الحدود الشرقية لنجد، فمنها بعدئذ، إما إلى الشمال في اتجاه العراق، وإما إلى بادية الشام.
هـ - وأما الطريق الخامس:
فقد كان عبر الطرف الشرقي من الربع الخالي، ويبدأ من منطقة حضرموت وعمان متجهًا إلى منطقة اليمامة، صاعدًا إلى بلاد الشام أو العراق، حيث يلتقي بالطريق الشرقي وبفرع الطريق الغربي.
وعلى أي حال، ففي القرن الأول الميلادي تحولت التجارة إلى البحر الأحمر، فاضمحلت أهمية هذه الطرق، وأصبح الطريق البحري هو المفضل، وأما أهم مواد تجار النقل في الصحراء، فكان كل ما خف حمله وغلا ثمنه، فمن الجنوب إلى الشمال يتحرك تبر الذهب والصمغ والعاج وريش النعام والبخور من اللبان والمر، ومن الشمال إلى الجنوب تتحرك الأقمشة والآلات والأدوات والمعادن والملح، أي الخامات من الجنوب والمصنوعات من الشمال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق