الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الثامن

الجزء الثامن: دولة قتبان
تقع دولة قتبان -كما يروي سترابو، نقلا عن إيراتوسثينيس -في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب السبئيين وجنوبهم الغربي، وقد امتدت منازلهم حتى بلغت باب المندب، إلا أن قتبان كانت مبتعدة عن الساحل الهندي إلى الداخل، حيث كانت تقوم بينها وبين البحر مملكة "أوسان" الصغيرة، وأهم بلادها "شقرة" على ساحل المحيط الهندي، ثم تنتهي إلى إمارة عدن.
وعلى أي حال، فلقد تحدثت المصادر الكلاسيكية عن القتبانيين، فذكرهم "ثيوفراست" و"سترابو" و"بليني" وغيرهم، وأما المصادر العربية، فليس فيها شيء يستحق الذكر عن قتبان، سوى أنها موضع من نواحي عدن، وأنها بطن من رعين من حمير، ولعل السبب في ذلك هو ضعف قتبان وانضوائها تحت لواء حكومة سبأ، وذي ريدان -وهي الحكومة التي يطلق عليها المؤرخون العرب اسم "حمير" -ولأن قبيلة حمير هذه كانت أقوى القبائل اليمنية عشية ظهور الإسلام، فضلا عن أنها هي التي قاومت الأحباش، وهي التي تركت أثرًا في القصص العربي، وفي قصته أصحاب الأخدود، حتى أصبحت الحضارة الحميرية علمًا على كل شيء في بلاد اليمن قبل الإسلام، بحيث تلاشت الحضارات الصغرى التي ظهرت في اليمن في العصر الجاهلي.
وقد اختلف المؤرخون في بداية الدولة القتبانية ونهايتها، ورغم الدراسات التي قدمها العلماء المتخصصون في الدراسات العربية القديمة -ومنهم فريتز هومل ونيكولوس رود كناكيس وديتلف نلسن ووليم أولبرايت وأدولف جرومان وهاري سان جون بريدجر فلبي ومارتن هارتمان وجاكلين بيرين -فإن الخلاف ما زال قائمًا على تحديد الفترة التي حكمت فيها دولة قتبان، بخاصة وأنها قد عاصرت -كما جاء في الكتابات المعينية والسبئية- دولة معين ودولة سبأ، ومن ثم فإن تاريخ هذه الدول جميعًا مرتبط بعضها بالبعض الآخر، ومرتبط كذلك بالأبحاث والدراسات اللغوية، وكل تلك أمور لم يتفق العلماء عليها حتى الآن.
ومن هنا رأينا بعض الباحثين يرجع تاريخ قتبان إلى القرن العاشر، أو الحادي عشر ق. م، وهو التاريخ الذي قد يرجع إليه النقش المخربش الذي حل رموزه "ألبرت جام"، وهو يعتبر أقدم نص جاءنا من بلاد العرب الجنوبية، كما أن عصر هذا النقش كان فترة انتقال في تاريخ قتبان، إذ سرعان ما يظهر بعده عصر المكاربة الذين حكموا قتبان عدة قرون، وقد وصلنا أسماء عدد منهم في فترة حكمهم التي كانت فيما بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد.
على أن هناك من يرى أن دولة قتبان، إنما كانت فيما قبل عام 1000ق. م، وحتى القرن الثاني ق. م، ومن يرى أنها كانت في الفترة من "865-540ق. م"، ومن يرى أنها كانت فيما بين عام 645ق. م، والقرن الثالث ق. م، ومن يرى أنها كانت فيما بين القرن السادس ق. م، وعام 50ق. م، ومن يرى أنها في الفترة "400-50ق. م"، ومن يرى أنها فيما بين القرن الرابع ق. م، والأول الميلادي.
هذا ويذهب بعض الباحثين إلى أن نهاية دولة قتبان وتخريب عاصمتها "تمنا" "تمنع" إنما كان بين عامي 200، 24ق. م، بينما يذهب فريق آخر إلى أن ذلك إنما كان بعد الميلاد وليس قبله، فالأب "ريكمانز" يرى أنها كانت عام 207م أو 210م، بينما يرى "فون فسمان" أن ذلك إنما كان حوالي عام 140م أو 146م، وأما عن أسماء ملوك قتبان، فهناك كثير من القوائم التي قدمها العلماء ومنها قوائم فريتز هومل ورود كناكيس وكليمانت هوارت وفلبي أولبرايت.
ويحاول بعض الباحثين أن يقسم تاريخ قتبان إلى ثلاث فترات، تختلف الواحدة منها عن الأخرى، ولعل أهم حكام الفترة الأولى "يدع أب ذبيان" بن "شهر"، وقد حكم في الفترة "750-735ق. م" على رأي فلبي، وفي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، على رأي أولبرايت، وكان -في رأي الكثيرين- أول من حمل لقب "ملك" بجانب لقب "مكرب"، ولعل في هذا ما يشير إلى أنه كان في بادئ الأمر كاهنًا، ثم حمل لقب ملك، ثم اللقبين معًا، وإن اقتصر في الفترة الأخيرة من حكمه على لقب "ملك"، على أساس أنه اللقب الرسمي لحكام قتبان.
وهناك من يرجح أن "يدع أب ذبيان" هو الذي شيد المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع"، وطبقًا لنص "جلازر1600" فهو "مكرب قتبان وجميع أبناء "عم" "الإله الرسمي لقتبان" و"أوسان وكحد ودهس وتبنو"، هذا ويشير النص إلى إنشاء طريق في الجبل، أو بعبارة أخرى، ثغرة ليمر منها الطريق المار بالجبل من مكان إلى آخر، فضلا عن تجديد بيت "ود وعثتر"، إلى جانب بعض الأعمال الإنشائية الأخرى.
وهناك نص آخر يصف الملك -إلى جانب الألقاب السابقة- "بمكرب "يرفأ" أو "يرفع" وأبناء الجنوب والشمال"، وإن كنا لا ندري شيئًا عن صلة هذه القبائل، غير القتبانية، بالملك القتباني، أكانوا تابعين له في تلك الأيام؟ ومن ثم فقد اشتركوا في إنشاء الطريق الجبلي الآنف الذكر -الذي ربما كان للنص به صلة- أم أن هذه القبائل كانت ذات مصلحة فيه، ومن ثم فقد شاركت في إنشائه، إن الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة لا تزال في ضمير الغيب، وعلى أي حال، فإننا أمام عمل هندسي يستحق التقدير، كما يدل على فن هندسي راق عند القتبانيين.
هذا ويرجح بعض الباحثين أن "يدع أب ذبيان" قد شن عدة حروب كتب له فيها نصرًا مؤزرًا، ومن ثم فقد مد حدوده إلى أوسان ومراد، وحتى حدود سبأ، ولعل هذا يفسر لنا اهتمامه بإنشاء الطرق التي تربط بين أطراف مملكته، ومن أشهرها الطريق المعروف باسم "مبلقة"، ولم تكن هذه الطرق في الأرض السهلة، وإنما كانت في المرتفعات والجبال، ولعل الذي دفعه إلى ذلك عدة عوامل، منها:
"أولًا" أن الطرق الممتدة في السهول هدف سهل للأعداء، وأن جنوده قد يجدون صعوبة في الدفاع عن أنفسهم، إذا ما هاجمتهم قوات غازية.
"ثانيًا" أن الطرق الجبلية وإن كانت صعبة فهي أقصر من طرق السهول، ثم إن الدفاع عنها، لا شك أسهل من الأخرى، فهي إذًا أكثر أمنًا، كما أنها في أرضين تابعة له.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك وثيقة على جانب كبير من الأهمية ترجع إلى عهد هذا الملك "يدع أب ذبيان" لأنها تتصل بأصول التشريع وكيفية إصدار القوانين عند العرب الجنوبيين في العصور القديمة، فمنها نعرف أن الملك وحده هو الذي يملك حق إصدار القوانين ونشرها، ثم الأمر بتنفيذها، وأن مجلس الشعب "ويدعونه "المزود" -ويتكون من رؤساء المدن والقبائل والشعاب -هو الذي يقترح القوانين ويضع مسودات اللوائح، ثم يعرضها على الملك لإقرارها والأمر بتنفيذها.
ولعلنا نستطيع أن نستنتج من ذلك كله، أن قتبان قد عرفت نظامًا يتكون من مجالس تمثل الشعب تمثيلا نيابيًّا، فقد كان يوجد مجلس قبلي، إلى جانب العرش، كما كانت هذه المجالس تمثل القبائل المختلفة في الهيئات التشريعية المتعددة، كما كانت إدارة البلاد بيدها، وربما كان المجلس يعقد جلساته مرتين في العام، وفي عاصمة الدولة، وبدعوة من الملك، ثم تصدر القوانين بعد ذلك باسم الملك، ويبدو أن هذه المجالس كانت تجتمع عندما يظهر في الجو أسباب سياسية تتصل بسياسة البلاد الخارجية، أو عند الرغبة في إدخال تغيير شامل على النظام الاقتصادي للدولة.
هذا وهناك نوع آخر من المجالس، هو المجلس الاستشاري، ويتكون من الملك ومن الأشراف أصحاب الأملاك "مسود أو مزود"، ومن طائفتين أخريين لا يمكن تحديدهما بالضبط، وقد يمثلان أصحاب الأملاك أو الموظفين، ولهذا المجلس الاستشاري حق إصدار القوانين باسم الملك، فضلا عن العمل بالقوانين القديمة، وتنظيم استخدامها، كما كان من حقه أن يحل مجلس القبائل، وأن يصدر أوامر العفو -كليًّا أو جزئيًّا- عن المحكوم عليهم.
ولعل هذا كله يدل على أن الملك والمجلس الاستشاري ومجلس القبائل، تكون جميعها الحكومة، وأنه ليست هناك هيئة خاصة بالتشريع، وأخرى للإدارة، وثالثة للقضاة، مستقلة عن بعضها -على الأقل فيما يتصل بالأمور المالية للدولة- أما فيما يتعلق بمعرفة الفترة التي كان هذا النظام مستعملا فيها، أو الحالات العديدة التي كان يطبق فيها، فهذا ما لا نعرفه، ولا نستطيع الحكم عليه من النصوص التي تحت أيدينا.
وأما الفترة الثانية من تاريخ قتبان، والتي استمرت زهاء قرن من الزمان "350-250ق. م" فقد كان أول ملوكها "أب شبم" ثم ابنه "شهر غيلان"، الذي ترك لنا كثيرًا من النصوص، وجد بعضها في المدخل الثاني لمدينة "تمنع" هذا إلى جانب كتابة أخرى دونت عند تجديد إحدى العمارات وإنشاء برج، فضلا عن الكتابة المعروفة بـ "جلازر 1601" والتي تتحدث عن جمع ضرائب من قبيلة "كحد" النازلة في "دتنه"، وقد جاء فيها أن رئيس القبيلة هو المسؤل عن جمع الضرائب، والتي تساوي "عشر كل ربح صافي، وكل ربح من التزام أو من بيع أو من إرث"، كما تتحدث عن توريدها لخزانة الدولة في نهاية كل عام، فضلا عن ضرائب المعابد، والتي تسمى "عصم"، وهي لفظة -يروى رود كناكيس- أنها تطلق على كل ما يسمى للآلهة أو المعابد من ضريبة مقررة، أو نذر، أو صدقة.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن إدارة المعابد، إنما كانت تتركز في العاصمة القتبانية، وأنها قد تركت أثرًا بعيدًا في استغلال أراضي الدولة، وفي الحصول على جزء من دخلها، وأن الدولة نفسها قد منحت إدارة المعابد هذا الحق، مجاملة منها لهذه المراكز الدينية التي انتشرت كذلك في خارج العاصمة، وقد كانت القبائل مطالبة بأن تدفع للمعابد عشر الدخل والميراث والمشتريات، إلى جانب ضريبة أخرى كانت تقدم للمعبد كهبة.
هذا وقد كان أفراد طائفة المعبد يسمون "المطعمون على يد عم" "وعم هو كبير آلهة قتبان" بسبب اتصالهم بكبار رجال الدين في قتبان، وهم الذين كان القوم يعتقدون أن الله قد فوضهم في إدارة أراضيه الدنيوية، وهكذا قامت الجماعة المعروفة باسم "المطعَمُون من الله"، وهي جماعة خاصة بالمعبد، وتعيش على نفقة الدولة، مما جعلها في مركز يساعدها على المطالبة بالأراضي للمعبد ودخلها، بدعوى أن هذا الدخل لله سيد الأرض.
هذا وقد نال "معبد بيجان" عناية خاصة من "شهر غيلان"، ومن ثم نراه يأمر بتجديد أقسامه القديمة، وبناء أقسام جديدة فيه، ونعرف من نقش "ريكمانز 216" أن "شهر غيلان" قد انتصر على حضرموت، وأنه تخليدًا لذكرى هذا النصر فقد أقام معبدًا للإله "عثثر" في "ذبحان" "بيجان" القصب الحالية، عند جبل ريدان، حيث ما تزال حتى الآن توجد خرائب واسعة تدل على أنها كانت مدينة، أو على الأقل قرية كبيرة، وأما زمن "شهر غيلان" هذا، فقد كان في أخريات القرن الرابع ق. م، فيما يرى "فيسمان"، وفي القرن السادس ق. م، فيما يرى "جون فلبي".
ولعل من أشهر ملوك هذه الفترة "شهر يجيل"، وقد جاء اسمه في نقش "جلازر 1602"، وهو عبارة عن مرسوم ملكي يحدد كيفية جمع الضرائب من "طائفة معبد الإله عم في أرض "لبخ"، ويظهر من هذا المصطلح أن العرب الجنوبيين كانوا يؤلفون طوائف تنتمي إلى إله من الآلهة تتسمى به وتقيم حول معبده، وربما كانت تتعاون فيما بينها في استغلال الأرض لخير الطائفة بأسرها، وكانت الطائفة تقدم حقوق الحكومة إلى الجباة الذين يجبون تلك الحقوق، فيقدمونها إلى "الكبير" "أي نائب الملك"، ليقدمها بدوره إلى الملك.
ويرى "أولبرايت" أن "شهر يجيل" قد حكم حوالي عام 300ق. م، وأنه قد تغلب على دولة معين، وأخضعها لسلطانه، ثم خلفه أخوه "شهر هلل يهنعم" وهو الذي أقام المسلة التي عثر عليها في مدينة "تمنع"، وبوفاته انتهت الأسرة القتبانية الثانية، وتناوب عرش البلاد عدد من الملوك لم نستطع حتى الآن تعيين أزمنتهم أو ترتيبهم بصفة نهائية، وكان آخرهم "يدع أب غيلان"، وقد بنى في عهده "بيت يفش"، كما أنشئت، أو على الأقل جددت، مدينة دغيلان "غيلان" عند معبد "عم ذى لبخ" في موضع "ذغيلم"، وأن هناك اتجاهًا يرجح أن ذلك إنما كان في القرن الثاني ق. م.
وأما الفترة الثالثة "150-25ق. م" فأول ملوكها "هوف عم يهنعم" والذي حكم حوالي عام 150ق. م، على رأي أولبرايت، ثم جاء من بعده "شهر يجل يهرجب" الذي أعاد بناء المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع"، كما جدد كذلك بناء "بيت يفش"، وقد حكم بعد عام 150ق. م، بقليل، على رأي أولبرايت اعتمادًا على تمثالين لأسدين عثر عليهما في خرائب "تمنع"، وعليهما كتابة قتبانية، جاء فيها اسم صانعهما "ثويبم"، الذي ذكر في كتابة أخرى من نفس العهد، وقد استنتج "أولبرايت" أن التمثالين من عهد "شهر يجل يهرجب"، وأنهما صنعا على الطرز اليونانية في فترة لا تبعد كثيرًا عن القرن الثاني ق. م، ومن ثم فإن هذا الملك قد حكم حوالي عام 150ق. م.
وهناك ما يشير إلى أن قتبان في عهد "شهر يجل يهرجب" كان لها نفوذ من نوع ما على "معين"، وإن كان العلماء مختلفين على طبيعية هذا النفوذ، أهو خضوع من جانب معين لقتبان؟ أم أنه نوع من التحالف بين الدولتين، كانت فيه قتبان صاحبة اليد العليا4؟ وأما ابنه "وروإل غيلان يهنعم"، فقد نسب إليه أنه أول من صك نقودًا ذهبية عثر عليها مضروبة في مدينة "حريب" كما أن هناك ما يشير إلى أنه ساعد قبيلة "ذو هربت" في مدينة "شوم" على بناء حصن "يخضر".
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك نصًّا، يرجع إلى عهد الملك هذا، صاحبته امرأة تدعى "برت" تذكر فيه أنها قدمت إلى "ذات حميم عثتر بعل" تمثالا من ذهب في صورة امرأة، تقربًا إلى الآلهة ووفاء لما في ذمتها للإله "عم ذربحو" ويبدو أن المرأة كانت كاهنة لمعبد الإله "عم" في "ريمت"، فإذا كان ذلك كذلك، فنحن أمام امرأة كاهنة، ومن ثم فإننا نستطيع القول أن المرأة في تلك الفترة من تاريخ قتبان قد وصلت إلى منصب الكهانة.
وهناك نقش عثر عليه في "تمنع" "تمنا-تمنة" جاء فيه اسم ملك يدعى "شهر هلال بن ذر أكرب"، يرى فيه بعض الباحثين "شهر هلال يهقبض" بن "ذر أكرب" الذي حدد "أولبرايت" مكانه في نهاية الأسرة، وأما النص فيقول "قانون أصدره شهر هلال بن ذر أكرب ملك قتبان، لشعب قتبان وذي علش ومعين وذي عثم أصحاب أرض شدو"، وقد نظم هذا القانون واجبات هذه الشعوب الأربعة في كيفية استغلال الأراضي، وعين الأعمال المترتبة عليها، وأنذر المخالفين بأشد العقوبات، فضلا عن الإشارة إلى الموظف الموكل إليه تنفيذ هذا القانون، ولعل هذا كله يفيد أن هذه الشعوب الأربعة التي جاء ذكرها في القانون، إنما كانت خاضعة لقتبان.
ويرى "رود كناكيس" أن هذا النقش إنما يدل على أن معين إنما كانت خاضعة وقت ذاك لقتبان، كما كانت كذلك على أيام "شهر يجل يهرجب"، وإن كان ذلك لا يعني أن معين قد فقدت استقلالها تمامًا، كما يذهب "رود كناكيس" كذلك إلى أن هذا النص إنما هو أقدم من نص "هاليفي 504"، ومن ثم فإن "شهر هلال" هذا أقدم من "شهر يجل يهرجب".
والواقع أن ما ذهب إليه "رود كناكيس" ربما كان أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه "أولبرايت"، بخاصة وأن الأخير قد ختم قائمة ملوك قتبان بالملك "شهر هلال"، مشيرًا إلى الدمار الذي حل بالعاصمة، وإلى سقوط حكومة قتبان، وليس من المقبول أن يكون ملكًا له كل هذا النفوذ على شعوب أخرى، ثم تسقط دولته فجأة، ذلك لأن سقوط الدول إنما هو دليل على ضعفها وانهيارها، وليس في هذا النص إشارة إلى شيء من ذلك.
وعلى أي حال، فهناك من يميل إلى أن عصر قتبان الذهبي إنما كان في الفترة "350-50ق. م"، إذ تشير نصوص هذا العصر إلى أن قتبان كانت وقت ذاك أهم دول العربية الجنوبية، وأنها قد أخضعت لسلطانها كلا من معين وسبأ، لكن حدث قبيل الميلاد أن غزا شعبٌ غير معروف على وجه التأكيد عاصمة قتبان وأحرقها، ثم ظهرت بعد ذلك مملكة سبأ وذي ريدان، على أنقاض كل من قتبان وسبأ ومعين.
وهكذا يميل الباحثون إلى أن السبئيين هم الذين قضوا على دولة قتبان، وإن اختلفوا في الوقت الذي حدث فيه ذلك، فبينما يرى "فلبي" أن ذلك كان في عام 540ق. م، يذهب "أولبرايت" إلى أنه كان في عام 50ق. م، على أن آخرين يرونه في عام 10م، بل إن هناك فريقًا رابعًا يراه فيما بين عامي 100، 106م.
على أن الشيء الجدير بالملاحظة هنا أن دولة "سبأ وذي ريدان"، لم تكن الوريثة الوحية لقتبان، فقد شاركتها في الغنيمة "حضرموت" التي ضمت إليها جزءًا من قتبان، وبذا استطاعت حضرموت منافسة "سبأ وذي ريدان" فترة امتدت حتى أخريات القرن الأول الميلادي، هذا ويجب الإشارة هنا إلى أن قتبان لم تفقد استقلالها نهائيًّا، كما أن الشعب القتباني لم يزل من الوجود أو يختفي اسمه تمامًا، ذلك لأننا نرى "بطليموس الجغرافي" يذكرهم بين الشعوب التي تقطن بلاد العرب، وقد دعاهم "Kattabanoi Kottabani".
هذا وقد عثرت البعثة الأمريكية في مأرب على نقش جاء فيه أن الملك "نبط" ملك قتبان، كان معاصرًا لملك سبأ، ويضعه "أولبرايت" في القرن الأول الميلادي، والملك "نبط" هذا هو نفسه الملك "نبط بن شهر هلال" الذي جاء ذكره مع ابنه "مرثد" كملك لقتبان في نقش عثر عليه في "هجر بن حميد" عام 1951م، ويبدو أن ملوكا، قتبانيين استطاعوا الحفاظ على الجزء الغربي من قتبان بعد سقوط "تمنع"، متخذين من "حريب" مقرًّا لهم، بينما اكتفى الحضارمة بالاستيلاء على جزء من شرقي البلاد، وأن ذلك قد حدث فيما بين عامي 25ق. م، والعام الأول الميلادي.
ويرى "فون فيسمان" أن نقش "جام 629" والذي يتحدث عن حرب وقعت على مقربة من "وعلان" واشتركت فيها عدة أطراف، إنما قد حدثت في عهد الملك "نبط عم" ملك قتبان، وأن أصحاب هذا النقش إنما يذكرون أنهم قد حاربوا ضد ملك حضرموت وجيشها، وضد "نبطم" ملك قتبان وآخرين، وأن النصر كان حليفهم، ويحاول "فون فيسمان" أن يستنتج من عدم وجود كلمة "هجرن" بمعنى مدينة قبل اسم "تمنع" من أنها لم تكن وقت ذاك عاصمة قتبان، وإنما كانت موضعًا صغيرًا، أو اسم أرض فحسب، كما أن "نبط عم" وإن كان قد لقب هنا بملك قتبان، إلا أنه لم يكن في الواقع إلا تابعًا لملك حضرموت، وأخيرًا فإنه يؤرخ لهذه الحرب بالفترة ما بين عامي 120-140م.
وليس من شك في أن "تمنع" "تمنا=تمنة" هي أهم مدن قتبان، وقد عرفت في كتابات الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان باسم Thumna Thomna, Tamna كما أن "أوليري" يذهب إلى أن المدينة التي جاءت في جغرافية بطليموس تحت اسم "Thouma" إنما هي "تمنة"1، وقد وصف "بليني" مدينة "Thomna" بأنها من أكبر المدن في العربية الجنوبية، وأن بها "65 معبدًا"، وأن المسافة بينها وبين "غزة" 4436 ميلا، تقطعها الإبل في 65 يومًا على وجه التقريب، وليست هذه المدينة سوى "تمنة" قتبان.
وتقع "تمنع" في وادي بيجان في منطقة تدل آثار الري فيها على أنها كانت خصبة كثيرة المياه والبساتين، وقد أثبتت أعمال الحفر التي قامت بها البعثة الأمريكية، تحت رياسة "وندل فيلبس"، أن موقع "تمنة" القديم، إنما هو في مكان خرائب كحلان "هجر كحلان الحالية" وأن المدينة قد خربت بسبب حريق هائل، ربما أتى على المدينة، كلها، وأن هذا الحريق ربما كان بأيدي السبئيين إبان الحروب التي استعر أوارها بينهم وبين القتبانيين، كما أثبتت الحفائر أن "تمنة" قد جددت عدة مرات، وأن مقابرها كثيرًا ما انتهكت حرماتها، سواء أكان ذلك في الأيام الغابرة، أو في العصر الحديث، وأخيرًا فقد كشفت الحفائر في منطقة "تمنع" عن شبكة كاملة من السدود تتصل بها قنوات وصهاريج لتوفير مياه الري لرقعة واسعة من البلاد.
ومن مدن قتبان الهامة كذلك "شور"، "شوم" و"يرم"، وكذا "حريب" التي ذكرها الهمداني، والتي اشتهرت بالنقود التي ضربت فيها، وحملها اسمها، كما أنها كانت عاصمة قتبان في أخريات أيامها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق