الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السادس عشر

الجزء السادس عشر: الغساسنة
في أثناء الفترة التي كانت فيها دولة تدمر تتوارى في الظلام، بعيدا عن المسرح السياسي والحضاري، كان بدو شبه الجزيرة العربية يمتلئون بقوة جديدة، فالظروف الاقتصادية التي أحاطت باليمن، من انهيار سد مأرب، ثم حدوث سيل العرم، وغيره من أحداث أدت إلى اضمحلال دولة حمير اليمنية، كل ذلك وغيره كان سببا في أن تهاجر قبائل بأسرها من جنوب بلاد العرب إلى شمالها، بحثا عن أرض جديدة.
وكانت النتيجة الأخيرة لهذه الحركة أن ذاق الفرس والروم مر العذاب من هجرة الأعراب وغزواتهم، فأنشئوا على أطراف الصحراء الحصون ومدوا الطرق العسكرية ليأمنوا غارات قبائل البدو، وليسهلوا طرق التجارة، واتخذ الفرس قبائل من العرب عرفوا باللخميين أو المناذرة، كما اتخذ الرومان أولا قبائل من بني سليح، ثم قبائل من بني غسان أعوانا لهم.
وهكذا جاءت عقب البتراء وتدمر دويلتان جديدتان على أطراف الصحراء، ففي القرن الخامس والسادس الميلادي، ازدهرت حول دمشق مملكة الغساسنة، وفي نفس الوقت ازدهرت دويلة اللخميين في الحيرة بالقرب من ضفاف الفرات، وكانت هاتان الدويلتان تابعتين لإمبراطوريتي بيزنطة وفارس- وكانتا بمثابة مركزي حراسة لهما على حدود الصحراء، وقد نتج عن هذه السياسة التي سارت عليها الإمبراطوريتان القديمتان دوام الحرب بين دولتي المناذرة والغساسنة -وهما أبناء عم ومن دم واحد- ولكنهما اضمحلتا واختفتا قبيل الفتح الإسلامي العظيم، تاركتين الإمبراطوريتين وجها لوجه مع الهداة الجدد، حملة لواء الإسلام، وهداية القرآن، وسنة المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا قامت دولة الغساسنة للروم، مقابل دولة المناذرة للفرس، بمعنى أنها كانت دولة حاجزة "Buffer State" اتخذ منها الروم مجنا يقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة، وليثيروهم ضد الفرس ويستعينوا بهم عليهم من جهة أخرى، هذا إلى أن المناذرة إنما كانوا يجمعون الضرائب من القبائل العربية القريبة منهم، ويقدمونها للفرس، كما كان الغساسنة يجمعون مثل هذه الضرائب للروم.
وتاريخ دولة الغساسنة هذه غامض لقلة المصادر، ولامتزاج الحقائق فيه بالأساطير، ولضياع معظم آثار بني غسان، ومن ثم فلا تتفق المصادر العربية مع اليونانية إلا في النذر اليسير، بل إن المؤرخين العرب أنفسهم إنما يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم وسني حكمهم، فهم عند "حمزة الأصفهاني" 32 ملكا، وعند "أبي الفداء" 31 ملكا، وعند المسعودي وابن قتيبة إنما هم أحد عشر فقط، وأما "نولدكه" فالرأي عنده أن عددهم لا يتجاوز العشرة، وأنهم حكموا في الفترة "500-635م"، بل إن "هرشفلد" ليحددهم بسبعة فقط، ويرى "جرجي زيدان" أنهم سبعة عشر وأنهم حكموا في الفترة "220-633م".
ولعل السبب في هذا الاختلاف إنما هو اختلاط أخبار آل غسان بالقبائل العربية التي سبقتهم إلى سورية، ودانت بالنصرانية، وخضعت لحكم الرومان، كما أن من أسبابه أيضا اقتصار مؤرخي العرب على الناحية الأدبية من تاريخ الغساسنة، وإهمال تاريخهم السياسي، بالطريقة التي أهملوا بها تاريخ اليونان والرومان، أضف إلى ذلك هذا التشابه في الأسماء بين حارث ومنذر ونعمان، واختلاط ذلك أيضا بالتشابه والتقارب مع أسماء ملوك المناذرة.
أضف إلى ذلك أن هذا الاختلاط أو الخلاف بين مؤرخي العرب على عدد ملوك آل غسان، إنما هو دليل على ما يحيط بأسرة "آل جفنة" من غموض، وفي الواقع أن تاريخ الأسرة بكامله غامض، حتى أصل الأسرة نفسها، فالمؤرخون العرب يرون أن الغساسنة -وكذا المناذرة- إنما ويرجحون أنهم من عرب الشمال، لأسباب، المحدثين ما يزالون في ريب من هذا، ويرجحون أنهم من عرب الشمال، لأسباب، منها:
"أولا" أن لغة الغساسنة -وكذا المناذرة- إنما هي لغة عدنانية، أكثر منها قحطانية، بل إنها لا تمت إلى الحميرية الجنوبية بصلة.
"ثانيا" أن أسماءهم إنما تشبه في مجموعها أسماء عرب الشمال، وكذا العادات والذين، والتي هي أكثر انطباقا على عادات وديانة عرب الشمال.
وأيا ما كان الأمر، فإن الرواية العربية- كما أشرنا من قبل- تذهب إلى أنهم قد هاجروا من اليمن واستوطنوا أرض حوران حيث كان هناك قوم يعرفون "بالضجاعمة" من قبائل بني سليح بن حلوان من قضاعة، قد استقروا هناك، ورضخوا لحكم الرومان ودانوا بالنصرانية من قبل مجئ بني غسان، ثم اعترفت الدولة البيزنطية بهم ووضعتهم تحت حمايتها، واتخذتهم أعوانا لها ضد المناذرة والفرس، وكان ذلك في زمن الأمبراطور "أنستاسيوس" حوالي آخر القرن الخامس الميلادي، ومن ثم كانوا أول من شيد ملكا للعرب هناك.
وأما الغساسنة، فقد استقروا في نواحي الجنوب الشرقي من دمشق، على مقربة من الطرف الشمالي لطريق النقل الهام الذي كان يربط بين "مأرب" في الجنوب، و"دمشق" في الشمال، وأما متى حدثت هجرة الغساسنة -وكذا المناذرة- من اليمن إلى الشام، فذلك موضع خلاف بين العلماء، صحيح أن الروايات العربية تحدد ذلك بانهيار سد مأرب، ثم حدوث سيل العرم، ولكن صحيح كذلك أن سد مأرب إنما انهار عدة مرات خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده -لأول مرة- في منتصف القرن السابع قبل الميلاد- وربما الثامن كذلك- وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543م على أيام أبرهة الحبشي، إذ أن هناك عدة إشارات في النصوص العربية الجنوبية إلى تهدم السد وإصلاح، ومن ثم فلا ندري على وجه التحديد في أي وقت من هذه الفترة -التي ربما تزيد على اثني عشر قرنا- قد حدثت هذه الهجرة، وأما الروايات العربية، فبعضها يذهب إلى أن ذلك إنما كان قبل الإسلام بأربعة قرون، وبعضها يرى أن ذلك إنما كان على أيام الحبشة، وبعضها يرى ذلك في القرن الخامس الميلادي، على أيام "حسان بن تبان أسعد"، وأخيرا فإن هناك روايات ترى أن ذلك إنما كان في القرن الرابع الميلادي.
وعلى أي حال، فما أن يمضي حين من الدهر على هجرة الغساسنة إلى الشام، حتى تبدأ الخلافات بينهم وبين الضجاعمة وينتهي الأمر بغلبة بني غسان على بني سليح، وإن لم يقضوا عليهم نهائيا، ومن ثم فقد بقوا -كما يرى نولدكه- في مواضع أخرى من الشام إلى زمن متأخر، بدليل أن النابغة الذبياني قد زار أحدهم في "بصرى"، وأن جماعة منهم قد حاربوا خالد بن الوليد في دومة الجندل تحت قيادة "ابن الحدرجان" وفي "قصم".
ويروي الأخباريون أن الغساسنة إنما يسمون بعدة أسماء، منها "أزدغسان"، ويذهبون إلى أن "أزد" إنما هو اسم قبيلة، وأما "غسان" فهو اسم ماء في تهامة، نزل القوم عليه وشربوا منه، ومن ثم فقد عرفوا بأزدغسان، وعرف نسلهم بالغساسنة، ويسمون كذلك "آل ثعلبة" نسبة إلى جد لهم يعرف باسم "ثعلبة ابن مازن"، كما يسمون كذلك "آل جفنة" و"أولا جفنة"، لأن أول ملوكهم إنما كان يسمى "جفنة بن عمرو مزيقياء".
وأما العاصمة السياسية لآل جفنة، فيبدو أنها كانت في البدء مخيما متنقلا، ثم استقرت بعد ذلك في "الجابية" في منطقة الجولان جنوب غربي دمشق، كما كانت في بعض الوقت في "جلق" في جنوب حوران- والتي ربما كانت "الكسوة" الحالية، على مبعدة عشرة أميال جنوبي دمشق- وأما ديارهم، فكانت "الكسوة" الحالية، على مبعدة عشرة أميال جنوبي دمشق- وأما ديارهم، فكانت -طبقا لبعض الروايات العربية- في اليرموك والجولان وغيرهما من غوطة دمشق وأعمالها، وأن منهم من نزل الأرن من أرض الشام، وعلى أي فلقد امتدت دولتهم حتى شملت الجولان وحوران والبقاء، وأحيانا فينيقيا، فضلا عن أعراب سورية وفلسطين6.
وعلى أي حال، فليس هناك من دليل على أن الغساسنة، قد ملكوا المدن الكبيرة في الشام كتدمر وبصرى ودمشق، إذ أن هذه كانت محصنة، تتمركز فيها الحامية البيزنطية، ولكنهم كانوا يعتمدون على الصحراء، إذا داهمهم الخطر، فكانت تغنيهم عن المدن المحصنة، ومن ثم فقد كانت معظم حروبهم تدور على أطراف البادية، وإليها التجأوا عندما خلعوا سلطان الإمبرطور وثاروا عليه في عند "النعمان بن المنذر"، ولهذا فقد كان الروم يقيمون عمالا صغار بجانب ملوك غسان، حفاظا على التوازن الساسي، وإبقاء لسلطان الدولة في الأوقات العصبية، طبقا لسياسة "فرق تسد".
ملوك الغساسنة:
لعل "الحارث بن جبلة" "528-569م"، والمعروف بالأعرج، وبالحارث الأكبر، أول أمراء بني جفنة الذين يمكن الاطمئنان إلى وجودهم، وهو في نظر "نولدكه" اريتاس "Aretas" الذي ذكره المؤرخ السرياني "ملالا" على أنه كان عاملا للروم، وقد عاصر الرجل من أباطرة الروم "جستنيان" "527-565م"، ومن أكاسرة الفرس "قباذ" "448-531م" و"كسرى أنوشروان" "531-579م"، ومن أمراء الحيرة "المنذر الثالث" "521-554م".
وهناك ما يشير إلى نشوب حرب بين الحارث والمنذر الثالث، ربما بسبب بالعداوة التي انتقلت إليهم من العداوة التي كانت الفرس والروم، وربما لأن أمير الحيرة اعدى أن القبائل العربية النازلة فيما بين دمشق وتدمر، إنما تخضع لسلطانه، فنازعه الأمير الغساني هذا السلطان، وأيا ما كان السبب، فإن الرجلين قد اشتبكا في أبريل من عام 528م في حرب كتب النصر فيها للحارث الغساني، ومن ثم فقد منحه "جستنيان" لقب "ملك"- وهو لقب لم يمنحه الروم لواحد من عمالهم في سورية من قبل -كما بسط سلطانه على قبائل عربية متعددة، بغية أن يجعل منه خصما قويا لأمير الحيرة، إلا أن المنذر لم يرعو مع ذلك عن غزو حدود الشام الشرقية، حتى بلغ أسوار أنطاكية، وإن أجبره ظهور القوات الرومانية على العودة إلى بلاده قبل أن يشتبك معها.
على أن "نولدكه" إنما يرى أن "جستنيان" لم يمنح الحارث بن جبلة لقب "ملك" فذلك لقب كان مقصورا على أباطرة الروم، وإنما منحه في عام 529م، لقب "بطريق" "Patricius" أو لقب "شيخ قبيلة" "فيلارخ Phiarch" ثم ترجم العرب -وكذا السريان- هذا اللقب بمعنى "ملك"، هذا ونعرف من نقش "جلازر 618"2 أن أبرهة الحبشي لم يسبغ على الحارث بن جبلة في هذا النقش لقب ملك، مما يدل على أن الرجل لم يكن يحمل لقب "ملك" بصفة رسمية، وأن الملوك من تلك الفترة لم يكونوا يعدونه واحدا منهم، وعلى أية حال، فإن الحارث بن جبلة كان أول أمراء بني غسان الذين حملوا اللقبين "بطريق وفيلارخ" معا، ثم توارثهما الأبناء عن الآباء فيما بعد.
هذا ويرى "ملالا" أن الحارث قد أخمد ثورة في فلسطين قام بها السامريون في عام 529م، وهم من بقايا الإسرائيليين الذين بقوا في السامرة -عاصمة إسرائيل- بعد الأسر الأشوري في عام 722ق. م، ثم اختلطوا بالمهجرين الجدد الذين أتى بهم سرجون الثاني "722-705ق. م"، من بلاد بعيدة، ومن ثم فقد ظهر جنس جديد، هم السامريون، الذين يختلفون عن اليهود دما، وإن كانوا أقرب إليهم من غيرهم ثقافة ودينا، غير أنهم رغم اتفاقهم مع اليهود في عبادة "يهوه"، إلا أن شقاقا قد حدث بين الفريقين حوالي عام 432ق. م، بعد عودة "عزرا" و"نحميا" من السبي البابلي، بسبب النقاوة العنصرية لليهود، ومن ثم فقد أصبح السامريون يتخذون من "جرزيم"- وليس أورشليم- مكانا مقدسا لهم، وأن التوراة المعترف بها في نظرهم، إنما هي الأسفار الخمسة الأولى دون سواها، وإن أضافوا إليها في بعض الأحايين سفر يشوع، ومن ثم فإن كتابهم المقدس إنما يتكون من ستة أسفار فقط "التكوين، الخروج، اللاويين، العدد التثنية، يشوع".
وعلى أي حال، ففي 19 من أبريل عام 531م، تنشب معركة حامية الوطيس بين الفرس والروم، يشترك فيها الحارث بن جبلة إلى جانب الروم تحت قيادة "بليزاريوس"، وتنتهي بنصر للفرس وهزيمة للروم، وبإلقاء ظلال من شك في إخلاص الحارث للروم، ولعل السبب في ذلك أن الحارث لم يكد يعبر الدجلة حتى ارتد إلى مواقعة السابقة عن طريق غير التي سلكها معظم الجيش، وربما أنف الرجل أن يعمل تحت قيادة بيزنطي، وربما كان يفضل أن يعمل بمفرده، وربما كان السبب خلافا بين الرجلين على أمر ما.
وفي عام 544م، تتجدد المعارك بين الحارث والمنذر، وينتهي القتال بهزيمة الأمير الغساني وأسر أحد أولاده، الذي قدمه المنذر قربانا للإلهة العزى، وفي عام 545م "أو 546م" ترفرف رايات السلام على المعسكرين المتنافسين -الفرس والروم- ولكن الأمر كان جد مختلف بالنسبة لحلفائهما من المناذرة والغساسنة، إذ سرعان ما يتجدد القتال بينهما، وهناك، وعلى مقربة من "قنسرين" تنشب بين المنذر والحارث معركة رهيبة في عام 554م، تنتهي بقتل المنذر نفسه، فضلا عن ابن للحارث يدعى "جبلة" دفنه أبوه في قلعة "عين عوداجة" على مقربة من قنسرين -وربما كانت "عذبة" الحالية على مقربة من الطريق الروماني- على أن "نولدكه" إنما يرى أن الموقعة قد حدثت بالقرب من "الحيار" ربما اعتمادا على رواية عربية تجعل موت المنذر في هذا المكان قريبا من "قنسرين".
ولعل هذه المعركة هي التي عرفت في أخبار العرب بـ"يوم حليمة"؛ ذلك لأن حليمة بنت الحارث هذه -طبقا للرواية العربية- كانت تحرض الرجال على القتال، أو لأن أباها قد أعلن أنها سوف تكون زوجة لمن يقتل المنذر، أو لأنها كانت قد أقبلت على مائة من المحاربين تطيب أجسامهم وتلبسهم الأكفان والدروع، وأيا ما كان الأمر، فهناك ما يشير إلى شهرة هذا اليوم من بين أيام العرب في الجاهلية، فقد جاء ذكره في شعر النابغة الذبياني، كما جاء في الأمثال، "ما يوم حليمة بسر"، وإن كان "نولدكه" إنما يذهب إلى أن "حليمة" هذا، إنما هو اسم مكان، وليس اسما لامرأة، هي ابنة الحارث -طبقا لرواية الأخباريين- كما أنه لا يفرق بين المواضع والمعارك التي دارت في "الحيار" و"ذات الخيار" و"يوم الحيارين"، التي ترددت في كتب التاريخ والشعر العربي، كما أنه يرى أنها جميعا، إنما تشير إلى معركة واحدة، لقي المنذر فيها حتفه.
وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى أن الحارث قد اعتنق النصرانية على المذهب "المونوفيزي" القائل بوجود طبيعة واحدة للسيد المسيح، وليس طبيعتين -الواحدة إلهية، والأخرى بشرية- ومن ثم فقد سعى في عام 542/ 543م، لدى الإمبراطورة "ثيودورة" زوج الإمبراطور جستنيان "527-565م" لتعيين يعقوب البرادعي، مؤسس الكنيسة السورية اليعقوبية ورفيقه "ثيودوروس" أسقفين في المقاطعة العربية السورية على رأي، وفي أثناء رحلته إلى القسطنطينية في عام 563م، على رأي آخر. وأيا ما كان الأمر، فلقد عمل الحارث على نشر المذهب المونوفيزي في دويلته، وأصبحت "بصرى" عاصمة دينية للمنطقة، وذلك على الرغم من أن الإمبراطورية الرومانية كانت تنظر إلى هذا المذهب المسيحي نظرة شك وريبة، ومن ثم فقد كان هذا سببا في أن ينظر الإمبراطور إلى الحارث نفسه، نظرة الشك ذاتها، وزاد النار اشتعالا بطارقة القسطنطينة الذين كانوا يكرهون المذهب اليعقوبي، ويعتبرونه نوعا من الهرطقة الدينية.
ومهما يكن من أمر، فلقد وصلت دولة الغساسنة وقت ذاك إلى ذروة اتساعها، فقد كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر، وتشمل البلقاء والصفا وحران، وأصبحت "بصرى" التي بنيت "كاتدارئيتها" في عام 512م العاصمة الدينية في المنطقة، فضلا عن شهرتها كمركز تجاري مهم.
وفي عام 563م، زار الحارث جستنيان في القسطنطينية، فترك أثرا عميقا في نفوس رجال البلاط الإمبراطوري، كشيخ عربي مهيب، وإن لم يقابل بما يجب أن يقابل به الأبطال من مظاهر الحفاوة والتكريم، بسبب الخلافات المذهبية، ولعل السبب في هذه الزيارة، إنما كان مفاوضة الرومان فيمن يخلفه من أولاده، فضلا عن الاتفاق على السياسة التي يجب اتخاذها إزاء "عمرو بن المنذر".
وجاء بعد الحارث ولده المنذر "569-581م، أو 570-582م"، وهو المعروف بـ "Aiamoundaroes"  عند اليونان والسريان، وبالمنذر الأكبر عند "حمزة الأصفهاني"، وقد نهج نهج أبيه في معاداة اللخميين أتباع الفرس، وإن كان أكبر الظن أن ملك الحيرة "قابوس بن هند" هوالبادئ بالحرب، وهكذا دارت رحى الحرب بين الفريقين عند "عين أباغ" في مايو من عام 570م، كتب النصر فيها للمنذر الغساني، ولقي اللخميون هزيمة نكراء.
وما أن يمضي حين من الدهر، حتى تبدأ العلاقات بين الروم وآل جفنة تتلبد بالغيوم، ربما بسبب الخلافات المذهبية بين الفريقين وتعصب المنذر الغساني للمذهب المونوفيزي، بل إن هناك من يذهب إلى أن المنذر قد عقد مجمعا كنسيا أعلن فيه هرطقة القائلين بالتثليث، وعلى رأسهم الإمبراطور نفسه، وربما لأن سياسية المنذر كانت هي السبب في استيلاء الفرس على Rhomaye
وأيا ما كان السبب فإن الإمبراطور "جستين الثاني" "565-578م"، بدأ يرتاب في ولاء المنذر السياسي، ومن ثم فقد قرر التخلص منه عن طريق البطريق "مرقيانوس"، إلا أن المنذر -على ما يبدو- لم يكن غافلا عما يدور حوله، أو أن حامل الرسالة إلى "مرقيانوس" قد أخطأ صاحبها، فسلمها إلى المنذر بدلا من البطريق، وهكذا قر المنذر إلى البادية، وتحصن بها، بل إن هناك من يذهب إلى أنه قد انتهز الفرصة، فصالح أعداءه التقليديين "ملوك الحيرة"، وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى أن يشن قابوس بمفرده -أو بالاشتراك مع المنذر- الغارات على سورية، وأن يعيث فيها فسادًا.

ويضطر الإمبراطور الروماني في عام 578م، إلى عقد صلح مع المنذر في الرصافة، وهناك ما يشير إلى أن ملك غسان قد قام بعدة إصلاحات في الرصافة، كما بنى أو جدد كنيستها، كما قام في عام 580م، بزيارة القسطنطينية، حيث استقبله "تيبيريوس" الثاني "578-582م" استقبالا حافلا، فضلا عن الإنعام عليه بالهدايا وعلى ولديه برتب عسكرية، إلا أن أعظم المنح إنما كان "التاج" بدل "الإكليل"، الأمر الذي لم يسبق له مثيل مع ملوك الغساسنة، حتى أطلق عليه مؤرخو الروم "المنذر ملك العرب".
على أن العلاقات بين المنذر والروم، سرعان ما بدأت تسوء من جديد، وربما كان السبب هذه المرة فشل المحاولة اليت قام بها الروم لغزو الفرس، بسبب هدم الجسر المنصوب على الفرات، واتهما المنذر بذلك، وزاد الطين بلة أن المنذر أراد استرضاء الروم فأغار على الحيرة وأحرقها بالنار، ثم عاد محملا بالغنائم الكثيرة، غير أن هذا النجاح الساحق الذي حققه المنذر على اللخميين لم يمح ريبة الروم في ولائه لهم، وإنما اعتبروه تحديا لهم، ورغبة منه في الخروج على طاعتهم، ومن ثم فقد انتهزوا فرصة تدشينه لكنيسة في حوارين، وقبضوا عليه وأرسلوه مخفورا إلى العاصمة البيزنطية، مع إحدى نسائه وبعض بناته وأولاده، حيث بقي هناك، إلى أن تولى "موريس" "582-602م" العرش، فأمر بنفيه إلى صقلية في عام 582م، فلا عن قطع المعونة السنوية عن آل جفنة.
وقد أدى هذا التصرف من جانب البيزنطيين، إلى ثورة أبناء المنذر، وأخذوا يهاجمون حدود الروم بقيادة "النعمان" الذي خدع حوالي عام 584م- كما خدع أبوه من قبل- فأرسل إلى القسطنطينية، وهكذا تصدع ملك الغساسنة، وانقسم أمراؤهم شيعًا وأحزابًا، وحاول الروم أن يجدوا لهم بديلا في القبائل العربية، لإعادة الأمن وحماية الحدود من عرب الحيرة، ولكن دون جدوى، حتى استطاع الفرس على أيام "كسرى أبرويز" "590-628م" غزو سورية "611-614م" فاستولوا على أنطاكية ودمشق وبيت المقدس وخلقدونية -في مقابل القسطنطينية بآسيا الصغرى- ثم فتحوا مصر في عام 619م، وإن كان، فيما يبدو، أن هرقل "610-641م" حين نجح في استعادة سورية عام 629م، ربما استعمل الغساسنة مرة أخرى، بدليل أنهم قد حاربوا المسلمين مرارا في جانب الروم، وأن خالد بن الوليد قد أوقع بهم في "مرج الصفر" جنوب دمشق، عام 634م.
وأيا ما كان الأمر، فإن الروايات العربية تنظر إلى "جبلة بن الأيهم" على أنه آخر الغساسنة، وأنه قد حارب المسلمين في جانب الروم في موقعة اليرموك عام 636م، على أن رواية أخرى إنما تذهب إلى أنه قد انحاز إلى جانب الأنصار، قائلا "أنتم إخوتنا، وبنو أبينا"، وأظهر الإسلام، إلا أنه قد ارتد بعد ذلك بسبب إهانة لحقته، حين وطئ أعرابي من فزارة فضل إزاره، وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، ومن ثم فقد نابذه الأعرابي إلى الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه وأرضاه- فحكم له بالقصاص، واعتبر "جبلة" ذلك إهانة له، ففر إلى بلاد الروم وارتد عن الإسلام، وبقي هناك حتى وافته منيته.
على أن رواية أخرى إنما تذهب إلى أن الحادث إنما كان في دمشق- وليس في مكة- وأنه كان عندما مر جبلة في سوقها فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه،فأدخلوه على "أبي عبيدة بن الجراح" الذي حكم بالقصاص، وكان جبلة يريد أن يقتل الرجل أو تقطع يده، فرفض أبو عبيدة، إلا حكم الله، فخرج جبلة إلى بلاد الروم وارتد، وأخيرا فهناك رواية ثالثة تذهب إلى أن جبلة لم يدخل في الإسلام أبدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق