الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء العاشر

الجزء العاشر: عصر الدولة الحميرية

مدخل
دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر:
لعل من الأفضل هنا أن نتوقف قليلا -قبل الحديث عن الدولة الحميرية- لنشير إلى بعض الدويلات التي كان لها دور في الأحداث التي جرت في تلك الفترة من تاريخ بلاد العرب الجنوبية.
1- أوسان:
رغم أن أوسان دويلة صغيرة في جنوب قتبان، لم تبلغ في موازين القوى المعروفة وقت ذاك "معين وقتبان وحضرموت وسبأ" شيئًا يخشاه الآخرون، فإنها قد انتهزت فرصة الضعف التي ألمت بدولة سبأ، بسبب ظهور قبائل أخرى على المسرح السياسي، مثل همدان وخولان وريدان وغيرها، فوطدت أقدامها في جنوب غرب بلاد العرب، ثم أخذت تنافس سبأ من ناحية، وحضرموت من ناحية أخرى، وسرعان ما مدت نفوذها خارج حدودها، فحكمت "دهس وتبنو وكحد"، وبل إن هناك من يحاول أن يرى في إطلاق مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" على المنطقة شمال "بمبا Pemba" و"زنجبار" من الساحل الإفريقي للبحر الأحمر اسم "الساحل الأوساني"، دليلا على أن الأوسانيين قد حكموا تلك المنطقة، في فترة ترجع إلى ما قبل عام 400ق. م، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أن "أوسان" لا بد وأن تكون قوية وذات أرضين واسعة في العربية الجنوبية، حتى يمكنها أن تستولي على هذه المنطقة من الساحل الإفريقي، فضلا عن أن يكون لها نشاط واسع معها في الميدان التجاري، والذي ربما كان من ميناء "عدن" الذي كان يتبع أوسان في تلك الفترة ولعل من أشهر ملوك أوسان الملك "يصدق إل فرعم شرح عت" بن ود "ودم"، وقد دعا هذا اللقب بعض العلماء إلى القول بوجود فكرة تأليه الملوك في أوسان، وأن الرجل إنما كان يعتقد أنه من نسل الإله "ود" ومن ثم فقد اعتمد مؤرخو الأيدان على هذه الحالة كدليل على قيام مملكة للإله في بلاد العرب الجنوبية، ونحن نعرف أن "ود" هو الإله القومي لأوسان ومعين، كما أن "عم" كان إله قتبان" و"سين" معبود حضرموت، وأما الموقاة "المقة" فهو إله سبأ، هذا وقد خصص الأوسانيون معبدهم الرئيسي في "وادي نعمان" للإله "ود".
وعلى أي حال، فهناك من يذهب إلى أن الملك "يصدق إل فرعم شرح عت" إنما كان في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى حوالي عام 450ق. م معتمدين في ذلك على أن طرز اللباس التي تكسو تمثال الملك، إنما هي طرز يونانية ترجع إلى ما قبل منتصف القرن الخامس ق. م، وأنه وصل من اليونان إلى أوسان عن طريق غزة، إلا أن "جاكلين بيرين" قد ذهبت إلى أن أوسان كانت مملكة في أخريات القرن الأول ق. م، أو بعد الميلاد بقليل، وأن حكم الملك "يصدق إل فرعم شرح عت" بن "ودم" إنما كان حوالي عام 24ق. م.
وهناك بعض الملوك في أوسان نكاد لا نعرف عنهم غير أسمائهم، ومنهم "معد إيل سلحان بن ذي يدم" أو "زيدم" و"عم يثع غيلان لحي"، الذي وجد اسمه محفورًا على تمثال من المرمر.
ونقرأ في نقش النصر في صرواح -كما رأينا من قبل- عن "مارتو" ملك أوسان الذي اجتاحت قوات سبأ في عهد "كرب إيل وتار" بلاده، وقتلت منهم 16 ألف رجل، وأسرت أربعين ألفًا، فضلا عن احتلالها لعدة مواضع في أوسان هذا ويذهب "فلبي" إلى أن حكم "مارتو" إنما كان في الفترة "620-600ق. م" ليكون معاصرًا لـ "كرب إيل وتار"، وإن رأى البعض أن "مارتو" إنما حكم حوالي عام 450ق. م، وربما كان بعد ذلك بقليل، وعلى أي حال فإن دولة أوسان قد انتهت على يد "الشرح يحصب" في حوالي عام 115ق. م، فيما يرى "فلبي".
2- سمعاي:
وهي قبيلة همدانية سكنت المنطقة ما بين حاشد وحملان وفي الحجر، وهي إمارة أو مشيخة قوية انتحل سادتها لقب "ملك" وتمتعوا بشيء من الاستقلال لا ندري مداه، ولا الفترة التي حدث فيها هذا الاستقلال، ولعل أهم أمرائها "يهعان ذبيان" و"سمه افق" اللذين جاء ذكرهما في نقش "جلازر 302".
3- أربع:
وهي قبيلة كان يلقب شيوخها بلقب "ملك"، عرفنا منهم "نبط إيل" و"لحي عثت بن سلحان" و"عم أمن" والذي كان معاصرًا لملك سبأ "يثع أمر بين"، على أننا يجب ألا نفهم من لفظة ملك هنا، المعنى المعروف من الكلمة، ذلك لأن أربع لم تكن مملكة بالمعنى المفهوم، وإنما كانت قبيلة لها شيوخ يتمتعون بشيء قليل أو كثير من الاستقلال في حدود أرض قبيلتهم، وإن خلعوا على أنفسهم لقب "ملك".
4- جبان:
يحدثنا "بلينيط عن قوم دعاهم "الجبانيين Gebbanitae" يملكون عدة مدن، لعل أهمها "نجية Nagia" و"تمنة Thamna" وأن بالأخيرة خمسة وستين معبدًا وأن اللبان والكندر لم يكن يسمح بتصديره إلا بواسطة هذه المملكة، وإلا بعد دفع ضرائب يحددها، وأما المر فكان الملك يأخذ منه لنفسه ربع الغلة، كما كان يحتكر بيع القرفة.
وربما كان الجبانيون هؤلاء من قتبان، وأنهم استقلوا في فترة لا تبعد كثيرًا عن أيام "بليني" "32-79م"، وأن مواطنهم لا تبعد كثيرًا عن قتبان، فهي إلى الجنوب الشرقي منها على رأي، وإلى الغرب منها على رأي آخر، ويذهب بعض الباحثين إلى أنهم من "جبأ" التي وصفها الهمداني، بأنها مدينة المعافر، وأنها كورة المعافر، في فجوة بين جبل صبر وجبل ذخر في وادي الضباب.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن أستاذنا الدكتور عبد العزيز صالح قد عقد مقارنة بين "الجنبتيو" "Gnbtyw" الذين ورد ذكرهم في حوليات الإمبراطور المصري العظيم "تحوتمس الثالث" "1490-1436ق. م"، على أنهم جاءوا يحملون هداياهم أو منتجاتهم من الكندر "البخور" وصمغ كاي "؟ "، وبين هؤلاء "الجبانيين" "Gebbanitae" والذين كانوا ينتشرون في جنوب شبه الجزيرة العربية وحتى باب المندب، ويتاجرون في الكندر، كما أن ذكر بليني لهم ولدولتهم في وقت كانت فيه هذه الدولة قد أصبحت جزءًا من دولة سبأ وحمير "أي في القرن الأول الميلادي"، يدل على أن مصدر معلوماته إنما يرجع إلى مصدر مبكر.
وهنا ربما يعترض البعض على أن الجبانيين لا يرجعون إلى هذه الفترة المبكرة "عصر تحوتمس الثالث"، على أساس أن أقدم سجلات مكتوبة من بلاد العرب لا ترجع إلى ما قبل القرن العاشر ق. م، غير أن هذا لا ينفي وجود القوم كجماعة في وقت أقدم بكثير من كتاباتهم ومدنهم، وقد أثبت "وليم أولبرايت" أن هجرة القبائل المسماة بالقبائل السينية من شمال بلاد العرب إلى جنوبها، إنما حدث قبل عام 1500ق. م، أي قبل عصر تحوتمس الثالث.
أما الأسباب التي دفعتهم إلى تقديم هداياهم إلى العاهل المصري، فربما كانت ترجع في الدرجة الأولى إلى الرغبة في حماية تجارتهم عبر طرق تجارة البخور التي كانت تمر في أراضي إمبراطورية تحوتمس الثالث الآسيوية الإفريقية.
5- مهأمر:
وهي إمارة مقرها "رجمت" "رجمة"، انتحل سادتها لقب ملك، وربما جاءت أهميتها في أنها تقع على طريق القوافل التي تصل "معين" والعربية الجنوبية من ناحية، ومصر من ناحية أخرى، ويذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" تقع الآن في أرض نجران، أو في مجاوراتها من ناحية الشمال، وربما كانت واحدة من مدن نجران، وأن نجران نفسها لم تكن في الأصل مدينة معينة، وإنما هي أرض تضم عدة مدن، ومنها "رجمت" التي تحول اسمها بمرور الزمن إلى نجران" وأن هناك الكثير من الأمثلة على ذلك في العربية الجنوبية.
هذا ويذهب "موردتمان" إلى أن "رجمت" ربما كانت "رعمة" في التوراة، وهو الابن الرابع لكوش، يقول سفر التكوين: "وبنو كوش سبأ وحويلة وسبته ورعمة وسبتكا"، ثم يرى بعد ذلك أن المقصود "بكوش" هنا، العربية الجنوبية،وأن من أولاد كوش، سبأ وديدان، وأن تجار "رعمة" قد ذكروا في سفر حزقيال مع تجار سبأ، وبدهي أن "موردتمان" لم يفعل سوى أن ردد ما جاء في توراة اليهود، من إدعاء كذوب، يسلب أغلب العرب ساميتهم، فالعربية الجنوبية وبابل وآشور وكنعان ويبوس ومصر وغيرها من الشعوب العربية، إنما هم جميعًا -في نظر توراة يهود- حاميون

عصر الدولة الحميرية

مدخل
يتميز هذا العصر من عصور التاريخ السبئي بأن الملوك قد حملوا فيه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وهذا يعني أن حضرموت قد أصبحت من هذا العصر الرابع، جزءًا لا يتجزأ من مملكة سبأ، أما "يمنات" "يمنت" فهي لفظة جديدة لم تصل إلينا من قبل، ومنها -فيما يرى البعض- ولدت كلمة "اليمن" التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة لم تكن تعد من اليمن فيما قبل الإسلام، ومن ثم فقد قيل إن حدود اليمن إنما تقع بين عمان ونجران، ثم تلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر، حتى تجتاز عمان فتنقطع عند بينونة، وقيل حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين، وما يلي ذلك من التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كله.
واليمن -في رأي آخر- اسم عام أطلق على السواحل الجنوبية، وهي -في رأي ثالث- كلمة عامة تشمل الأرضين الواقعة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، من باب المندب وحتى حضرموت، وتتكون من عدة مخاليف، يحكمها أقيال وأذواء شبه مستقلين، إذ كانوا يخضعون لنفوذ "ظفار" أو "ميفعة"، ولعل أشهر مدنها "Oceiis" عند باب المندب "ميناء الجبانيين"، فضلا عن "عدن" و"قنا" في حضرموت، وهي -في رأي رابع- القسم الجنوبي من حضرموت، وقد كانت "ميفعة" عاصمة لها في ذلك الوقت.
ويذهب المسعودي إلى أن اليمن، إنما سمي يمنًا لأنه على يمين الكعبة، أو ليمنهن أو لأن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل تيامن بعضهم يمين الشمس وهو اليمن، أو لأن الناس لما تكاثروا بمكة وتفرقوا عنها التأمت بنو يمن إلى اليمن، وهو أيمن الأرض، أو لأنها سميت يمنًا نسبة إلى يمن بن قحطان.
وعلى أي حال، فإن عصر الدولة الحميرية هذا، إنما تميز كذلك بأن لقب الملوك سرعان ما تغير مرة أخرى، فأصبح الواحد منهم يلقب بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات، وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، كما تميز كذلك بدخول اليهودية والمسيحية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية- والتي كانت تدور حول عبادة النجوم والكواكب والشمس- وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفيزي، القائل بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، تأخذ طريقها من الشام إلى اليمن، وكانت بيزنطة تهدف من وراء ذلك أغراضًا سياسية أكثر منها دينية، فقد شجع الحميريون اليهودية، رغبة منهم في مقاومة المسيحية، دين عدوهم السياسي والاقتصادي.
ولعل من الأفضل هنا أن نتوقف قليلا -قبل الاستطراد في الحديث عن العصر الحميري- لنشير في اختصار إلى الحميريين أنفسهم:
كانت قبيلة حمير قبيلة قوية لها نفوذ كبير في العربية الجنوبية في أخريات أيام سبأ، وقبل ظهور المسيحية، ولهذا ظل اسمها يتردد دائمًا في كتابات المؤرخين الرومان وفي كتابات العرب، وأصبح اسمها صفة لكل ما يعثر عليه في جنوب شبه الجزيرة العربية، وصار اسم النقوش التي بدأ العلماء في حلها هو "النقوش الحميرية"، بل إن كلمة الحضارة الحميرية أصبحت علمًا على كل شيء في بلاد العرب قبل الإسلام.
هذا وقد أطلق الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان على الحميريين اسم "Homeritai" "Omyritai "2Hamiroei" "Omeritae"، هذا وقد اعتبر "بليني" الحميريين من أكثر الشعوب عددًا، وأن عاصمتهم هي مدينة "سيفار "Sapphar" أي ظفار"، وقد جاءت في التوراة تحت اسم "سفار"، وهي مدينة في الداخل، على مبعدة مائة ميل إلى الشمال الشرقي من "المخا" وعلى الطريق إلى صنعاء، وقد احتلت في تلك الفترة مكانة "مأرب" عاصمة سبأ، و"قرناو" عاصمة معين، ولا تزال آثارها ماثلة للعيان على قمة تل مستدير بجوار بلدة "يرم" الحديثة
وهذا وقد عرف الحميريون عند الأحباش باسم Hemet، كما أشار "بليني" إلى مدينة دعاها "مسلة Mesaia"- والتي رأى فيها "جلازر" المشالحة الحالية إلى الشرق من "مخا" -بينما ذهب "سبرنجر" على أنها "مأسل الجمع"، وأن المقصود بـ "Homeritae" هنا، جماعة أخرى دعاهم "Nomeritae" وأن التحريف إنما جاء من النساخ.
ويذهب صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" إلى أن الحميريين إنما كانوا يحكمون منطقة واسعة تمتد من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، فضلا عن ساحل "عزانيا" الأفريقي، وأن ملكهم، كان يسمى "كرب إيل" وأن ظفار كانت عاصمة لهم ، وأن اسمهم قد جاء في ألقاب "عيزانا" ملك أكسوم، حيث نقرأ في لقبه "ملك أكسوم وحمير وريدان وحبشة والسبئيين وصلح وتهامة"، ومن الغريب أن الكتاب المسيحيين والبيزنطيين إنما عدوهم من القبائل الحبشية.
وقد شغل الحميريون في الكتب العربية صفحات، ربما كانت أكثر مما شغلته بقية دول العربية الجنوبية مجتمعة، وقد نسبوهم إلى "زيد" الذي لقبوه "حمير" ثم جعلوه ابنا لسبأ، فهو -فيما يزعمون- "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، وأنه أول من توج بالذهب، وقد ورث أباه في عرشه- ولمدة خمسين عامًا على رأي، وخمسة وثمانين على رأي أخر- وأنه في أثناء ذلك مد حكمه إلى حدود الصين، كما أخرج ثمودًا من اليمن إلى الحجاز، وأنه عاصر الخليل عليه السلام "أو على الأقل هو في درجته من النسب"، ومن ثم فهو الذي سير جرهما إلى الحرم وأرض الحجاز، حيث التقوا بهاجر وولدها إسماعيل الذي تزوج منهم، وهكذا ذهب بعض الإخباريين إلى أنه إنما كان قبل عاد وثمود بدهور طويلة، فضلا عن أنه هو الذي بنى سد مأرب، أو أكمله بعد أبيه سبأ، ثم مات بعد عمر طال إلى ثلاثة قرون كاملة، تاركًا وراءه بنين كثيرين، وإن رأى البعض أنهم ستة تفرعت منهم قبائل حمير، والتي لم يربط الود بينها، بقدر ما دقت طبول الحرب، ويضيف البعض إلى ذلك، أنه لما مات وثب أخوه "كهلان" على الملك فاغتصبه، ولكن أبناء حمير سرعان ما استردوه، ومن ثم فقد بقيت "كهلان" على الحدود، فيما يلي الصحراء.
وأما لماذا سمي باسمه هذا؟ فالجواب عند بعض الأخباريين، لأنه كان يلبس حلة حمراء، وإن وقف البعض الآخر موقفًا محايدًا إزاء هذه التفسيرات، فرأى أن هذه الأسماء مثل حمير -وكذا اسمه الآخر العرنج أو العرنجج- لا نقف لها على اشتقاق، لأنها قد بعدت قدم العهد بمن كان يعرفها.
وبدهي أن هذه الروايات لا شك أن الكثير منها، إنما هو أقرب إلى الأساطير منه إلى حقائق التاريخ، وأن حمير -إن كان هناك من يدعى حمير- لم يمد حدوده إلى الصين؛ ذلك لأن التاريخ لا يعرف أن العرب قد وصلوا إلى تلك البلاد غزاة فاتحين، طوال تلك العصور الغابرة، وإني لأظن -وليس كل الظن إثمًا- أن هؤلاء الكتاب الإخباريين إنما كانوا متأثرين بالفتوحات الإسلامية في تلك المناطق، فخيل إليهم أن للأمر سوابق خلت، فإذا كان ذلك كذلك، فتلك مأساة، إذ يصبح الإخباريون بعيدين عن تلك الروح التي تمت بها الفتوح الإسلامية، والتي لم ولن يعرف التاريخ لها مثيلا، وذلك حين خرج المسلمون من بلاد العرب ينشرون التوحيد والهداية والنور في جميع أنحاء الدنيا، لا يبغون من وراء ذلك بلادًا يستعمرونها، أو إمبراطورية يتربعون على عرشها، أو أسلابا يغنمونها، وإنما كانوا يبغون أولًا وأخيرًا، وجه الله، وهداية الناس -كل الناس- إلى الإسلام، دين الله الحنيف.
والأمر كذلك بالنسبة إلى إخراج ثمود من اليمن إلى الحجاز؛ ذلك لأن الثموديين -كما تدل آثارهم- إنما كانوا أصلا من شمال بلاد العرب، وليس من جنوبها، وقد انتشرت آثارهم في مناطق واسعة، امتدت من الجوف شمالا، إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا، إلى يثرب فأرض مدين غربًا، وفي المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، ولعل في هذا تفسيرًا لذكر القرآن الكريم لهم دون غيرهم من شعوب بلاد العرب، ممن هم كانوا أكثر منهم شهرة في مجال التجارة أو المدنية أو القوة، كالديدانيين والأنباط واللحيانيين، فضلا عن العظة من قصة النبي الكريم سيدنا صالح عليه السلام، هذا إلى أن الثموديين إنما كانوا يقيمون في شمال بلاد العرب في القرن الثامن ق. م، كما تدلنا على ذلك النصوص الآشورية، بينما نحن الآن نتحدث عن حمير في فترة تقرب من الميلاد بقليل أو كثير، وأما أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام، فتلك مبالغة، بخاصة إذا ما علمنا أن الخليل كان يعيش في الفترة "1940-1765ق. م"، والأمر كذلك بالنسبة لمن جعلوه قبل عاد وثمود، وكذا بالنسبة إلى الفترة التي عاشها في هذه الدنيا.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى لقب "تبع" -وجمعه التبابعة- والذي ظهر في تلك الفترة، من تاريخ اليمن القديم، وهو لقب مجهول الأصل كان يطلق على الملوك، ومن ثم فقد أصبح المؤرخون والمفسرون في حيرة من تفسير المراد به، فهناك من يرى أن الملوك قد سموا به لأنهم إنما كانوا يتبعون بعضهم البعض الآخر في الملك وفي السيرة، وهناك من يرى أن "التبع" ملك يتبعه قومه ويسيرون تبعًا له، أو لكثرة أتباعه أو من التتابع، ولست أظن أنهم كانوا في ذلك يختلفون عن غيرهم من الملوك، فالملكية بطبيعتها نظام وراثي، ثم إن الملك إنما يتبعه قومه، لأنه صاحب الأمر فيهم، كما أن أتباعه لا بد وأن يكونوا من الكثرة بحيث يكونون ممكلة.
وهناك من يفرق بين لقب "تبع" ولقب "ملك"، فذهب إلى أن اللقب الأول لا يلقب به إلا من يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس"، فإن لم يكن كذلك فهو ملك، وليس تبعًا، وأن أول من حمل لقب "تبع" إنما كان "الحارث بن ذى شم" "الرائش"، وأن هذا اللقب قد استمر حتى زال سلطانهم حين استولت الحبشة على اليمن، ولعلهم في هذا إنما يقصدون أن لقب "تبع" إنما هو أعظم من لقب "ملك"، ومن ثم فإنهم في هذا لم يجانبوا الصواب كثيرًا بالنسبة إلى تاريخ اليمن، فلقد رأينا من قبل -كما في أربع وسمعاي وغيرهما- كثيرًا من مشايخ القبائل والمشيخات الصغيرة، الذين انتحلوا لقب "ملك"، دون أن يكون لديهم شيئًا من مقومات الملكية المعروفة.
على أن أسوأ ما في الأمر، مبالغة الأخباريين فيمن أرسلهم الله، سبحانه وتعالى، من المصطفين الأخيار للتبابعة، فيذهب البعض منهم إلى أنهم كانوا اثني عشر ألف نبي، وإن تواضع البعض، فجعلهم ثلاثة عشر نبيًّا، وأن واحدًا من التبابعة قد صنع "الماذيات" من الحديد، قيل إن الحديد إنما قد سخر له، شأنه في ذلك شأن داود عليه السلام.
هذا وقد تحدث القرآن الكريم عن التبابعة، فقال سبحانه وتعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ، وقال: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} ، إلا أن القرآن الكريم لم يحدد اسم هذا آل "تبع"، ومن ثم فقد اختلف المفسرون فيه، فرأى بعضهم أنه من حمير، وأنه حَيَّرَ الحيرةَ، وأتى سمرقند فهدمها، وذهب بعض آخر إلى أن "تبعًا" إنما كان رجلا صالحًا من العرب، وإنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك؛ لأنه فارق دينهم، وانتهى الأمر بأن تحاكموا إلى النار، فانتصر الرجل على قومه الوثنيين، ومن ثم فقد تهودت حمير، وهدم تبع "بيت رئام"، على أن الرواية نفسها، إنما رويت كذلك عن "تبان أسعد أب كرب" وعلى أي حال فإن هناك من يروي عن مولانا وسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم- أنه قال: "لا تسبوا تبعًا فإنه كان قد أسلم". ومن يروي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أدري أكان تبعٌ نبيًّا أم غير نبي".
ولعل من الغريب أن نصوص المسند لم يرد فيها ذكر لكلمة "تبع"، بمعنى "ملك"، أو حتى بمعنى آخر يفيد معنى الرياسة، وإنما كان القوم يستعملون بدلا عنها كلمة "ملك"، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء إلى أن كلمة "تبع"، ربما كان المقصود بها "بتع" -وهو اسم لقبيلة همدانية- ثم حرفت الكلمة إلى "تبع"، على أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى هذا الاتجاه، فقد تكشف الحفريات عن نصوص ترد فيها هذه اللفظة بالمعنى المتعارف عليه، أو بمعنى آخر.
وأما موطن الحميريين، فقد كان إلى الشرق من القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، حيث يكون جزءًا من أرض قتبان، فيقع إلى الجنوب من أرض "رشاوي" و"حبان" وإلى الغرب من حضرموت، وإلى الشرق من "ذياب" وتكون أرض "يافع" الموطن القديم للحميريين قبل هجرتهم حوالي عام 100 قبل الميلاد، إلى مواطنهم الجديدة، حيث حلوا في أرضين" "دهس" ,"رعين" مكونين حكومة "ذي ريدان"، ومتخذين من "ظفار" عاصمة لهم، وأما المصادر العربية فيفهم منها أن الحميريين إنما كانوا يقطنون منطقة "لحج" في ظفار، وفي "سرو حمير" و"نجد حمير".
ورغم أن هناك من يرى أن الحميريين فرع من السبئيين، أو على الأقل يمتون إليهم بصلة قوية، وأن لغتهم ليست إلا لهجة من لغتي سبأ ومعين، فإن العلاقات بين سبأ وحمير كان يسودها طابع العداء في أغلب الأحايين، وكثيرا ما أشارت الكتابات السبئية إلى ذلك.
وعلى أي حال، فهناك ما يشير على أن الحميريين قد استولوا على مأرب -العاصمة السبئية العتيقة-، وربما استغلوا فرصة الضعف التي سادت البلاد في أعقاب حملة "إليوس جالليوس" الفاشلة، على رأي، وفي حوالي عام 110م، على رأي آخر، ومن ثم فقد غير أحد ملوكهم-مجاراة، وربما منافسة لملوك سبأ الشرعيين- لقبه من "ذي ريدان" إلى "ملك سبأ وذي ريدان"، وأعادوا إليه لقبه ونفوذه، وإن ظل الحميريون محتفظين بلقبهم الجديد، ومن ثم فقد رأينا ملكين -الواحد سبئي والآخر حميري- وكل منهما يزعم أنه "ملك سبأ وذي ريدان"، هذا ويذهب "فون فيسمان" -اعتمادًا على نقش جام 653- إلى أن الحميريين قد أعادوا الكرة واستولوا على مأرب مرة أخرى، حوالي عام 200م، أو عام 210م.
وأما أول من حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" فهو "شمر يهرعش" حوالي عام 290، ويبدو أن الرجل قد اتصل بالحكم منذ أيام أبيه "ياسر يهنعم"، كما تشير إلى ذلك نصوص كثيرة، ومنها نص يرجع إلى عام 276م، كما تدلنا كذلك النصوص التي ترجع إلى أيام أبيه، على أنه قد شارك في الحرب التي نشبت في تلك الفترة.
ويحتل "شمر يهرعش" في قصص الأخباريين مكانة قد تفوق مكانة أبيه، فهو عندهم "تبع" الذي جاء ذكره في كتاب الله الكريم، لأنه "لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه، فكان جميع العرب -بنو قحطان وبنو عدنان- شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوه من الملوك، وأعلاهم همة وأبعدهم غورًا، وأشدهم مكرًّا لمن حارب، فضربت به العرب الأمثال".
ويزعم الأخباريون أن صاحبنا "شمر يهرعش"، علم أن الصفد والكرد وأهل نهاوند ودينور، قد هدموا قبر أبيه "ناشر النعم" فأقسم "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفًا شامخًا كما كان"، وهكذا زحف بجيوشه إلى أرمينية وهزم الترك وهدم المدائن بدينور وسنجار، ودخل مدينة الصفد وراء جيحون وهدمها فسميت "شمركند" -أو "شمر كنداي" عند الفرس، من "شمر" أي خرب، في زعمهم- ثم عربت إلى سمرقند، أو لأن شمر هدمها، ثم أمر ببنائها فسميت به.
ويبلغ الخيال بالإخباريين، حين يزعمون أن "شمهر يهرعش"- أو شمر يرعش كما يدعونه، قد وصل بفتوحاته إلى الصين، وأنه ترك هناك بعضًا من جنوده، ثم ينتقلون به فجأة من الصين إلى مصر فالحبشة، ثم يعودون به مرة ثانية إلى المشرق، حيث يقيم فترة في مدينة "شداد بن عاد"، التي لا ندري عنها شيئًا، وأخيرًا يعودون به إلى اليمن، فيقيم في قصر غمدان، وبعد ذلك كله، لا يرضى له الإخباريون إلا بملك الأرض كلها، وإلا بعمر لا يقل عن ألف وستين عامًا.
هذا إلى أن الرجل -فيما يزعمون- كان أول من أمر بصناعة "الدروع السوابغ المفاضة التي منها سواعدها وأكنها وهي الأبدان"، فضلا عن آلاف الدروع التي فرضها على الفرس والروم واليمن، وكذا على بابل وعمان والبحرين، ولم ينس الإخباريون أن يتحدثوا عن حكمته وشعره، بل إن البعض منهم قد ذهب به الخيال إلى الحد الذي رأى في أهل التبت، وكأنهم بقية من جنود شمر يهرعش، فزيهم زي العرب، وأخلاقهم أخلاق العرب، وهم معترفون بأنهم من العرب ثم من اليمن.
وبدهي أن كل هذا من اختراع، "ابن منبه" ومن نحا نحوه من الأخباريين، فليس في آثار اليمن نفسها -والتي ترجع إلى عهد شمر يهرعش- ما يدل على ذلك، كما أن الأمم الأخرى التي تحدث عنها الإخباريون، وكأنها قد خضعت له، لم يعرف تاريخها حتى اسم "شمر يهرعش" هذا، بل إن النصوص لتشير إلى أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة، قد هدد "شمر يهرعش في دولته ذاتها، حتى أن قواته قد وصلت إلى نجران، كما سوف نشير فيما بعد، ومع ذلك فربما كانت هذه الروايات عن فتوحاته في المشرق والمغرب، إنما هي تعبير عن أصداء فتوحاته في اليمن في سبيل توحيدها تحت سلطانه.
وعلى أي حال، فالرجل عظيم ما في ذلك من شك، وأنه أدى دورًا من أهم الأدوار في تاريخ اليمن القديم، ما في ذلك من شك كذلك، وأن الأحداث التي ترجع إلى أيامه، إنما تدل بوضوح على أنه كان كذلك، ولعل من الأفضل لنا أن نقسمها إلى قسمين، الواحد: يتصل بالفترة التي كان يلقب فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، والآخر: يرجع إلى تلك الفترة التي حمل فيها لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات".
وهناك من الفترة الأولى نقش عرف بـ "جلازر 542"ويتصل بالتشريعات الخاصة بأهل مأرب ومجاوراتها، فيما يتصل ببيع المواشي والرقيق، فلقد حددت تلك التشريعات فترة شهر يصبح بعدها البيع نهائيًّا، كما حددت كذلك فترة تتراوح ما بين عشرة أيام وعشرين يومًا يجوز فيها رد المبيع للبائع، فإن هلك الحيوان بعد أيام سبعة من شرائه، وجب على المشتري دفع ثمنه كاملا.
ويشير نص "شرف الدين 42" أن واحدًا من قواد "شمر يهرعش" "لعله ريمان ذو حزفر"، قد غزا مناطق على ساحل الخليج العربي كانت تخضع وقت ذاك لفارس، وأعني بذلك قبائل تنخ أو تنوخ في الإحساء الحالية، وقطو، أي القطيف في الوقت الحاضر، إلا أن مكتشف النص- الزميل الأستاذ أحمد حسين شرف الدين- يذهب إلى أن الملك "شمر يهرعش" نفسه، هو الذي قاد جيشه إلى الشمال، فعبر بلاد الأزد، واجتمع مع ملكها "مالك بن الكلاع"، ثم سار إلى الشمال حتى بلغ "قط وصف" و"كوك" حاضرتي مملكة فارس وأرض تنوخ، وفي هذا الوقت كان "أذينه" ملك تدمر، يقوم بحملاته ضد "سابور الأول" 241-272م" ملك فارس، وحاصر المدائن "طيسفون" التي أشير إليها في النص الآنف الذكر باسم "قط وصف"، ومن ثم فربما استعان "أذينة" -الموالي للروم- بالملك "شمر يهرعش" في محاربة الفرس الذين تغلبوا على الروم في معركة "اديسا" عام 260م.
وعلى أي حال، فإننا نستطيع أن نستنتج من النص عدة نتائج، منها :
"أولًا" أن شمر يهرعش يجب أن يكون -طبقًا لرواية الأستاذ شرف الدين- قد بدأ حكمه قبل عام 260م. "ثانيًا" أنه لابد وأن يكون على علاقات طيبة بأعراب "نجد" -وبخاصة سادة كندة- ذلك لأن أعراب نجد هؤلاء كانوا يقيمون وقت ذاك في الخرج والأفلاج، كما أن الأخيرة كانت تعد من مواطن كندة منذ أيام "شعر أوتر" في حوالي عام 180م، وحتى أيام "الشرح يحصب" الثاني في حوالي عام 210م -طبقًا لتقدير فون فيسمان- كما أن "بليني" قد تحدث عن "آل ثور في عين الجبل"، و"آل ثور" هم "كندة فيما يرى الأخباريون.
"ثالثًا" لعل هذه الأحداث ربما كانت هي السبب في أن الروايات العربية ذهبت إلى أن الرجل قد غزا فارس، وإن كانت هذه الروايات قد بالغت بدرجة غير مقبولة، حتى غدت أقرب إلى القصص منها إلى حقائق التاريخ، بخاصة وأن هناك من يعتبر الحملة إنما كانت مهمة سياسية أكثر منها حربية.
وأيًّا ما كان الأمر، فإننا نقرأ في نقش "Cih 407" عن حرب شنها "شمر يهرعش" على قبائل تهامة في غربي اليمن، والتي شملت عسير وصبية -بين بيش ووادي سهام -وأن جيوش الملك الحميري قد انتصرت على هذه القبائل برًّا، ثم سرعان ما طاردتهم في البحر، حيث أوقعت بهم خسائر فادحة، وربما كان ذلك يشير إلى أن أولئك المهزومين إنما كانوا من الأحباش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة إنما دارت في البحر الأحمر، وأن "شمر يهرعش" قد استعان بقبيلة "سردود" في قتالهم، وأن هذه المعارك ربما كانت السبب في تدخل الأكسوميين مرة أخرى في شئون العربية الجنوبية، كما يفهم من دراسة النقود، وإن كانت النقوش لا تقدم لنا عونًا في تفهم الأحداث وقت ذاك، وأخيرًا فهناك نصوص أخرى، ومنها "جام 649-951-953"، تشير إلى حروب انتصر فيها "شمر يهرعش" على المناوئين لحكمه.
وفي النصف الثاني من عهد "شمر يهرعش" نرى أن الملك الحميري يطلق على نفسه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، ويدل هذا اللقب الجديد على أن "شمر يهرعش" قد استولى على حضرموت، أو على الأقل على الجزء الأكبر منها، أما يمنات -فكما أشرنا من قبل- ربما كانت اسمًا عامًا أطلق على السواحل الجنوبية، وربما كانت الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة حضرموت، ويعتمد "فون فيسمان" -في رأيه هذا- على وجود عاصمتين لحضرموت وقت ذاك، الواحدة "شبوة"، والأخرى "ميفعة"، مما يدل على انقسام الدولة إلى قسمين، شمالي ويدعى حضرموت، وجنوبي ويدعى "يمنات" "اليمن".
هذا وقد حكم "شمر يهرعش" في الفترة" 270-310م"، وإن كان "فون فيسمان" يذهب إلى أن النصف الثاني من عهده، إنما كان في الفترة "285-291"، أو في الفترة "310-316م"، وأنه كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة "288-328م" وصاحب نقش النمارة، والذي أخضع عدة قبائل منها "مذحج ومعد وأسد ونزار"، حتى وصل إلى نجران.
ولعل من الأفضل هنا أن نعود إلى النص نفسه، حيث نقرأ "تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج، وملك الأسدين ونزار وملوكهم، وهرب محجو عكدي وجا بزجي في حبج نجرن مدينت شمر، وملك معدو، وبين بنيه الشعوب، ووكلهن فرسو لروم، فلم يبلغ ملك مبلغه، عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول، بلسعد ذو ولده".
وترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون على النحو التالي: "هذا جسمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب جميعًا، الذي عقد التاج وملك قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وصد بني محج؟ حتى اليوم، وجاء بنجاح إلى حصار نجران عاصمة شمر، وملك قبيلة معد، وقسم على أبنائه الشعوب، وجعلها فرسانًا للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه حتى اليوم، ومات سنة223، يوم 7 من شهر كسلول، السعادة لأولاده".
ومن أسف أن النص لا يشير إلى بقية "اسم "شمر" صاحب مدينة نجران، لنعرف من كان "شمر" هذا، وإن كان قد أشار إلى أن قتالا دار حول نجران بين قوات امرئ القيس وقوات شمر، وأن النصر كان من نصيب الأولين، فإذا كان صحيحًا ما ذهب إليه "فون فيسمان" من أن "شمر يهرعش" كان يعاصر امرئ القيس ملك الحيرة، فإن هذا يعني -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن بلاد العرب كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي ميدانًا للتسابق بين هذين الرجلين القويين، وأن العرب قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين، وعرب جنوبيين، وأن امرأ القيس، كان قد توغل في بلاد العرب حتى بلغ نجران، وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل العربية المذكورة في النص، التي يرى النسابون أنها قبائل عدنانية في غالبيتها، وأن وصول امرئ القيس إلى حدود العربية الجنوبية من ناحية الشمال، قد جعله وجهًا لوجه أمام "شمر يهرعش"، ومن ثم فقد بدأ النزاع بين الرجلين.
وعلى أي حال، فليس بعيدًا أن يحدث صدام بين امرئ القيس وشمر يهرعش، أو بأي ملك آخر يملك نجران، ما دام الأول قد حكم قبائل معد التي تسكن الحجاز ونجد، وتتصل منازلها بتخوم نجران، وقد خضعت معد لنفوذ الحيرة، لأن نص شمعون من "بيت رشام" يذكر الأعراب الشماليين والمعديين في معسكر المنذر الثالث ملك الحيرة، والأمر كذلك بالنسبة إلى نص "مريغان".
هذا وقد استدل بعض الباحثين من نص "ريكمانز 535" أن "مر القيس بن عمرو ملك خصصتين" إنما هو "امرؤ القيس البدء" ملك الحيرة، كما أن هناك من يرى أن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص، إنما هو "شمر يهرعش"، اعتمادًا على ورود الاسمين "شمر ذي ريدان، وشمر يهرعش" في وثيقتين مدونتين في معبد الإله المقة بأوام في مأرب، ومؤرختين بسنتي "تبع كرب بن ودد إل بن حزفر"، الثالثة والسادسة، ومن ثم فإن "مالك" ملك كندة كان معاصرًا لكل من امرئ القيس وشمر يهرعش، وبالتالي فإن هذه النتائج تتعارض وما ذهب إليه الأستاذ "شرف الدين" من أن "شمر يهرعش" قد حكم قبل عام 260م، وأنه ساعد "أذينة" ملك تدمر في حروبه ضد الفرس- كما أشرنا من قبل-
وأيًّا ما كان الأمر، فإننا لا نملك دليلا على أن حربًا دارت رحاها بين امرئ القيس ملك الحيرة، وشمر يهرعش، غير أن نص "جام 658"، فيما يرى البعض، إنما يشير إلى حرب بين الرجلين دارت رحاها في "وادي عتود"، هذا ورغم أننا لا نعرف كذلك كيف استطاع "شمر يهرعش" ضم حضرموت إلى سبأ؟ فإن هناك من يرى أن ذلك قد تم في القرن الرابع الميلادي، وقبل استيلاء الحبشة على العربية -للمرة الأولى- بزمن قصير، كما أن نقش "جام 656" قد أشار إلى حرب استعر أوارها بين حضرموت، و"شمر يهرعش" في "وادي السر" "سررن" -على مبعدة سبعة كيلو مترات من وادي شبام- وأن شمر يهرعش قد لقب في هذا النص بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وأن نص "جام 662" يشير إلى أن "شبوه" كانت تحت سيادة سبأ، وأن الملك السبئي قد عين عليها حاكمًا من أشراف سبأ، وأن نص "Cih 948" يشير إلى انتصار "شمر يهرعش" على "شرح إيل" ملك حضرموت، كما أن اسم "شمر يهرعش" جاء في النص شمر يرعش، كما يكتبه الأخباريون.
ويختلف المؤرخون فيمن خلف "شمر يهرعش"، فذهب "فلبي" إلى أنه "يرم يهرحب" وأنه حكم حوالي عام 310م، وربما كان ابنًا له، وأما "فون فيسمان" فالرأي عنده أنه ولده "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" الأول، الذي عاش قبله بفترة، هذا ويذهب "ريكمانز" أن "ياسر يهنعم، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنًا لشمر يهرعش، وإنما كان أخوه، وأنهما قد حكما معا حكمًا مشتركا، ثم انفرد "شمر يهرعش" بالعرش، وعند وفاته عاد العرش مرة ثانية إلى أبيه، فأشرك معه ابنه الآخر "ثران أيفع"، ثم ابنه الثالث "ذرأ أمر أيمن"، ويعارض "فون فيسمان" هذا الاتجاه فهو أمر لم يسبق له مثيل "أولًا"، ولأن "ياسر يهنعم" يكون قد عاش فترة طويلة، "ثانيًا",
وعلى أي حال، فلقد رأى "فون فيسمان" أن "ياسر يهنعم" وابنه "ثاران أيفع" قد حكما في الفترة من "310-320م" ثم خلفهما "ثاون يركب" "320-330م"، وأما "ألبرت جام" فقد ذهب إلى ما ذهب إليه "ريكمانز" من قبل، مع قليل من التغيير في الفترة التي تلت موت "شمر يهرعش"، وتقديم فترة اشتراك حكم "ذرأ أمر أيمن" مع أبيه، على فترة اشتراك أخيه "ثاران أيفع" مع أبيه كذلك، وأن الفترة الأولى كانت "305-320م" وأن الثانية كانت "320-325م".
ونقرأ في نقش "جام 665" عن حرب خاض غمارها أعراب من سبأ ومن كندة، فضلا عن أشراف من "أبعل" و"نشق" و"نشان"، بأمر من الملكين "ذرأ أمر أيمن" وأبيه "ياسر يهنعم"- اللذين جاء اسم كل منهما في النقش -في أرض حضرموت، وقد اشترك معهم 750 من راكبي الجمال، وسبعون من الفرسان، فضلا عن المشاة، وقد تمكن قائد الحملة "سعد تالب" من إحراز النصر في عدة مواقع -في أرك ودهر ورخيت وأعين خرص- وربما تشير هذه الحروب إلى انفصال حضرموت وسهرت "سهرتن" عن سبأ، هذا وقد استعان الجيش، كذلك السيطرة على سواحل جنوب غرب الجزيرة العربية، كما أن رؤساء القبائل قد انتهزوا فرصة الاضطرابات هذه فأقاموا حكومات إقطاعية، مما يدل على أن هذا العهد، إنما كان من عهود الضعف في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات".
وهذا ويذهب "ألبرت جام" إلى أن "كرب إيل وتار يهنعم" قد خلف "ثاران أيفع" وحكم في الفترة "325-330م"، ثم جاء بعده "ثاران يركب ""330-335م"، ثم "ذمار علي يهبر الثاني "335-34/" ثم "ثاران يهنعم" الذي تلاه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "أب كرب أسعد و"ذرأ أمر أيمن".
وأما "فون فيسمان" فقد وضع ذمار علي يهبر" بعد "ثاران يركب"، ثم عاد فوضع "ذمار علي يهبر" مع ابنه "ثاران يهنعم"، وحددها لهما فترة حكم مشترك "340-350م"، ثم "ثاران يهنعم" مع ابنه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "ملكيكرب يهأمن"، مع ابنيه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن"، ثم انفرد "أب كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن"، حوالي عام 400م.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نصوص "جام 669، 670، 671"، هي آخر النصوص التي نقرأ فيها اسم الإله الموقاة، إله سبأ الكبير، وقد عثر عليها في معبده المعروف بـ "أوام" في مأرب، وترجع إلى أيام "ثاران يهنعم" وابنه "ملكيكرب يهأمن"، وليس من شك في أن هذا إنما يشير إلى إعراض القوم منذ ذلك العهد -وبداية عصر الديانات السماوية، بل إن الملك "ملكيكرب يهأمن" قد تجاهل المقة ولم يتقرب إليه -كما كان يفعل أسلافه- وإنما بدأ يتقرب إلى الإله "ذي سموي" "رب السماء"، مما يدل على أن عقيدة التوحيد إنما بدأت تأخذ طريقها إلى ملوك سبأ، منذ اختفاء الآلهة الوثنية، أمام رب السموات، الأمر الذي لم يحدث فجأة، وإنما كان عبارة عن تطور يتصل بالمعبود الذي كان يقدس إلى جانب "تالب"، واسمه "ذو سماوي"، وكذا "الله" سيد السموات والأرض، ثم بعد ذلك سرعان ما يظهر "الرحمن" في صورة لا تعدلها تلك الصورة التي نجدها في اليهود المتأخرة.
وعلى أي حال، فهناك رواية تذهب إلى أن هذا التطور الخطير في الديانة، إنما حدث منذ أيام "ثاران يهنعم" اعتمادًا على رواية "Phiiostorgios" التي ذهب فيها إلى أن "ثيوفيلوس" قد نجح في تنصير الحميريين، وبناء كنائس في ظفار وعدن، وأن الإمبرطور البيزنطي "قسطنطين الثاني" "350-361م" هو الذي أرسل الرسل إلى اليمن للدعوة إلى النصرانية، ومن ثم فإن "ثاران يهنعم" -طبقًا لهذه الرواية- هو الذي هجر دينه الوثني واعتنق النصرانية، اعتمادًا على أن الكتابة التي جاء فيها اسم الإله "ذي سموي"، والتي عثر عليها خارج "ظفار"، إنما ترجع إلى عهد قريب من عهد "ثاران يهنعم"، أي إلى حوالي عام 378، أو عام 384، وبعبارة أخرى إلى عهد ابنه "ملكيكرب يهأمن"، وقد جاء فيها اسم ولديه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن" كشريكين له في العرش.
وعلى أي حال، فهناك من يذهب إلى أن "ثيوفيلوس" لم يكتب له نجحا يستحق التقدير في مهمته في اليمن بسبب تدخل الفرس -أعداء الروم- في تلك الفترة في شئون اليمن، وتحريضهم اليمنيين على مقاومة نفوذ الرومان في بلادهم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن "سد مأرب" قد أصابه تصدع أدى إلى سقوط أجزاء منه، وأن المكان "ثاران يهنعم" قد قام بإصلاحه، وإعادته إلى حالته الأولى.
هذا ونشير كذلك إلى أن اسم "ملكيكرب يهأمن" قد جاء محرفًا في المصادر العربية، فهو عند "حمزة الأصفهاني" "كلي كرب بن تبع" وقد حكم 35 عامًا، وهو عند "ابن جرير" "ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو عند القلقشندي "كليكرب بن تبع الأقرن"، وقد حكم ثلاثًا وخمسين سنة أو ثلاثًا وستين سنة، بعد "شمر مرعش" "شمر يهرعش" وأن اسمه "زيد بن شمر"، وقد عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه، وهو عند ابن الأثير "ملكيكرب تبع زيد بن عمرو بن تبع"، وهو عند المسعودي، "كليكرب بن تبع"، وهو عند اليعقوبي "ملكيكرب بن تبع"، وهو عند نشوان الحميري "ملكي كرب" وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش.
وأيًّا ما كان الأمر، فلقد جاء بعد "ملكيكرب يهأمن" هذا، ولده "أب كرب اسعد" وربما كان هو "أسعد كامل تبع" الذي يروي الإخباريون أنه أول من تهود من التبابعة، ثم نشر اليهودية بين اليمنيين في قصة طريفة، يذهبون فيها إلى أنه كان قد قدم المدينة المنورة غازيا بعد عودته من المشرق، ربما لأن القوم قد قتلوا ولده الذي كان قد خلفه فيهم وهو في طريقه إلى المشرق، وربما لأن رجلا من بني عدي ابن النجار عدا على رجل من أصحابه فقتله، وربما لأنه جاء لنصرة الأوس والخزرج من أبناء عمومته على اليهود، وهنا جاءه "حبران من يهود بني قريظة" ينهيانه عن تدمير المدينة، لأنها سوف تكون مهاجر نبي سوف يخرج من قريش -دعوه أحمدا مرة، ومحمدا مرة أخرى- وهكذا صرف الحبران تبعا عن تدمير المدينة، فضلا عن إيمانه بدينهما، وقوله شعرًا في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متمنيا فيه أن يعيش حتى يراه، فيكون له وزيرا وابن عم، فضلا عن القتال إلى جانبه، لأنه كان على علم بما سيلاقيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من قومه من أذى، ثم أودع هذا الشعر عند أهل يثرب ودفعه إلى كبيرهم، وأن القوم كانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى عهد النبوة.
ويتجه "أب كرب أسعد" صوب مكة في طريقه إلى اليمن، حتى إذا ما كان بين "عسفان" و"أمج" أتاه نفر من "هذيل" يغرونه بسلب البيت الحرام، ويستفتي "تبع" أحبار يهود فيصدقونه النصح قائلين: "ما نعلم بيتًا لله عَزَّ وَجَلَّ اتخذه في الأرض لنفسه غيره"، ومن ثم فإنه إن سلبه كان هلاكه فيه، ويعلم الرجل أن الصدق ما نصحا به الحيران اليهوديان، فينتقم من هذيل، ثم يمضي إلى مكة فيطوف بالبيت وينحر الذبائح، ثم يقيم بمكة ستة أيام، يرى أثناءها -فيما يرى النائم- وكأنه يكسو البيت الحرام، وتتكرر الرؤيا ثلاث ليال، ويفعل "تبع" ما أمر به في منامه، ومن ثم يصبح أول من كسا البيت، ثم يعود إلى اليمن فتتكرر قصة تهوده مرة ثانية، وهنا يروي الأخباريون حديثا نسبوه -عن طريق أبي هريرة- إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول فيه: "لا تسبوا أسعد الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة"، ثم وصفوه بعد ذلك بأنه كان ملكًا عظيمًا، شاعرا فصيحًا، عارفا بالنجوم، وهو أحد المعمرين، عمر ثلاثمائة وإحدى وخمسين سنة، وكان ملكه ثلاثمائة وستة وعشرين سنة، وكان مؤمنا بالله.
وليس من شك في أن رواء هذا القصص، وغيره من أساطير تمتلئ بها الكتب العربية، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وغيرهما من مسلمة أهل الكتاب، وهنا لعل سائلا يتساءل: أكان "تبع" هذا يقول الشعر بلغة قريش، ونحن نعرف -من دراستنا للنصوص القديمة- أنها تختلف كثيرًا عن لغة حمير، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى من العربية، التي جعلوها مقصورة على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وحتى قال بعضهم: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.
ثم كيف عرف الحبران اليهوديان أن هناك نبيا سوف يبعث من قريش، ومبلغ علمي أن التوراة -وكذا التلمود- لم يرد فيهما نص صريح بذلك، صحيح أن هناك نصوصًا تشير إلى مبعث نبي من العرب، وأن الإرهاصات بمولد المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كثيرة، وأن البشارات بمولد النبي الاعظم -عليه الصلاة والسلام- أكثر من أن تحصى، بل إن كان ما في بلاد العرب يكاد يشير بالتغيير المنتظر، على يد رسول الله وخاتم النبيين -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولكن صحيح كذلك أنها لم تشر إلى أنه من قريش بالذات، وأنه سوف يهاجر إلى المدينة كذلك بالذات، وأما نص التوراة الذي تحدث عن البشارة بمبعث نبي من العرب، فهو "أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه".
ثم أليس من المضحك المبكي، أن يكون اليهود أشد حرصًا على الحفاظ على الكعبة، وأكثر توقيرًا لها، من العرب أنفسهم، بل ألا يتأنى هؤلاء الرواة حين يجعلون من اليهود بالذات، هداة ملوك العرب إلى مكانة الكعبة المشرفة بالذات كذلك، وأن يصرحوا -كما يزعم هؤلاء الرواة- أن الله لم يتخذ له بيتًا في الأرض غيرها، فإذا كان ذلك كذلك، فلم لم يحج اليهود إليها، كما كان يفعل العرب؟ ثم ما هو موقف اليهود بالنسبة إلى هيكلهم المشهور بهيكل سليمان، والذي يزعمون له ما يزعمون من قداسة، ما بعدها قداسة؟.
ثم من أين عرف "تبع" هذا، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سوف يسمى "أحمدا" كما جاء في الشعر المنسوب إليه؟ بل إنه يسميه كذلك "المصطفى"، على أن رواية ثالثة تسميه "محمدا"، ومبلغ علمي أن ذلك لم يرد في نص من النصوص العربية -التي سبقت عصر الرجل أو عاصرته- وإنما جاء ذلك في الإنجيل، كما قال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم -على لسان المسيح عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
ثم كيف آمن "تبع" برسول الإسلام الأعظم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل مبعثه بنحو من سبعمائة عام- كما يروي الأخباريون- ألمجرد أن الحبرين اليهوديين قد أخبراه أن يثرب سوف تكون مهاجرًا لنبي يخرج من قريش؟ لا أظن أن ذلك سببًا كافيًا لإيمانه بنبي كان حتى تلك اللحظة ما يزال في ضمير الغيب، أضف إلى ذلك أن الفترة بين عهد "أب كرب أسعد" وبين مبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست سبعة قرون بحال من الأحوال، فإذا كان الرجل قد مات في حوالي عام 415م- أو عام 420م، أو حتى عام 430م- كما سوف نرى، وإذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد انتقل إلى الرفيق الأعلى في يونية 632م، فإن الفرق بين وفاتهما لا تصل إلى أكثر من قرنين من الزمان.
ومن ثم فأكبر الظن، أن هناك -بجانب الإسرائيليات في هذه الروايات -هدفًا من ورائها، يقصد منه رفع شأن القحطانيين إبان النزاع السياسي بينهم وبين العدنانيين، ومن ثم فإن هذه الروايات جد حريصة على أن تقدم لنا "تبعًا" وقومه في صورة أفضل من صورة العدنايين بصفة عامة، والقرشيين بصفة خاصة، فهم -أي القحطانيين- كانوا "أولًا" أول من قال الشعر في مدح المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعل ذلك سبأ، كما أشرنا من قبل، ويفعله الآن "تبان أب كرب أسعد" وهم "ثانيًا" كانوا على علم باسم المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وبعثته، بينما لم يكن العدنانيون يعرفون ذلك حتى ظهور الإسلام، وهم "ثالثًا" قوم مؤمنون، كسوا البيت وعمروه أكثر من مرة، قد قدروا مكانته قبل ظهور الإسلام بقرون، حتى إن كان اليهود هداتهم إلى ذلك.
وأخيرًا فإن هذا الإلحاح على أن التبابعة قوم مؤمنون بالله وبرسالة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الإلحاح على عدم جواز سبهم، إنما قد يدل على أن هناك من كان يسب التبابعة ويلعنهم، وربما كان هذا السب وذلك اللعن، لم يكن موجها بالذات إلى التبابعة، وإنما كان موجها إلى اليمنيين بخاصة، والقحطانيين بعامة، ومن هنا كان هذا الإلحاح على عدم السب، بل ربما قد وضعت -فيما يرى الدكتور جواد علي- هذه الأحاديث على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام- للرد على هذه الحملة العدنانية ضد القحطانيين، أضف إلى ذلك أن هذا الإلحاج ربما كان الهدف منه كذلك، إلقاء ظلال من شك على رواية تاريخية تذهب إلى أن "حسان بن عبد كلال" قد أقبل بجيش من اليمن يزيد نقل حجارة الكعبة الشريفية من مكة إلى اليمن، غير أن حملته هذه انتهت بالفشل -كما سوف نشير فيما بعد- فضلا عن حملة أبرهة على مكة، والتي شاركت فيها بعض البطون اليمنية.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن المصادر العربية إنما تذهب إلى أن "أب كرب أسعد" قد خرج من اليمن حتى وصل إلى جبلي طيئ فسار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة تحير وكان الوقت ليلا فأقام مكانه، فسمي ذلك المكان بالحيرة، وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجه إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، ثم عاد إلى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، ومنها هدايا من الهند التي علم أنها من الصين، ومن ثم فقد غزاها.
وليس من شك في أن "أبا كرب أسعد" قد كتب له نجحا كبيرًا في توسيع ملكه، وأنه قد بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي، والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز، ومن ثم فإن في روايات الأخباريين عن فتوحاته أساسًا من الصحة، إلا أن عنصر المبالغة فيها إنما قد أفسدها إلى حد كبير، وإن كانت تدل في الوقت نفسه على قوة شخصيته، التي مكنته من إتمام هذه الفتوح، ومن السيطرة على الأعراب، وبالتالي فقد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، وهكذا ترك الرجل أثرًا عميقًا في الأجيال القادمة، فأضافت إلى فتوحاته، ما شاء لها الخيال أن تضيف.
وقد اختلف العلماء في فترة حكم "أب كرب أسعد"، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت في الفترة "400-415 أو 420م"، وذهب آخرون إلى أنها في الفترة "385-420م"، على أن هناك فريقًا ثالثًا ذهب إلى إنها في الفترة "378-415م"، ويتجه الدكتور جواد علي إلى أنها استمرت حتى عام "430"م، ولعل السبب في ذلك أن نص "ريكمانز 534"، والذي جاء فيه ذكر "أب كرب أسعد" وستة من أولاده، إنما يرجع إلى عام 428م أو عام 434م، وهذا يعني أن حكم "أب كرب أسعد" قد جاوز عام 428م، وربما عام 430م، فإذا ما تذكرنا أن الرجل قد ذكر مع والده في نص يرجع إلى عام 378، أو عام 384، فإن حكمه يكون عندئذ قد جاوز نصف القرن من الزمان، ولو افترضنا أنه كان شابًا في العشرين من عمره، فإن الرجل يكون قد عاش حوالي السبعين عامًا، وربما أكثر من ذلك بقليل.
هذا وقد أشرنا من قبل إلى أن "أبا كرب أسعد" قد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، فكان بذلك أول من حمل هذا اللقب، ولعل السبب في ذلك إنما هو ظهور قوة الأعراب وأهميتهم، وبخاصة أعراب الهضاب وجنوب نجد وقبائل تهامة، ومن ثم فقد أصبح لهم تأثير في الشئون، الداخلية، ربما قد يصل إلى إحداث تغيير في التنظيم السياسي نفسه، وهكذا أضاف "أب كرب أسعد" اسمهم إلى لقبه، دلالة على سيطرته عليهم وعلى خضوعهم له، وهو في هذا إنما يتبع سنة أسلافه في تغيير ألقابهم، كلما أخضعوا أرضًا جديدة، مضيفين إلى لقبهم ما يدل على الوضع الجديد، ومن ثم فإن اللقب الجديد إنما يدل على أن حكم "أب كرب أسعد" قد امتد إلى التهائم -بأعرابها وقراها- وإلى قبائل "معد" التي تمتد منازلها من نجران إلى مكة ونجد.
وقد عثر "جون فلبي" في وادي مأسل الجمح -على الطريق بين مكة والرياض- على كتابة دونت بمناسبة إقامة حصن في هذا المكان، عرفت بـ "فلبي 227"، وقد استطاع العلماء أن يستخلصوا منها نتائج عدة، منها:
"أولًا" أن هذا المكان من جملة الأرضين، التي تخضع للملك "أب كرب أسعد"، ومن ثم فإن نفوذه قد تجاوز اليمن حتى بلغ تلك المنطقة من "نجد"، والتي كانت تعد من منازل "معد". معقلا لقوات سبئية تحمي هذا الطريق، الذي يربط اليمن بنجد وبشرق الجزيرة العربية، من هجوم القبائل التي كانت تغير على قوافل التجارة.
"ثانيا" أن الهمداني كان قد ذكر أن "ماسل الجمح" إنما كان من مواضع "نمير"، وهو اسم قريب من اسم قبيلة "Nomeritae" التي ذكرها بليني، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أن "مأسل الجمح" إنما كانت من مواضع "نمير" على أيام "بليني" "32-79م" وبعده.
"ثالثًا" أن النص إنما يذكر أن اسم والد "أب كرب أسعد" إنما هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، وليس "ملكيكرب يهأمن"، ومن ثم فقد تساءل البعض: هل نحن أمام ملك واحد، أم أمام ملكين مختلفين؟
بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الطريق البري، الذي يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، حيث يصل إلى شمال الطائف، ويتصل بطريق الحجاز، ويعرف بـ "درب أسعد كامل" -نسبة إلى الملك أب كرب أسعد- والطريق دون شك، يعد تحولا خطيرا في الطرق البرية القديمة، التي كانت منتشرة في حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، إذ يشير إلى تحول هذا الطريق من الأراضي السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون، الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر، وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم.
ويروي الأخباريون أن الذي خلف "أب كرب سعد"، إنما هو "ربيعة بن نصر اللخمي"، وأنه قد رأى رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة وحكم فيها، ومن عقبه كان "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، ثم عاد الملك إلى "حسان بن تبان بن كرب"، وهو -فيما يرى البعض- أخو زرقاء اليمامة التي صلبت على باب مدينة "جو"، والتي سميت فيما بعد "اليمامة" نسبة إليها، الأمر الذي ناقشناه من قبل.
على أن "جون فلبي" قد جعل العرش بعد وفاة "أب كرب أسعد" لشقيقه "ورو أمر أيمن" "415-425م"، ثم إلى ابن أخيه "شرحبيل يعفر" والذي حكم في الفترة "425-455م" على رأي "فلبي" وفي الفترة "420-455م" على رأي هومل. وإن كان "فلبي" عاد مرة أخرى فحدد له الفترة التي حددها "هومل"- ولعل من الغريب أن يتجاهل "فلبي" "حسان يهأمن" ابن "أب كرب أسعد"- رغم أنه ذكر في نص "فلبي 227" ونعت بأنه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال وفي التهائم".
ويروي الأخباريون أن "حسان" قد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ أرض العرب والعجم، فلما كان بالعراق كرهب قبائل اليمن المسير معه، فكلموا أخاه عمرا في قتله وتمليكه من بعده، وهكذا قتل عمرو أخاه، غير أنه بمجرد عودته إلى اليمن قد أصيب بمرض نفسي جعله يفقد القدرة على التحكم في الأمور، مما أدى به في نهاية الأمر إلى أن يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه، ثم لم يلبث أن هلك، ويزعم الإخباريون أن الحميريين قد تفرقوا بعد هلاك عمرو، فاغتصب العرش رجل من غير الأمراء، دعوه "لختيعة تنوف ذو شناتر" فقتل خيار القوم، وعبث بأعراض الناس، حتى قتله "ذو نواس"- في رواية مزرية سجلها الإخباريون في كتبهم -ثم جلس على العرش من بعده.
وعلى أي حال، فإذا ما عدنا مرة أخرى إلى عهد "شرحبيل" يعفر"، لوجدنا أنفسنا أمان نص خطير "جلازر 554"، يتحدث عن تصدع سد مأرب، وما قام به الملك إزاء هذا الحادث الخطير، حيث نقر في النص أن "شرحبيل يعفر" قد قام بتجديد بناء السد وترميمه على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن إصلاح أجزاء منه حتى موضع "طمحن" "طمحان"، وحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة وتقوية فروعه، وبناء أقسام جديدة بين "عيلان" و"مفكول" و"مفلل" وتجديد سد "يسرن"، ويذكر النص أن هذه الأعمال قد تمت في عام 564/ 565 من التقويم الحميري، الموافق عام 449/ 450 من التقويم الميلادي.
هذا ويتحدث النص كذلك عن انتشار عقيدة جديدة، فهو يشير إلى ظهور "رب السماء والأرض"، حيث نقرأ فيه "بنصر وردا إلهن بعل سمين وأرضن" أي "بنصر وبعون الإله رب السموات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك.
وينتقل العرش بعد "شرحبيل يعفر" إلى "عبد كلال" والذي حكم في الفترة "445-460م" علي رأي "فلبي" و"هومل"، وإن كان "فلبي" قد رأى أن الرجل كان كاهنًا وشيخًا لقبيلة، نجح -بمساعدة الأحباش- في اغتصاب العرش لمدة خمس سنين، هذا وقد ذكره الأخباريون بين ملوك حمير، وأنه كان يدين بالنصرانية سرًّا، وبالمصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قبل مبعثه- شأنه في ذلك شأن سبأ، وأب كرب أسعد- وإن من ولده "الحارث بن عبد كلال"، وهو أحد الذين وفدوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأفرشهم رداءه، غير أنهم يرونه قد تولى العرش بعد وفاة "عمرو بن تبان أسعد"، فملك أربعًا وتسعين سنة -وهو تبع الأصغر- ثم خلفه أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عامًا، وقد أدى تشابه الاسمين "عبد كلال الذي جاء في نص جلازر، وعبد كلال عند الأخباريين" إلى أن يرى بعض العلماء أن الاسمين لرجل واحد، وأنه كان ملكًا.
ويروي الهمداني أن "حسان بن عبد كلال" أقبل من اليمن، "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج البيت عنده، وإلى بلاده"، فأقبل حتى نزل "نخلة"، فخرج إليه القرشيون بقيادة فهر بن مالك، حيث دارت بينهم معركة ضارية، انتهت بانتصار قريش، وأسر "حسان بن عبد كلال"، فإذا كان ذلك كذلك، فإن حملة أبرهة على مكة كانت لها سابقة يمنية من قبل، ثم إذا ما تذكرنا أن هناك من يرى -كما أشرنا آنفًا- أن "عبد كلال" إنما اغتصب عرشه بعون من أكسوم، فهل هذا يعني أن الحبشة النصرانية كانت وراء تلك الحملة؟ لست أدري، فتلك أخبار لا يوثق بها كثيرًا، ثم إن الهمداني يرفض القصة من أساسها، وإن كان هناك من يتهمه بأنه يمني متعصب، لا يؤيد حربًا تنتصر فيها قريش على اليمن، ثم يضع تبعة نقل حجارة الكعبة من مكة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركه" أحد سادات مكة، وإن لم يبين لنا لماذا فعل" ذلك؟ وما الفائدة التي تعود عليه من فعله هذا؟
وعلى أي حال، فلقد جاء بعد ذلك "شرحب إيل يكف" "460-470م" فولداه "معد يكرب يهنعم" و"لحيعث ينوف" "470-495م" على رأي هومل، و"نوف" "470-480م"، ثم "لحيعث ينوف" "480-500م" علي رأي فلبي، وربما كان الأخير هو "لختيعة تنوف ذو شناتر" عند الأخباريين، والذين رأوا أنه حكم سبعا وعشرين سنة، ثم جاء "مرثد ألن ينوف" "495-515م" ثم "ذو نواس" "515-525م"، وهو "زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أب كرب" والذي سمي "يوسف" بعد تهوده، وإن ذهب البعض إلى أنه من غير الأسرة المالك، وأن السبب في تسميته "ذي نواس" أن كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه، وعلى أي حال، فهو الملك الذي احتل الأحباش اليمن في عهده، وبقوا فيها قرابة نصف قرن من الزمان، وإن كانت هذه ليست هي المرة الأولى التي يغزو الأحباش فيها اليمن، فذلك أمر له سوابق خلت من قبل- كما رأينا آنفًا-
الاحتلال الحبشي لليمن:
كانت اليهودية بدأت تأخذ طريقها إلى اليمن منذ فترة طويلة، وإن ازدادت منذ تدمير بيت المقدس على يد "تيتوس" في عام 70م، ومن ثم فإن أصحاب هذا الاتجاه الأخير يرون أننا لو تفحصنا أسماء اليهود المقيمين في بلاد العرب، لرأينا أن معظمهم آراميون وعرب متهودون، وليسوا من ذرية إبراهيم الخليل من ولده إسحاق، عليهما السلام، أو منذ تهود "أب كرب أسعد" وفرضها على الحميريين -طبقًا لرواية أخرى، سبق لنا الإشارة إليها- أو منذ تهود ذي نواس، سواء أكان ذلك رغبة منه في أن يقاوم دينًا سماويًّا بدين سماويٍّ آخر، ومن ثم فهو يمثل الروح القومية في اليمن، حين رأى في النصارى من مواطنيه ما يذكره بحكم الأحباش المسيحيين البغيض، بخاصة وأن المسيحية قد أصبحت وقت ذاك تستند إلى قوة الدولة الرومانية الشرقية الطامعة في غزو اليمن، أو لأنه كان في الأصل- طبقًا لرواية ابن العربي- من أهل الحيرة، وأن أمه يهودية من "نصيبين" وقعت في الأسر فتزوجها والد يوسف فأولده منها، ومن ثم فهو يهودي وفد على اليمن من الحيرة، سواء أكان هذا أو ذاك، فالذي يهمنا هنا أن الفرقة الداخلية -التي ترجع في الدرجة الأولى إلى دخول اليهودية والمسيحية إلى بلاد العرب الجنوبية- بدأت تدفع البلاد في طريق الاضمحلال.
وهكذا فإن ظروف اليمن الداخلية كانت من أهم العوامل التي مهدت للفتح الأثيوبي لليمن، ذلك لأننا نقرأ في نقش "فلبي 228" عن حرب داخلية استعر أوارها قبيل الغزو الحبشي "وربما في عام 516م"، واشتركت فيها قبائل سبأ وحمير ورحبة وكندة ومضر وثعلبة، ومن ثم فقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش بسبب الخصومات القبلية القديمة بين القبائل، والتي أدت إلى ظهور الروح القبلية، التي لا تعرف طريقًا للتعاون القومي، إلا إذا كان من أجل القبيلة وفي مصلحتها، دونما أي اهتمام بما يجره ذلك على الكيان القومي للبلاد من نكبات، قد تؤدي باستقلال البلاد وخضوعها للأجنبي.
ونقرأ في نصي "ريكمانز 507، 508"- ويرجعان إلى عام 518م- إشارات عن حرب بين الأحباش وملك حميري، هو "يسف أسأر" "يوسف أسار"، ولعل عدم الإشارة هنا إلى اللقب الملكي الطويل، ربما يعني أن سلطان "ذي نواس" لم يكن يمتد إلى كل بلاد العرب الجنوبية، وإنما كان مقصورًا على أجزاء منها، وأن الأحباش -فضلا عن الأقيال اليمنيين- إنما كانوا يشاركونه هذا السلطان، فظفار ومجاوراتها كانت في أيدي الأحباش، كما كان الأقيال قد كونوا حكومات إقطاعية في إماراتهم، كما كانوا يثيرون الفتن والقلاقل في أنحاء البلاد، وهكذا كانت الأحوال الداخلية قلقة، مما جعل البلاد آخر الأمر لقمة سائغة في أيدي المستعمرين الأحباش، بل إن نص "ريكمانز 508" ليشير إلى حرب وقعت بين الملك يوسف أسار من ناحية، وبين الأحباش، ومن كل يؤيدهم من أقيال اليمن، من ناحية أخرى، وأن الملك قد هاجم "ظفار" و"مخار" واستولى على كنائسها، وإن كان أشد القتال إنما كان بينه وبين قبيلة "الأشاعر"، حيث قتل منهم ثلاثة عشر ألفًا، وأسر تسعة آلاف وخمسمائة أسير، كما استولى على 280 ألف رأس من الإبل والبقر والماعز، ثم اتجه بعد ذلك إلى "نجران" حيث أنزل بالأحباش ومن سار في ركابهم، خسائر فادحة.
وعلى أي حال، فإن المؤرخين إنما يقدمون عدة أسباب لغزو الحبشة لليمن، منها:
أولًا" الرغبة في السيطرة على اليمن لضمان توزيع البضائع الحبشية، دون أن تتعرض لاعتداءات الحميريين. "ثانيًا" أن عداوة الحبش للعرب قديمة، نشأت منذ أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة ويبيعونهم أرقاء في بلاد العرب، حيث وجد الحبش في الحجاز.
"ثالثًا" أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بنفس الدور الذي تقوم به مصر الآن بعد حفر قناة السويس، نظرا لمركزها الهام على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وحيث يوجد مضيق باب المندب، وفي تلك الأيام كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية حريصة على انتزاع هذه المكانة وإعطائها لمصر، ومختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى، التي تستطيع الإفادة من مركزها الجغرافي، وبخاصة فإن المسيحية كانت قد استقرت في كثير من الولايات الرومانية الشرقية، حتى اضطر "قسطنطين" "306-337م" في عام 311م إلى السماح بانتشار المسيحية في بلاده.
وهنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم، فعمدوا إلى إرسال البعثات التبشيرية لتلك البلاد، لنشر المسيحية بين الحضر والبادية من جهة، ولتهيئة الأفكار والنفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى. ومن ثم فلم يكن تعذيب ذي نواس للنصارى في بلاده، هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي في اليمن، ودليلنا على ذلك أن المصادر الإغريقية -بل والحبشية نفسها- إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن قبل قصة التعذيب هذه بسنين، وأنهم قد انتصروا على "ذي نواس" واضطروه إلى الالتجاء إلى الجبال إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لم شمل جنده، وأن يهاجم الأحباش وينتصر عليهم، وأن يغير على "نجران" ويتمكن من الاستيلاء عليها، بعد حصار دام سبعة أشهر، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام، بل إن تدخل الأحباش في شئون اليمن ومحاولة غزوها، قد بدأ -كما أشرنا من قبل- منذ القرن الرابع الميلادي، وبعد وفاة "شمر يهرعش" وقبله.
وهكذا اتفقت مصالح الأحباش والرومان في السيطرة على بلاد العرب الجنوبية، وكانت سياسية "ذي نواس" التي تربط بين انتشار المسيحية في اليمن، وبين ازدياد نفوذ الأحباش في البلاد، سببًا في أن يتخذ من نصارى اليمن موقفًا عدائيًّا، وكان ذلك ذريعة وجدها الرومان للقضاء على استقلال اليمن، ولكن دون التدخل المباشر، وإنما بتحريض الأحباش على غزوها، بل إن هناك من يذهب إلى أن الروم قد اشتركوا بطريقة فعلية في غزو اليمن عن طريق إرسال أسطولهم من مصر، محملا بالأسلحة والمؤن إلى الثغور اليمنية، ولعل الأمبرطور "جستين الأول" "518-527م" قد اتخذ هذه الخطوات نتيجة لأطماع الفرس التي ازدادت في بلاد العرب حتى أنهم استقروا في سواحل الخليج العربي كالبحرين.
وهناك رواية تذهب إلى أن السبب المباشر لغزو الحبشة لليمن، إنما كان لأن الملك الحميري "دميون" "دميانوس"، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده، وبنهب أموالهم، وذلك بسبب اضطهاد اليهود وإساءة معاملتهم في بلاد الروم، مما أدى إلى أن يتجنب تجار الروم الذهاب إلى الحبشة واليمن، أو حتى المناطق القريبة من "حمير"، ومن هنا رأى البعض أن بعثة "ثيوفيلوس" التبشيرية إنما كانت لضمان حسن نية الأمراء اليمنيين إزاء تجار الروم، غير أن تلك البعثة قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب نفوذ الفرس في اليمن وقت ذاك، وقد أثر ذلك كله في التجارة مع الحبشة تأثيرًا سيئًا، وهنا اضطر النجاشي إلى أن يقدم عروضًا رفضها الملك الحميري، مما كان سببًا في نشوب الحرب بينهما، وتزعم الرواية أن النجاشي كان حتى تلك اللحظة لا يزال على الوثنية، ومن ثم فقد عرض عليه أن يعتنق النصرانية إن كتب له النجح على الحميريين، وحين انتهت الحرب في صالحه اعتنق المسيحية، وأرسل إلى قيصر يطلب منه إرسال عدد من رجال الدين ليعلموه العقيدة الجديد، وقد تم له ما أراد.
وعلى أي حال، فإن الكتابات العربية الجنوبية قد أشارت إلى غزو الأحباش لليمن، ذلك أن نقش حصن غراب، والمعروف بـ "Rep Epigr 2633" -ويرجع تاريخه إلى عام 525م- إنما يشير إلى أن الأحباش قد استولوا على اليمن في عهد ملك لم يذكر اسمه، وأنهم قتلوا هذا الملك وأقياله، على أن "فنكلر" إنما يذهب إلى أن هذا الملك إنما هو "ذو نواس"، وأنه البادئ بهذه الحرب، وأن أصحاب النص "السميفع أشوع وأولاده" كانوا من أنصار الملك الحميري، على غير رغبة منهم، وأن المعارك قد انتهت بانتصار الأحباش، ومن ثم فإن "السميفع أشوع" وأولاده، قد اضطروا إلى الالتجاء إلى حصن "ماوية" حتى انتهت العاصفة، ثم عقدوا صلحًا مع السادة الجدد.
وقد اهتمت المصادر المسيحية المعاصرة بغزو الحبشة لليمن، ومنها "قزما" الذي كان في الحبشة إبان الاستعدادات لغزو اليمن، وقد سجل لنا قصة الغزو، ربما بعد وقوعها بخمس وعشرين سنة، وقد ذهب إلى أن الحملة إنما تمت في أوائل أيام القيصر "جستين الأول"، بل إن "ثيوفانس" و"سدرينوس" قد حدداها بالعام الخامس من حكم هذا القيصر، أي في عام 523م، وأن سبب الحملة إنما كان تعذيب "ذي نواس"- الذي قتل في المعارك- لنصارى نجران، على أنهما إنما يشيران إلى غزو ثان، قام به الملك الحبشي "أداد" ضد ملك حمير "دميانيوس" في العام الخامس عشر من عهد القيصر "جستنيان" ط527-565م"، في في عام 542م.
ولعل من أهم الوثائق المسيحية التي تتصل بتعذيب نصارى نجران، إنما هي رسالة "مار شمعون"، أسقف بيت رشام، إلى رئيس أساقفة "دير جبلة"، وفيها يتحدث "مارشمعون" كيف عرف بنبأ تعذيب نصارى نجران من رسالة من ملك حمير إلى ملك الحيرة، يطلب منه فيها أن يفعل بنصارى مملكته، ما فعله هو بنصارى نجران، وأن شمعون قد تأكد بنفسه من الحادث عن طريق رسوله الذي أرسله إلى نجران ليتحرى الحقائق، ومن ثم فقد وجه نداء إلى كل الأساقفة الرومان، وإلى بطريق الإسكندرية وإلى أحبار طبرية، طالبا منهم بذل الجهود لإيقاف هذه المذابح البشرية، ورغم ما تفيض به الرسالة من عواطف شخصية، ومن مبالغات متعمدة لإثارة الحمية الدينية عند رجال الدين المسيحي، ورغم أن ما جاء بها على لسان ملك حمير، إنما هو من كلام مار شمعون، وليس من كلام الملك الحميري، فإن الرسالة بصفة عامة صحيحة، ومن ثم فهي وثيقة تاريخية يمكن أن ينظر إليها باهتمام.
وهناك رواية يونانية تذهب إلى أن "ذا نواس" "Dunaas" ملك حمير، قد عذب نصارى نجران، في العام الخامس من عهد "جستين الأول" "518-527م" ومن ثم فقد قام نجاشي الحبشة بغزو حمير، وفر "Dunass" إلى الجبال، حتى إذا ما واتته الفرصة انقض على الجيش الحبشي، فأباده واحتل نجران، مما اضطر الأحباش إلى القيام بحملة ثانية انتصرت على الملك الحميري، وعينت مكانه "Abrames".
على أن هناك رواية أخرى -يونانية كذلك- تذهب إلى أن الذي قضى على ذي نواس، إنما هو قيل من اليمن يدعى "إيدوج"، وذلك بسبب اضطهاد التجار المسيحيين الروم، ردا على اضطهاد الروم لليهود، مما أدى في نهاية الأمر إلى أن يمتنع جميع التجار المسيحيين من دخول اليمن، فأصيبت الأسواق التجارية اليمنية بالكساد، وساءت الأحوال الاقتصادية في البلاد، وقد أدى ذلك كله إلى أن يجمع "إيدوج" الأقيال من حوله، وأن يعلن الثورة ضد ذي نواس وأن يقتله، بل ويعتنق المسيحية.
بقي أن نشير إلى أن الروايات العربية تذهب إلى أن "ذا نواس" إنما أنهى حياته بنفسه، إلا أن الروايات الحبشية والإغريقية إنما تذهب إلى أنه قد وقع أسيرًا في أيدي أعدائه فقتلوه، بل إن هناك رواية عربية تذهب إلى أنه إنما قتل بيد حمير، وأن جثته لم تقبر، وإنما ألقيت إلى الحيوانات المفترسة فأكلتها، ومن ثم فإن "فون كريمر" إنما يرى أن ذا نواس لم يغرق في البحر -طبقًا للتقاليد العربية- وإنما قتل قتلا.

اليمن في العهد الحبشي:
نجح الأحباش في القضاء على ذي نواس والاستيلاء على البلاد وضمها إلى الحبشة، ولكنهم -على ما يبدو- لم يحكموها حكمًا مباشرًا، وإنما اختاروا واحدًا من الأقيال الذين عاونوهم على احتلالها، وكان هذا القيل هو "السميفع أشوع"، الذي سبق أن أشرنا إليه، والذي عينه الأحباش الآن ملكًا على حمير، على أن يدفع لهم جزية سنوية.
وهناك نص في "متحف إستنبول" نشره "ريكمانز"، يفهم منه أن "السميفع أشوع" كان ملكًا على سبأ، وكان نصرانيًّا، بدليل أن النص جاء فيه "باسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن" وترجمته "باسم الرحمن وابنه المسيح الغالب"، ولعل هذا النص يعضد ما ذهب إليه "بركوبيوس" من أن الذي حكم حمير بعد "ذي نواس" إنما هو "Esimiphaeus" "السميفع أشوع= سام يفع أشوع"، على أنه لم يكن في الواقع إلا تابعًا لملك الحبشة، وأنه قد بدأ حكمه في عام 525م.
وما أن تمضي سنون ستة، حتى تبدأ البقية الباقية من جنود الحبشة في اليمن الثورة "في عام 531م" على "السميفع أشوع" ثم محاصرته في إحدى القلاع، وتعيين "أبراهام" -وهو عبد نصراني كان مملوكًا لتاجر يوناني في مدينة عدولي- في مكانه، وقد حاول النجاشي أن يقضي على هذه الثورة، غير أن هزيمة قواته التي أرسلها مرة بعد أخرى، جعلته يتقبل الوضع على علاته، وما أن تنتهي حياته في هذه الدنيا، حتى يسرع "أبراهام" "أبرهة" إلى عقد صلح مع خليفته، يدفع له بمقتضاه جزية سنوية، في مقابل أن يعترف النجاشي الجديد به نائبًا للملك في اليمن.
وتتجه المصادر العربية اتجاهًا مغايرًا في كيفية وصول "أبرهة" إلى السلطان في اليمن، فتذهب رواية إلى أنه جاء إلى اليمن جنديًّا تحت قيادة "أرياط" الذي فتح اليمن، ولكن ما أن تمضي سنوات معدودات حتى ينازعه السلطان، ثم يغدر به ويأخذ مكانه، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن النجاشي إنما كان قد أرسل جيشين، أحدهما تحت قيادة "أبرهة" الذي نجح في أن يصبح ملكًا على صنعاء ومخاليفها بعد مقتل "ذي نواس"، ومن ثم فقد غضب النجاشي وأرسل إليه جيشًا تحت قيادة "أرياط"، فما أن حل بساحته، حتى عرض عليه "أبرهة" أن يبارزه، فأيهما ظفر بصاحبه كان الملك له، فرضي أرياط بذلك، وتبارزا، ونجح أبرهة في أن يوقع بأرياط عن طريق غلام له -هو عتودة- الذي كافأه أبرهة بألا تدخل عروس على زوجها في اليمن، قبل أن يصيبها قبله، مما كان سببًا في أن يدفع حياته ثمنا لرغبته اللئيمة هذه.
وهكذا أصبح "أبرهة" "أبراهام" حاكمًا على اليمن، وإن اعترف اسميًّا بأنه "عزلي ملكن أجعزين" أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن، وليس هناك من دليل على أن أبرهة لم يكن الحاكم المطلق على اليمن، ولم يترك لنجاشي أكسوم غير الاسم، حتى أنه دعاه في نص "جلازر 618" وفي نص "Cih 541" بملك الجعز" فحسب، بينما أطلق على نفسه في نفس النص "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال والتهائم"، وهو ما يزال بعد -من الناحية الاسمية على الأقل- "نائب ملك الجعز".
وعلى أي حال، فإن النص المذكور يشير إلى تهدم "سد سبأ" وترميمه في عام 542م- الأمر الذي ناقشناه في الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"- غير أن الذي يهمنا هنا تلك الثورة التي شبت بقيادة "يزيد بن كبشة"، والذي عينه "أبرهة" "Abramios= Abraham" نائبا عنه في قبيلة كندة، وسرعان ما انضم إليه "معد يكرب" بن "السميفع أشوع "وبعض الزعماء اليمنيين، ومن ثم فقد بدأت الثورة تنتشر في أجزاء كثيرة من اليمن، حتى شملت حضر موت وحريب وذو جدن وحباب عند صرواح، إلا أن أبرهة سرعان ما انتصر على الثوار وبطش بهم، بمساعدة قبائل يمنية قوية، ومن ثم فقد انصرف إلى إصلاح ما أفسدته الثورة في سد مأرب، وقد تم هذا الإصلاح الثاني في عام 543م.
وتقرأ في نقش "ريكمانز 506"- والذي يرجع تاريخه إلى عام 535م، أو عام 547م- عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبيلة "معد"، وعن العلاقات بين ملوك الحيرة وحكام اليمن من الأحباش، وعن نفوذ الأخيرين على قبائل مثل معد، ولعل هذا يؤيد ما ذهب إليه الكتاب العرب من أن لليمن نفوذًا على قبائل معد، وأن تبابعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على هذه القبائل.
ويبدأ أبرهة نصه هذا بقوله: "بخيل رحمنن ومسحهو" أي "بحول الرحمن ومسيحه" ثم يسبغ على نفسه الألقاب الملكية المعروفة لملوك سبأ، ثم يتحدث بعد ذلك عن الحرب التي أشعلها ضد معد عند "حلبان"، كما أمر رؤساء قبائل "كندة وعل وسعد" بالقضاء على ثورة "بني عامر"، هذا ويشير النص كذلك إلى أن أبرهة قد انتصر على قبيلة معد، ثم أخذ الرهائن منها، اتقاء لثورة أخرى قد تقوم بها، كما قبل أن يبقى "عمرو بن المنذر"- الذي عينه أبوه "المنذر" أميرًا على معد- في مكانه.
وقد ذهب بعض الباحثين مذاهب شتى في تفسيرهم لهذا النص، فذهب البعض إلى أنه إنما يشير إلى حملة أبرهة على مكة في عام الفيل، وذهب آخرون إلى أنه إنما يشير إلى غزوة قام بها أبرهة تمهيدًا لحملة كبيرة كان ينوي القيام به إلى أعلى شبه الجزيرة العربية، ولكنه توقف عند مكة، بينما رفض فريق ثالث أن يربط بين الحملتين، لأنهم يرون أن هذه الحملة إنما تمت في عام 547م، بينما كانت الأخرى في عام 563م، وأخيرًا فإن هناك فريقًا رابعًا يرى أن النص إنما يتحدث عن معركتين، الواحدة قادها أبرهة عند "حلبان"، والأخرى قامت بها مجموعة قبائل من "تربة" في بلاد بني عامر -وربما على مبعدة ثمانين ميلا إلى الجنوب الشرقي من الطائف.
وبعد أن فرغ أبرهة من القضاء على الثورات التي هبت ضده، وبعد أن انتهى من ترميم سد مأرب، انصرف إلى نشر المسيحية ومحاربة الأديان الأخرى في بلاد العرب، فقوى ساعد مسيحي بلاد العرب الجنوبية، واتخذ من "نجران" مركزًا رئيسيًّا لحملته الدينية، فنجد جماعة مسيحية في صحراء اليمامة -في منتصف الطريق بين اليمن والحيرة- وفي يثرب، وعلى امتداد الطريق التجاري إلى فلسطين وسورية وتبع ذلك إنشاء الكنائس في أنحاء مختلفة من اليمن، لعل أهمها مأرب ونجران وصنعاء، وفي هذه الأخيرة بنى كنيسته المشهورة "القليس" بغية أن يصرف الحجيج من مكة إلى صنعاء، فيكسب من ذلك فوائد مادية وسياسية وأدبية، وبالتالي فقد كان ذلك سببًا في حملته المشهورة على مكة في العام المعروف بعام الفيل- الأمر الذي ناقشناه في الفصل الحادي عشر، من الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني".
ويبالغ الأخباريون كثيرًا في وصف "كنيسة القليس" "وهي محرفة عن كلمة أكليسيا بمعنى كنيسة"، حتى أنهم يروون أن أبرهة لما أتم بناءها كتب إلى النجاشي يقول: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله" أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب".
وتذهب الروايات العربية إلى أن القليس إنما بنيت بجوار قصر غمدان، وبحجارة من قصر بلقيس بمأرب، وأن أبرهة قد كتب إلى قيصر الروم يطلب منه الرخام والفسيفساء ومهرة الصناع، كما أنه قد استعمل في بنائها طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة، لها بريق، وأنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر، وطعموا بابها بالذهب واللؤلؤ، ورشوا حوائطها بالمسك، وأقاموا فيها صلبانا منقوشة بالذهب والفضة والفسيفساء، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة، عشر أذرع في عشر، تغشى عين من ينظر إليها من بطن القبة، تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت القبة منبر من شجر اللبخ- وهو عندهم الأبنوس- مفصد بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة، وكان في القبة سلاسل فضية.
وفي الواقع، فإنه رغم ما في وصف الإخباريين للقليس من مبالغات، فإن العصر كان حقًّا، عصر بناء الكنائس الضخمة التي أنشئت في العالم المسيحي، وأهمها: كنيسة "أيا صوفيا" في القسطنطينية، و"كنيسة المهد" في "بيت لحم"، واللتان تعودان إلى عهد الإمبراطور "جستنيان" "527-565م"، وقد تأثرت جميعها بالفن البيزنطي، وإن جمعت كنيسة القليس بين الفن العربي القديم، والفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.
هذا وقد لجأ أبرهة في بناء "القليس" إلى السخرة، فضلا عن القسوة الشديدة التي كانت تصل إلى حد قطع يد العامل، إن تهاون أو تكاسل في عمله، ويروي "ياقوت الحموي" أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعًا من السخرة، وكان ينقل إليها أدوات البناء كالرخام والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس، صاحبة سليمان عليه السلام، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها.
وأيًّا ما كان الأمر ففي عام 570م، أو 571م، مات أبرهة بعد فشله الذريع في حملته المنكودة على مكة المكرمة، وخلفه ابنه "يكسوم" لفترة لا ندري مداها على وجه التحقيق، ويبدو أنه مارس الحكم منذ أيام أبيه، حين اختاره- فيما يرى جلازر- حاكمًا على أرض معاهر، وعلى أي حال، فلقد كان "يكسوم" هذا شرًّا من أبيه، كما كان أخوه وخليفته "مسروق" شرًّا من الاثنين، ويرى الأخباريون أنه حكم ثلاث سنين انتهت بقتله، وبخروج الأحباش من اليمن، بعد حكم دام نحو مائتي سنة على رأي، واثنتين وسبعين على رأي آخر، وإن كان الصحيح -فيما يرى العلماء المحدثون- أنه لم يدم أكثر من سبع وأربعين سنة "525-572م"، على رأي، وقرابة نصف قرن "525-575م" على رأي آخر؛ وذلك لأن هؤلاء الباحثين إنما يرون أن حملة أبرهة على مكة المكرمة "عام الفيل" إنما كانت في عام 552م على رأي، وعام 563 على رأي آخر، وكلاهما يخالف المعهود من أن الحملة إنما كانت في عام 570م، أو عام 571م.          
                                حركة التحرير والسيطرة الفارسية:
مرت الأيام ثقيلة كئيبة على أحرار اليمن، ولم تكن للسياسة الاستبدادية التي خطها أبرهة -وسار على منوالها خليفتاه من بعده- من نتيجة، سوى نفور اليمنيين من حكم الأحباش، والرغبة في التخلص من احتلالهم البغيض، وزاد الطين بلة أن الأزمة الاقتصادية قد استحكمت في ظل الاحتلال الأثيوبي، فبينما كان الحكام المسيحيون يبنون الكنائس ويحاولون الاندفاع نحو الشمال -كما فعل أبرهة- كانت البلاد تزداد اضمحلالا، لخمود النشاط التجاري الذي كان يتوقف عليه بقاؤها إلى حد كبير، ذلك لأن الحياة الاقتصادية في بلاد العرب الجنوبية، إنما كانت تقوم على التجارة الدولية -فضلا عن مواردها الزراعية- حيث أن هذه البلاد العربية الجنوبية، إنما كانت مركزًا أساسيًّا لتبادل السلع، وكانت مرسى المحيط الهندي للتجارة مع البحر المتوسط، كما أتاحت القواعد التجارية التي أقامها العرب الجنوبيون على سواحل الهند والصومال لهم احتكار تجارة الذهب والبخور والمر وأخشاب الزينة، التي تصدرها تلك المناطق إلى الشمال.
غير أنه في فترة الاحتلال الحبشي هذه، ازداد استعمال الطرق البحرية التي سيطر عليها الرومان والمصريون والهنود، فكانت هذه المنافسة الجديدة كارثة على تجارة القوافل بين العربية الجنوبية، وبين أرض الرافدين وفلسطين، وأخيرًا أدى انهيار سد مأرب في عام 543م، إلى خراب أراضي الري اليانعة، وسدد ضربة الموت إلى ازدهار البلاد، محولا إياها إلى مناطق مقفرة، إلا القليل من أرضها التي ترويه الأمطار الصيفية أو تنساب فيه بعض السيول أو الجداول.
ومن ثم فقد كانت الثورات تقوم الواحدة تلو الأخرى، حتى جاءت الفرصة المنتظرة في شخص زعيم وطني من "حمير" يدعى "سيف بن ذي يزن" ويكنى "أبا مرة"، وهو معد يكرب بن أبي مرة"، والذي فر أبوه "أبو مرة بن ذي يزن" إلى الحيرة والتجأ إلى ملكها "عمرو بن هند" بعد أن انتزع منه أبرهة زوجه "ريحانة بنت علقمة" وأم ولده "سيف" هذا، ثم أولدها أبرهة ولده "مسروق" وابنته "بسباسة".
وتذهب بعض الروايات إلى أن "سيفًا" هذا، إنما قد توجه أول الأمر إلى "بيزنطة"، وحاول عبثًا إقناع قيصرها إرسال حملة تقاتل إلى جانب اليمنيين، الذين يبغون تحرير بلادهم من سيطرة الأحباش، وفي التقاليد المنقولة أن سيفًا إنما أخفق في الحصول على عون من القسطنطينية ضد الحبشة، لما يربط القيصر بحلفائه الأحباش من علاقات سياسية واقتصادية، فضلا عن الروابط الدينية، حتى أن المسعودي ليروي أنه رده قائلا: "أنتم يهود، والحبشة نصارى، وليس في الديانة أن ننصر المخالف على الموافق"، ثم إن مناصرة العناصر الوطنية في اليمن لن تزيد القيصر على ما كان يلقاه من امتيازات في اليمن، امتيازات أخرى.
وهكذا فشل "سيف بن ذي يزن" في أن يحصل على أي عون من الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم فقد اتجه إلى فارس لتشد أزره، أسوة بمناصرة الروم للأحباش، ويبدو أنه لجأ إلى النعمان بن المنذر حاكم الحيرة حتى يقدمه إلى "كسرى أنوشروان" "531-589م"، على رواية، أو أنه اتصل به مباشرة بناء على وعد سابق لأبيه بالمساعدة، على رواية أخرى، وأيًّا ما كان الأمر، فإن كسرى قد شق عليه أن يضحي بأبناء فارس، ويطعمهم لرمال الصحراء القاسية، ومن ثم فقد قال له: "بعدت بلادك عنا وقل خيرها، والمسلك إليها وعر، ولست أغرر بجيشي"، وأمر له بمال، فخرج "سيف" وجعل ينثر الدراهم فانتهبها الناس فسمع كسرى، وعندئذ سأله عما حمله على ذلك، فقال: لم آتك للمال، وإنم جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل والهوان، وإن جبال بلادي ذهب وفضة"، فأعجب كسرى بقوله، وقال: "يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني".
وسواء أصحت هذه الروايات، أم أنها من نوع أساطير الأخباريين، فالذي لا شك فيه أن الأحباش قد أصبحوا أصحاب الكلمة العليا في سياسة العربية الجنوبية، منذ اختفاء ذي نواس من المسرح السياسي في اليمن، ومن ثم فقد عملوا على تدعيم المسيحية، وإتاحة الفرصة للنفوذ الروماني من أن يقوى ويشتد، الأمر الذي أزعج الفرس إلى حد بعيد، فعملوا على بث النفور في نفوس اليمنيين ضد الأحباش والرومان على السواء، ومن هنا نرى الهمداني يحدثنا عن نقش وجده في بلاد الحميريين- وإن ذهب البكري إلى أن قريشًا إنما وجدته في أساس الكعبة عند إعادة بنائها قبل البعثة -على حجر مكتوب بالمسند، جاء فيه "لمن ملك ذمار؟ لحمير الأخيار، لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار، لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار".
وأيًّا ما كان الأمر، فإن الرواية تذهب بعد ذلك إلى أن "كسرى أنوشروان" "531-589م" قد استشار وزراءه في الأمر، وتمت الموافقة على مساعدة "سيف بن ذي يزن"، ربما تحقيقًا لحلم فارس في السيطرة على طريق التجارة عبر البحر الأحمر، فضلا عن القضاء على النفوذ الروماني -السياسي والاقتصادي والديني- في اليمن، وأن تكون الحملة على اليمن من نزلاء السجون الفارسية، وأن يتراوح عددها بين ثمانمائة أو أكثر- وإن كانت هناك رواية جعلتهم سبعة آلاف وخمسمائة فارس- وأن تكون تحت قيادة الضابط الفارسي "وهريز"، وأن يتزوج الفرس من نساء اليمن، وأن لا يتزوج اليمنيون من النساء الفارسيات، فضلا عن خراج سنوي يحمله "سيف بن ذي يزن" إلى فارس، وهكذا وجدت فارس في طلب يهود العرب ووثنيهم مؤازرتها ضد الدولة النصرانية، وسيلة للتوسع في بلاد العرب، ومن ثم فإن بادية الشام في الشمال، وإن حالت دون توسع القوى الكبرى في تلك الفترة من التاريخ في شبه الجزيرة العربية، فقد أصبحت أرض الجنوب مدخلا لتلك الدول توصلها إلى قلب البلاد.
وتبحر الحملة إلى اليمن في ثماني سفائن، غرقت منها سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، وهنا يروي الإخباريون رواية، تكررت من قبل مع "أرياط"، إذ يزعمون أن "وهريز" قد أمر بأن تحرق السفائن جميعًا، ليعلم جنوده أنه ليس أمامهم، سوى النصر أو الموت، وأنه سأل "سيفًا" عما عنده، فأجابه: "ما شئت من رجل عربي وسيف عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك، حتى نموت جميعًا أو نظفر جميعًا"، وعلى أي حال، فإن الحملة ما أن بلغت اليمن حتى انضم إليها الكثير من أتباع سيف، وفي نفس الوقت سار إليها "مسروق" في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب- طبقًا لبعض الروايات- إلا أن المعركة سرعان ما انتهت باندحار الأحباش وأتباعهم، ولقى "مسروق" حتفه فيها، ودخل "وهريز" صنعاء، وملك اليمن، ونفى عنها الحبشة، ثم تركها -بأمر من كسى أنوشروان- لسيف بن ذي يزن، الذي رضي بدفع جزية وخراج يؤديه كل عام.
وهكذا نجح العرب اليمنيون في تحرير بلادهم من ربقة الاستعمار الحبشي، وقنع الفرس -على ما يبدو- بإقامة حكم وطني في اليمن يدين بالتبعية لهم، ومن ثم فقد أصبح "سيف بن ذي يزن" ملكًا على اليمن، في حوالي عام 575م، فيما يرى المؤرخون المحدثون، وإن كان حكمه لم يشمل كل أنحاء البلاد، بل يبدو أن هناك رجالا من الفرس كانوا يحكمون في اليمن، منذ حوالي عام 598م، وأنهم كانوا يحملون لقب "وال ستراب"، وعلى رأسهم من لقبه العرب بـ "الإصبهبذ"، وهذا يدل على أن الفرس قد استمرءوا المرعى فأقاموا في البلاد، وكأني بالعرب الجنوبيين وقد استبدلوا استعمارًا باستعمار.
وعلى أي حال، فإن خلاص اليمن من نير الاحتلال الحبشي كان له رنة فرح هائلة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على "سيف بن ذي يزن" يهنئونه بتحرير البلاد وعودة الملك إليه، ومن هذه الوفود وفد إمارة مكة برياسة سيدها وكبيرها "عبد المطلب بن هاشم"- جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه أمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن خويلد بن عبد العزى، في ناس من أشراف قريش، فأعظمهم سيف وأجلهم، ووصلهم بذهب وفضة، وإبل وجوار وعبيد، وقيل أنه أعطى عبد المطلب أضعاف ما أعطى غيره من الوفد، وهنا لم يرض أصحابنا الأخباريون أن يكون "سيف بن ذي يزن" أقل من غيره من ملوك اليمن العظام، الذين بشروا بمبعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن ثم فقد جعلوه يبشر عبد المطلب بمولد مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ويخبره بما يعلم عنه.
ويرى الدكتور جواد علي أننا إذا أخذنا برواية المسعودي وغيره عن وفد مكة، وبما يذكره أهل الأخبار من أن فترة الاحتلال الحبشي لليمن كانت اثنتين وسبعين سنة، فإن الوفد المكي يجب أن يكون قد ذهب إلى صنعاء في عام 597م، الأمر الذي يتناقض ووفاة عبد المطلب في العام الثامن من حملة الفيل -أي حوالي عام 578 أو 579م- وفي المؤرخين المحدثين، والذين ذهبوا إلى أن طرد الأحباش من اليمن، إنما كان في عام 575م، ومن ثم تصبح زيارة وفد مكة برياسة "عبد المطلب لليمن، أمرًا مقبولا.
وإذا ما عدنا مرة أخرى إلى "سيف بن ذي يزن"، لوجدناه يتخذ سياسة في منتهى العنف بالنسبة إلى البقية الباقية من الحبش، فقتل البعض، واتخذ من البعض الآخر عبيدًا يسعون بين يديه بالحراب، ويبدو أن هذه المعاملة القاسية قد أثرت في نفوسهم، حتى أنهم انتهزوا أول فرصة، فوثبوا عليه وقتلوه.
ويعلم "كسرى" بالأمر، فيرسل، "وهريز" في أربعة آلاف من الفرس، ويأمره ألا يترك باليمن أسود، ولا ولد عربية من أسود، إلا قتله، صغيرًا كان أم كبيرًا، ولا يدع رجلا جعدًا قططًا قد شرك فيه السواد، إلا قتله"، ويفعل "وهريز" ما أمر به كسرى، فيستأصل البقية الباقية من الأحباش في اليمن.
ويبدو أن الفرس -الذين كانوا قد توسعوا في شبه الجزيرة العربية- قد طمعوا في اليمن، لأهميتها التجارية والسياسية "أولًا"، ليمنعوا بيزنطة من الاستيلاء عليها "ثانيًا"، ويبدوا كذلك أن "سيف بن ذي يزن" كان قد أحس بتدخلهم في كل شئون بلاده، ومن ثم فقد بدأ يعد العدة للتخلص منهم، كما تخلص من الأحباش من قبل، إلا أن الفرس كانوا قد فطنوا إلى خطته، ومن ثم فقد تآمروا عليه ودبروا أمر قتله، وربما كان بعض الأحباش وسيلتهم إلى ذلك، حتى تصبح اليمن واحدة من ولايات الإمبراطورية الساسانية.
وأيًّا ما كان الأمر، فلقد أصبح أمر اليمن بيد "وهريز" من قبل كسرى، ثم جاء من بعده ولده "المزربان" ثم حفيده "البينجان" ثم "خرخرة" بن "البينجان" وأخيرًا "باذان" الذي قدر له شرف الدخول في الإسلام، وهنا لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن حكم الفرس لليمن، إنما كان يكاد يكون مقصورًا على العاصمة "صنعاء" ومجاوراتها، وأن قبائل اليمن إنما كانت تتمتع أبدًا بحريتها، وأن الحكم فيها إنما ترك لأبناء الملوك من الأسر المالكة القديمة، وللأقيال والأذواء، وهم الذين عرفوا عند الإخباريين بملوك الطوائف، وأن القبائل اليمنية أصبحت تعيش كبقية قبائل شبه الجزيرة العربية في صراع فيما بينها، كما أصبح لها أسواق، تشبه أسواق بقية عرب داخل شبه الجزيرة، تأمن فيها على دمائها وأموالها.
ومع ذلك فليس هناك من شك في أن الفرس قد كسبوا الكثير من احتلالهم لليمن، فقد أصبحوا يسيطرون سيطرة فعلية على الطريق البحري التجاري إلى الهند عبر البحر الأحمر، كما سيطروا كذلك على الطريق البحري التجاري إلى الهند عبر البحر الأحمر، كما سيطروا كذلك على الطريق البري- طريق الحجاز- ولم يلبث الفرس أن توجوا جهودهم بفتح الشام ومصر، وأدرك هرقل "610-641م" أن الفرس قد أصبحوا أصحاب السلطان الفعلي على سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر، وأنهم خنقوا دولة أكسوم الحبشية -حليفة الروم- ولكن هذا الوضع سرعان ما تغير سريعا، إذ تمكن هرقل من استرداد سلطانه على الشام ومصر بعد حملة بحرية واحدة.
أما اليمن فكان الأمر فيها مختلفًا إلى حد كبير، ففي السنة السادسة من هجرة مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل "باذان" في الإسلام، ومن ثم فقد قضى على اليهودية والنصرانية والوثنية في اليمن، فضلا عن الحكم الأجنبي -حبشيًّا كان أم فارسيًّا- في الفترة ما بين عامي 628، 630م، وإن كانت رواية الطبري يفهم، منها أن "باذان" إنما أسلم في عام 628م، حيث تذكر أنه أسلم بعد أن جاءته الأخبار من فارس بقتل "كسرى أبرويز" "590-628م" وتولية "شيرويه" بعده، والذي لم يبق على العرش أكثر من ثمانية شهور.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق