الخميس، 27 أغسطس 2015

دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء الرابع

الجزء الرابع: العرب البائدة

لعل من الأفضل هنا، قبل الحديث عن العرب البائدة، أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى ما جرى الأخباريون عليه من تقسيم العرب إلى طبقات، أو ما عرف في الكتب التاريخية بطبقات العرب.
طبقات العرب:
اتفق الرواة وأهل الأخبار -أو كادوا يتفقون- على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات:
 عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة ومستعربة وتابعة ومستعجمة.
على أن هناك من يجعلهم طبقتين: بائدة وباقية، فأما البائدة فهم الذين كانوا عربًا صرحاء خلصاء ذوي نسب عربي خالص -نظريًّا على الأقل- ويتكونون من قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا ومدين وغيرهم، وأما العرب الباقية- ويسمون أيضًا المتعربة والمستعربة- فهم الذين ليسوا عربًا خلصًا، ويتكونون من بني يعرب بن قحطان، وبني معد بن عدنان3.
وكان يعرب بن قحطان في قول الرواة -كما أشرنا من قبل- أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، أو أول من تكلم العربية، ولسنا الآن في حاجة إلى دحض هذه الروايات، فذلك أمر سبق لنا القيام به.
وهناك تقسيم ثالث يعتمد في الدرجة الأولى على النسب، فهم قحطانية في اليمن، وعدنانية في الحجاز، على أن "ابن خلدون" إنما ينحو نحوًا آخر، يقسم به العرب -طبقًا للتسلسل التاريخي- إلى طبقات أربعة، فهم عرب عاربة قد بادت، ثم مستعربة، وهم القحطانيون، ثم العرب التابعة لهم من عدنان والأوس والخزرج، ثم الغساسنة والمناذرة، وأخيرًا العرب المستعجمة وهم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية.
هذه هي التقسيمات التي رأى الأخباريون تقسيم العرب إليها -من ناحية القدم والتقدم في العربية- وهي تقسيمات يلاحظ عليها "أولًا" أنها لا ترجع إلى أيام العرب القدامى أنفسهم، وإنما إلى العصور الإسلامية، فليس هناك نص واحد يذكر هذه التقسيمات ويرجع في تأريخه إلى ما قبل الإسلام، حتى يمكن القول أنها من وضع العرب القدامى أنفسهم، ثم هي "ثانيًا" عربية صرفة؛ وذلك لأن المصادر اليهودية، وكذا المصادر اليونانية واللاتينية والسريانية، لم تتعرض لمثل هذه التقسيمات.
والرأي عندي أن هذه التقسيمات غير مقبولة، ومتعسفة كذلك، وذلك لأسباب منها:
"أولًا" أن القرآن الكريم لم يفرق بين العرب القحطانية والعدنانية، وإنما رفع العرب جميعًا إلى أب واحد، هو إبراهيم الخليل، عليه السلام، يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
"ثانيًا" ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام".
"ثالثًا" أن هناك من يعتبر "قحطان" نفسه من ولد إسماعيل عليه السلام، اعتمادًا على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بناس من "أسلم خزاعة" -وهم من قحطان- وكانوا يتناضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" ، ومن ثم فإن "ابن خلدون" يذهب إلى أن جميع العرب إنما هم من ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عدنان وقحطان يستوعبان العرب العدنانية والقحطانية.
"رابعًا" أن ابن عباس، روى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "انتسب فلما بلغ عدنان وقف، فقال كذب النسابون، كما روى ابن إسحاق- عن يزيد بن رومان -أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "استقامت نسبة الناس إلى عدنان"، فإذا صح هذان الحديثان الشريفان، فيمكننا القول أن عدنان هو القرم الأول للقبائل العربية، عدا من سماهم الكتاب العرب بالقبائل البائدة.
"خامسًا" أن الأخباريين عندما حاولوا كتابة أنساب العرب، إنما اعتمدوا إلى حد كبير على سلسلة الأنساب في التوراة، ومن ثم فقد رفعوا من نسل قحطان، فهم العرب العاربة، ونزلوا بنسب بني إسماعيل، فهم العرب المستعربة، أحدث نسبًا من غيرهم من القبائل البائدة والعاربة في نظر كتاب الجنوب، وبالتالي فهم أقل شأنًا من قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية، وهكذا كان الكتاب المسلمون مروجين لنظرية التوراة في الأنساب، وجهلوا -أو تجاهلوا- أن التوراة إنما كتبت ذلك لترفع من شأن بني إسحاق على بني إسماعيل، ولتجعل منهم دون غيرهم الأمة المختارة، وسلسلة النسب المصطفاة، على بني إسماعيل بالذات، وجهلوا -أو تجاهلوا -أن الخليل، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، إنما كان عربيًّا خالصًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى ذريته من بني إسماعيل.
"سادسًا" أن الشعر الجاهلي لم يرد فيه ذكر لتقسيم العرب إلى قحطانية وعدنانية، وإن وردت فيه أبيات يتفاخر أصحابها بعدنان أو قحطان، ترجع في أغلب الظن إلى الحقبة القريبة من الإسلام، كما أن هذا التفاخر -أو حتى الهجاء- لا يصح أن يكون أساسًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس القبائل العربية.
"سابعًا" أن ما يراه الإخباريون من أن العداء كان مستحكمًا بين العدنانيين والقحطانيين من قديم، حتى رووا أن كل فريق منهم، إنما اتخذ لنفسه شعارًا في الحرب يخالف الآخر، فاتخذ المضريون العمائم والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن العمائم الصفر، فإنما أصل هذا العداء ما كان بين الحضارة والبداوة من نزاع طبيعي، وكان توالي الوقائع والحوادث يزيد في العداء، ويقوي روح الشر بينهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما كان من العداء الشديد بين أهل المدينة -من أوس وخزرج، وهم على ما يذكر النسابون قحطانيون، وأهل مكة-وهم عدنانيون- وقد استمر هذا التنافس بينهم بعد الإسلام، وكان بين القومين حزازات ومفاخرات، وكل يدعي أنه أشرف نسبًا، وأعز نفرًا.
"ثامنًا" أن علماء الأنثروبولوجيا لم يلاحظوا فروقًا واضحة بين العدنايين والقحطانيين، وإن كان من العجيب أن الدراسات الأنثروبولوجية التي أجريت على أفراد من القبائل العربية الجنوبية، قد أثبتت فروقًا بين أفراد هذه القبائل، هذا إلى أن الجماجم التي عثر عليها من عهود ما قبل الإسلام تشير إلى وجود أعراق متعددة بينها، فإذا كان ذلك صحيحًا، فربما كان السبب في هذا هو الاختلاط الجنسي عند القبائل العربية الجنوبية، والذي كان نتيجة هجرات من وإلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن هنا كان التشابه بين أهل عمان وبين سكان السواحل الهندية المقابلة لها، ثم بين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية وتهامة، وبين سكان أفريقيا الشرقية، وإن كان أكثر احتمالا في الحالة الأخيرة أن تلك القبائل في إفريقيا الشرقية، ربما كانت نتيجة هجرات عربية عن طريق باب المندب إلى إفريقيا.
"تاسعًا" أنه لم يظهر أي انقسام بين العرب على أيام الرسول -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وكذا على أيام خليفتيه الصديق والفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- كما أن الروايات الخاصة بتنظيم الفاروق عمر بن الخطاب لديوان المظالم لم يرد فيها ما يشير إلى أي انقسام أو تمييز بين القحطانية والعدنانية كجنس، وإنما كانت القربى من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي الأساس، ثم يتفاضل الناس بعد ذلك على مقدار سبقهم في الإسلام، وعلى أي حال، فلقد كان بنو هاشم -بيت النبوة- قطب الترتيب، وأن هذا التسجيل قد تم سنة خمس عشرة للهجرة على رأي، وسنة عشرين على رأي آخر.
"عاشرًا" أن الحروب التي قامت بين الإمام عليٍّ -كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وبين خصومه، لم تكن حروبًا بين قحطانيين وعدنايين، وإنما كانت بين العدنايين أنفسهم، والأمر كذلك بالنسبة إلى حروب اشتعل أوارها بين القحطانيين أنفسهم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن الحروب التي دارت رحاها بين العدنانيين والقحطانيين، أو بين فريق وفريق من هذه القبيلة أو تلك، لا تكاد تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فخرًا بأسماء القبائل أو الأحلاف التي انضمت إلى هذا أو ذاك، تسمع أسماء معد أو نزار أو مضر، ولعل هذا كله، يجيز لنا أن نقول -مع الدكتور جواد علي- كيف يجوز لنا أن نتصور انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين انقسامًا حقيقيًّا، وقد كانت القبائل تتحالف فيما بينها، وتحارب بعضها مع بعض بأحلاف قد تكون مزيجًا بين عدنانيين وقحطانيين، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان العرب قحطانيين وعدنانيين بالأصل، فكيف تحالفت "جديلة" -وهي من طيء- مع "بني شيبان- وهم من بني عدنان- لمحاربة "عبس" العدنانية، وكيف نفسر تحالف قبائل يمنية مع قبائل عدنانية، لمحاربة قبائل يمنية، أو لعقد محالفات دفاعية هجومية معها.
وهكذا يمكننا أن نفسر نظرية الطبقات هذه، بأن الظروف السياسية لعبت دورها في تكوينها، وإن شاء أصحابها الرجعة بها إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم لها، ذلك أن بني أمية، حين وضعت الأقدار أمور المسلمين بأيديهم، إنما عملوا على إحياء العصبية الأولى بين القبائل وضرب الواحدة منها بالأخرى رغبة منهم في السيطرة على القبائل جميعًا، وشغلها عما يقترفه الواحد منهم أو الآخر من أخطاء، وقد تسبب هذا الوضع -في أغلب الأحايين- في الإساءة إلى القبائل الجنوبية إلى حد كبير، وسرعان ما انتهزت هذه القبائل فرصة قيام دولة بني العباس -التي اعتمدت عليهم إلى حد كبير- فعملت على استعادة ما فقدته على أيام الأمويين، وبدأ الإخباريون -ومعظمهم من قبائل الجنوب- يكتبون عن الأنساب، وعن التاريخ العربي القديم، وكان موضع الخطر في هذا، أنهم بدءوا يكتبون وهم في البصرة والكوفة، ومن ثم فلم يجدوا من المصادر التي يعتمودون عليها، إلا ما كان قريبًا منهم، وكانت التوراة -وما يدور في فلكها من تصانيف- قد امتلأت بها مكتبات العراق، ومن ثم فقد نقلوا عنها ما كتبته عن قحطان وإسماعيل وهاجر وسبأ وبعض قبائل الجنوب، زاد الطين بلة، أن العصبية لدى اليمنيين قد لعبت دورًا خطيرًا في الأنساب، ومن ثم فقد نسبوا معظم القبائل البائدة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، كما أنهم لم يكتفوا بنسب أنفسهم، وإنما كانوا ينسبون غيرهم إليهم كذلك، بل إن الأمر قد وصل إلى أن تتخذ لفظة "الأنصار"- والتي أطلقت على أهل المدينة من أوس وخزرج، بسبب نصرتهم لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكأنها قد أصبحت نسبًا، مما ضايق بعض رجالات قريش، وبدأ شعراء المدينة يفخرون بأصلهم اليمني، وبأنهم من أقرباء الغساسنة وذوي رحمهم، كما استعملوا لفظة الأنصار في مقابل قريش ومعد ونزار.
ومن عجب أن بعض النزارية في هذا الجو المحموم بالعصبية افتخروا بالفرس على اليمنية، وعدوهم من ولد إسحاق بن إبراهيم، ومن ثم فقد أصبح إبراهيم جد الفرس والعرب، ولم تكتف النزارية بذلك، بل زعمت أن هذا النسب قديم، معتمدين في ذلك على شعر نسبوه إلى شاعر جاهلي، وجاراهم الفرس في هذا الزعم، تقربًا إلى الحكومة وهي عدنانية، فضلا عن أسباب سياسية أخرى، لا شك أن منها إثارة العصبية البغيضة بين العرب أنفسهم، ويبدو أن العدنانيين لم يكتفوا بربط نسبهم بالفرس والإسرائيليين، وإنما ربطوه كذلك بالأكراد، حين نسبوهم إلى "ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل.."، فكان رد القحطانيين أن جعلوا اليونان من ذوي قرباهم، بل إن الترك كذلك أصبحوا من حمير.
وعلى أن "ألويس موسل" إنما يرى أن أسطورة الأنساب هذه، إنما بدأت فيما قبيل الإسلام، ولما كان لليمن في الجاهلية مقام عظيم، فقد انتسب الكثيرون إلى اليمن، ثم جاء علماء الأنساب -متأثرين بالعوامل الآنفة الذكر- فسجلوها على أنها حقيقة واقعة.

العرب البائدة:
مدخل
لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقوامًا قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقوامًا لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قومًا قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئًا لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة، وربما كان المقصود بلفظة "بائد" عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام.
ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى "بالبائدة" فإنما يعالجونه على هذا الأساس3، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضًا من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الأغارقة والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية.
أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت -ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش إن شاء الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة تلك الحضارات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ، وأما أهم القبائل البائدة التي سنتناولها هنا بالدراسة الموجزة فهي عاد وثمود ومدين وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا.
1- عاد:
ينظر الأخباريون إلى قوم عاد، على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة، حتى أصبحت كلمة "عادي" و"عادية" إنما تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم، وحتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارًا قديمة لا يعرفون تاريخها أطلقوا عليها صفة "عادية"، وربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادًا -ومن بعدها ثمود- قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، ومن ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الإخباريين في قوائم أنسابهم، لكان علينا أن نقدم طسم وعمليق وأميم وغيرهم على عاد وثمود، ذلك لأن الأولين من وجهة نظرهم إنما هم من أولاد "لاو بن سام" شقيق "إرم" وأن الآخرين من حفدة "إرم"، ولكن الأخباريين أنفسهم إنما يقدمون عادًا على بقية الشعوب.
ولقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، ونبيهم هود عليه السلام، فجاء ذكرهم في كثير من سور القرآن الكريم، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة "هود" كما أن هناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أن هناك عادًا الأولى، وعادًا الثانية، وأن عادًا الأولى إنما هم عاد إرم الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام2، وأن عادًا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان وسبأ وتلك الفروع، وربما كانوا هم ثمود.
2- ثمود:
تكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودًا إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودًا إنما كانت باليمن قديمًا، فلما ملكت حميرًا أخرجوها إلى الحجاز، ولسنا في حاجة إلى التدليل الآن على خطأ هذا الاتجاه، فذلك أمر سبق لنا مناقشته في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآن".
وعلى أي حال، فإن الدراسات الحديثة تثبت أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ، وتركوا لنا آثارًا ونقوشًا في كل مكان من هذه الأرضين، التي تمتد من الجوف شمالا إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا إلى يثرب فأرض مدين غربًا، ومن المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، وحتى في أرض حضرموت من جنوب الجزيرة، وإن ذلك لدليل على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال شبه الجزيرة العربية.
وليس من شك في أن قصة ثمود أوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد والنقوش الآشورية تتحدث عنهم، من بين مَن تحدثت عنهم من قبائل، وقد دعتهم "تامودي"، كما تحدث عنهم الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان من أمثال "أجاثار خيدس" و"ديودور" و"بليني" و"كلوديوس بتولمايس"، وصاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" وغيرهم.
وأما القرآن الكريم، فقد ذكرهم في كثير من سوره، هذا إلى جانب أن كثيرًا من الآيات الكريمة قد قرنت قوم عاد بثمود، كما في سورة التوبة وإبراهيم والفرقان وص والنجم والفجر، وقد استدل البعض من كلمات "رجفة" و"صيحة" التي جاءت في القرآن الكريم على أن ثمودًا إنما أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران البراكين أو من الهزات الأرضية، وربما كان الأمر كذلك، فمنطقة إقامتهم إنما هي واحدة من مناطق الحرارة في شبه الجزيرة العربية.
3- طسم وجديس:
ينسب الأخباريون "طسم وجديس" إلى "لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"، مع قليل أو كثير من التعديل في هذا النسب كالعادة، وأنهما كانا قريبًا عهد بعاد الأولى، أما موطنها فكان في منطقة اليمامة، والتي كانت تسمى "جو" من قبل، ولكن يبدو أن هذا لم يكن هو الوطن الأول، ومن ثم فعلينا أن نبحث عنه في مكان آخر.
لقد حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا، وهذا يعني أن بداية استقرار "طسم" إنما كان في منطقة العلا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منطقة اليمامة، وهذا القول لا يبدو غريبًا ويمكن تصوره، فنحن نعرف أن أحد الطرق التجارية يبدأ من جنوب بلاد العرب، من "عدن" أو"قنا"، فمدن الحجاز "مكة، المدينة، خيبر" إلى أن يصل إلى العلا، ثم يتجه إلى الشمال، وهناك طريق ثان يبدأ من الجنوب أيضًا، مارًّا بالحافة الغربية للربع الخالي، متجهًا إلى اليمامة، ثم ينحدر باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة العلا ومدائن صالح، فبلاد الشام، أو إلى مصر، إذن فمن المحتمل أن يكون نزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصادي في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من قبيلة ديدان- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين.
وفي الواقع أننا لا نملك مصادر يعتمد عليها في التأريخ لهما، فالقرآن الكريم لم يتحدث عنهما، والاكتشافات الأثرية لم تصل إليهما، وكتابات الأمم الأخرى لم تذكرهما، إذا استثنينا إشارة التوراة عن طسم، ومن هنا فالشك يحيط بتاريخهما من كل جانب، ومع ذلك فقد حاول البعض أن يلم بشتات ما كتب عنهما، ليخرج لنا صورة عنهما، أقرب إلى الحكايات منها إلى التاريخ الصحيح.
ومع ذلك، فعلينا ألا نتعجل في الحكم عليهما، كما فعل نفر من المستشرقين، فذهب إلى أنهما من الشعوب الخرافية، فقد تأتي لنا الأيام بمعلومات عنهما قد تغير الصورة الحالية إلى حد كبير، ويبدو أنها بدأت تفعل، فلقد عثر في "صلخد" على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم"، كما أن التوراة قد أشارت إلى "طسم"، على أنه من نسل "دادان بن يقطان" أضف إلى ذلك أن بعضًا من المستشرقين يرى أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisiae" الوارد في جغرافية بطليموس، هو اسم قبيلة من قبائل شرق بلاد العرب، وأنها "جديس" بعينها، وأنها كانت معروفة حوالي عام 1253م، بل ومزدهرة كذلك. ويصفها المسعودي -هي وأرض طسم- بأنها من أفضل البلاد وأكثرها خيرًا، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة.
هذا وينسب الإخباريون إلى القبليتين كثيرًا من المواضع، فإلى "طسم" ينسب حصن المشقر، بين نجران والبحرين، وإلى "جديس" ينسب قصر معنق والشموس في اليمامة، فضلا عن بعض القرى في اليمامة كذلك، منها "حجر" حاضرة طسم وجديس.
وهناك "جعدة" والتي يصف "الهمداني" جُدرها، بأنها تسمح بأن يركض عليها أربع من الخيل جنبًا إلى جنب، وأن بها حصنًا قديمًا ظل باقيًا حتى أيامه، وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبن، وفي هذا دلالة على خصب التربة ووفرة الأرض الطيبة والماء، كما هو الحال في العراق ومصر منذا أقدم العصور، هذا إلى جانب "الخضرمة" "جو القديمة" التي كانت تسكنها جديس -في مقابل الخضراء لطسم- فضلا عن "الهدار" و"ريمان".
وقصة القبيلتين العربيتين -كما يقدمها الأخباريون- تذهب إلى أن الغلبة إنما كانت من نصيب "طسم"، وأن أولي الأمر وأصحاب السطوة، إنما كانوا منها كذلك، ومرت الأيام وانتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم، استذل جديس وانتهك أعراضها، حتى جعل سنته السيئة، ألا تزف البكر من جديس إلى بعلها، قبل أن يقضي منها وطره، إلى أن كان يوم زفت فيه امرأة من جديس تدعى "الشموس" "عفيرة بنت غفار بن جديس" إلى رجل من قومها، وعندما حملت إلى ملك طسم ليفترعها أولًا، سمعت من عبيده ما مس كرامتها، وأهان شرفها، فخرجت من فراش ملك طسم ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام، ثم أخذت تنشد شعرًا في قصيدة طويلة، تثير به نخوة قومها.
وتستمر الأقصوصة، فتذهب إلى أن أخا الشموس "الأسود بن غفار بن جديس" سيد قومه وصاحب الرأي فيهم، قد تحركت نخوته، كما أحس المذلة قومه من جديس، فاتفق القوم على ملك طسم، ومن ثم فقد نصبوا له ولخاصة قومه الشباك، وكتب لهم في مهمتهم هذه نجحا بعيد المدى، واستطاع رجل من طسم أن يفر من المذبحة، وأن يستنجد بحسان بن تبع ملك حمير، الذي يعد جيشًا كثيفًا، بغية أن يقضي به على جديس، وبينما كان هذا الجيش العرمرم على مبعدة ثلاثة أيام من اليمامة، يخبر هذا المستجير -ويسمونه رباح بن مرة- ملك حمير، أن له أختًا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم منهم، ومن ثم فإنه يقترح أن يحمل كل جندي فرعًا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفجئوا جديسًا قبل أن يتحوطوا للقائهم.
وتطلعت أخت الطسمي -وتدعى زرقاء اليمامة- إلى ناحية الجنوب الغربي، وصاحت في جديس تحذرهم من حمير، فهي ترى شجرًا يتحرك ومن ورائه جنودًا تحمل سلاحًا، ولكن القوم ظنوا بها الظنون فلم يصدقوها، حتى حلت الكارثة، فأبيد الرجال، وسبيت النساء، وقتلت الأطفال، وهدمت البيوت والحصون، وفقئت عيني الزرقاء، وتغير اسم مساكن طسم وجديس من "جو" إلى اليمامة، وهكذا كان فناء جديس على يد الحميريين، ومن ثم فقد لحق القومان "طسم وجديس" بعاد وثمود، وصاروا من العرب البائدة.
هذه هي القصة التي تدور حول الحيين العربيين طسم وجديس -وهي فيما نظن- لا تعدو أن تكون واحدة من القصص الشعبي، ومن الغريب أن القصة تكاد أن تكرر نفسها بين العرب واليهود في المدينة، فضلا عن شبه قريب بينها وبين قصص أخرى يرويها الأخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء، وفعل المنكر فيهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ "بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام" وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي.
أضف إلى ذلك أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "عفيرة" ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من قدام ومن خلف، فيغضب أخوها -كما غضب أخو فضلاء في يثرب- ويقبل "عملوق" ملك طسم، هذا إلى جانب أن القصة تصور المرأة -وليس الرجل- هي التي تأنف من العار وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، ومن ثم فإننا نرى "عفيرة" تقول:
لا أحد أذل من جديس .................................................... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا يقوم بعل حر ........................................ أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ............................................. نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كرامًا وأميتوا عدوكم ...................................... ودبوا لنا الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ..................................... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ........................................ خلقتم لأثواب العروس وللنسل
ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في قصة "الزباء" ملكة تدمر المشهورة.
وأما الفترة التي عاشت فيها قبيلتا "طسم وجديس"، فهي -طبقًا للرواية الآنفة الذكر- إنما كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي، أو أوائل القرن الخامس الميلادي، على أن "ده برسيفال" إنما يرى أن إغارة الحميريين على جديس إنما كان بعد عام 140م، وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، ومن ثم فقد أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى، والتي ربما عاشت في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، هذا إلى أن ذلك إنما يتعارض وما رآه البعض من أن بطليموس الجغرافي إنما كان يقصد باسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" قوم جديس، وأنهم كانوا معروفين حوالي عام 125/.
أضف إلى ذلك أن الفترة التي حكم فيها التبابعة جنوب بلاد العرب، كانت فيها دولة "كندة" هي المسيطرة على منطقة اليمامة، ومن ثم يمكننا القول أن قبيلتي طسم وجديس كانتا معاصرتين لدولة ديدان، وربما انتهتا بنهايتها، أي أننا يمكننا أن نؤرخ لهما فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ولا نشك في أن الكشف الأثري سوف يؤكد أو يعدل أو يأتي بتاريخ لا يبعد كثيرًا عن هذا التاريخ، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض جماعات من "جديس" بعد هذا التاريخ، دون أن يكون لها نفس الكيان الذي كان لها من قبل، ولعل هذه الجماعات هي التي عناها بطليموس، إن كان حقًّا أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" إنما يعني في نظره قوم جديس
4- أميم:
وهم في نظر الأخباريين في طبقة طسم وجديس، وينسبون إلى "لاوذ بن عمليق" أو "لاوذ بن سام بن نوح" أو "وبار بن إرم بن سام بن نوح" أو ما شابه ذلك من شجرات نسب، وأن من شعوبهم "وبار بن أميم"، برمل عالج بين اليمامة والشحر، وأن الرمال قد انهارت عليهم بسبب معصية أصابوها، وإن بقيت منهم بقية دعيت "النسناس".
ولعل أغرب ما في الأمر دعوى الأخباريين بأن ديار بين أميم، إنما كانت بأرض فارس، ومن ثم فقد رأى الفرس أنهم من أميم من ولده "كيومرث"، ولست أدري كيف اعتبر المؤرخون المسلمون بني أميم هؤلاء من طبقة العرب العاربة، ثم هم في نفس الوقت من الفرس؟ ثم ما هي العلاقة بين "وبار" و"أميم"، وهل صحيح أن "وبار" هذا شقيق "كيومرث" جد الفرس؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هذه القبيلة من العرب البائدة، أم هي قبيلة فارسية؟.
وهناك خلاف بين المؤرخين الأوربيين على ذلك الشعب العربي الذي دعاه بطيلموس "Jobaritae"، وهل هو شعب "وبار" أم أنه "يوباب"، وأن هناك تحريفًا في النسخ فصارت "الباء" "B" "راء" R" ومن ثم فقد أصبح "Jobabitae" وإن كنا لا نملك على هذا التحريف ما يدعمه من أدلة، هذا فضلا عن أنه على موضع قريب من المكان الذي عناه بطليموس الجغرافي تقع أرض "وبار" بين اليمن ورمال يبرين.
ومع ذلك، فإن شعب وبار -في رأي كثير من المستشرقين- إنما هو من الشعوب الخرافية، وليس هذا بالأمر الغريب على قوم يرون في كل الكتابات العربية، أو معظمها، شيئًا أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة، غير أن بعضًا منهم، ممن قدر له زيارة الأماكن التي ذهب الأخباريون إلى أنها أرض "وبار" لا يرون هذا الرأي، كما أن ذكرى "وبار" لا تزال في ذاكرة العرب حتى اليوم، ففي الربع الخالي أماكن كثيرة يزعم الأعراب أنها كانت مواضع وبار، وإن أضافوا إليها أساطير لا يقرها منطق ولا يقبلها عقل.
5- عبيل:
وعبيل هذه -فيما يرى الأخباريون- من ولد "عوص" أخي عاد وأنهم هم الذين اختطوا مدينة يثرب، إلا أن العماليق سرعان ما طردوهم منها، ومن ثم فقد نزلوا في مكان بين مكة والمدينة، حيث اجتحفهم سيل فذهب بهم، وسمي المكان "الجحفة" وتقرأ في التوراة عن "عيبال" أو "عوبال"، على أنه من ولد "يقطان" "قحطان في المصادر العربية"، ومن هنا رأى فريق من علماء التوراة أن "عبيل" من الممكن أن يكون "عيبال" أو "عوبال"، ويشير بطليموس إلى موضع يقال له "Avaiitae" على خليج يدعى بهذا الاسم "Avaiites Sinus" عليه مدينة تسمى "Avaiites Emporium" وسكانها يدعون "Avaites"، كما ورد الاسم عند "بليني" محرفًا إلى "Abaiitae" أو "Abaiites"، وربما كان هؤلاء هم "عوبال"، فيما يرى "فورستر"، وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل.
هذا ويحاول البعض أن يوجد صلة بين "عبيل" وبين مكان في اليمن بهذا الاسم، هذا إلى جانب قرية تدعى "عبال" على مقربة من صنعاء، على أن الحكم في مثل هذه الأمور، اعتمادًا على تشابه الأسماء، فيه من الخطورة ما فيه.
6- جرهم:
ينظر الأخباريون إلى جرهم على أنهم طبقتان، الواحدة من العرب البائدة، وقد كانت في مكة المكرمة على عهد عاد وثمود والعماليق، ثم أبيدت بأيدي القحطانيين، والأخرى من جرهم بن قحطان بن هود، وقد كانوا أصهارًا للنبي الكريم سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد آلت إليهم ولاية البيت الحرام حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن مكة المكرمة- وعلي أي حال، فلقد نزلوا بعد ذلك بين مكة ويثرب، ثم هلكوا بوباء تفشى فيهم.
7- العمالقة:
ينسب الأخباريون العماليق إلى "عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"، وهو شقيق طسم، هذا ويبالغ الأخباريون في أهمية العماليق وسعة انتشارهم بدرجة لا يمكن أن يقبلها منطق أو يقرها عقل، فيجعلونهم أممًا كثيرة تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان والحجاز والشام ومصر، فضلا عن أهل المدينة وبنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق وسعد بن هزان، وأهل نجد، وبديل وراحل وغفار هذا، وأخيرًا فقد كان منهم الجبابرة بالشام -وهم الكنعانيون- والفراعين بمصر، والأرقم ملك الحجاز بتيماء.
ولا شك في أن الاضطراب إنما يبدو واضحًا في روايات الأخباريين هذه، فضلا عن أثر التوراة الواضح فيها، فهم يرون أن أهل مصر من العماليق -والعماليق، في رأيهم، كجرهم من العرب العاربة-، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن أهل مصر من أبناء "مصرايم بن حام بن نوح"، وتلك في الواقع إنما هي رواية التوراة، وهكذا فإن المصريين -في نظر المؤرخين المسلمين- ساميون وحاميون في نفس الوقت، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكنعانيين، فهم من العماليق، وهم في نفس الوقت، أبناء "حام بن نوح"، وتلك -مرة أخرى- رواية التوراة وإذا كان الحقد الدفين من يهود ضد المصريين والكنعانيين والبابليين، هو الذي دفع بكتبة التوراة إلى إخراج هذه الشعوب جميعًا من الساميين، وجعلها من أبناء حام، فإن النقل عن يهود -والغفلة كذلك- هي التي دفعت بالمؤرخين الإسلاميين إلى هذا الموقف الخاطئ.
وأما عن الانتشار غير المقبول للعماليق، فلعله في أحسن الأحوال، إنما كان لأن العماليق قبائل بدوية، انتشرت هنا وهناك في عديد من الأماكن بشبه الجزيرة العربية، ثم جاء الأحباريون وجعلوهم سكانا لمناطق لا تقتصر على بلاد العرب وحدها، وإنما شمتل غيرها من المناطق المجاورة.
وأما أصل الكلمة "عماليق" أو عمالقة، فمجهول، وإن غلب على الظن أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهة العقبة أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، فأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا "عم ماليق" و "عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت: "عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أطلقت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القدامى.
ويكاد يتفق الإخباريون على أن العماليق عرب صرحاء، ومن أقدم العرب زمانا، ولسانهم هو اللسان المضري التي نطقت به كل العرب البائدة، بل ويذهب الطبري إلى أن عمليقا -وهو أبو العمالقة- كان أول من تكلم العربية حين ظعنوا من بابل، ومن ثم فقد كان يقال لهم -وكذا لجرهم- العرب العاربة، ومرة أخرى يظهر أثر التوراة في هذه الرواية، فهي لا تتعارض مع الرواية المشهورة التي تجعل "يعرب بن قحطان" أول الناطقين بالعربية فحسب، وإنما تجعل السريانية أقدم من العربية، وذلك حين جعلتها لغة الناس جميعًا، غير أن القوم قد انحرفوا إلى عبادة الأوثان، خنوعًا "للنمرود بن كوش بن كنعان بن حام" ملك بابل، وصاحب إبراهيم عليه السلام، ومن ثم فقد أصبح القوم ذات يوم، وقد بلبل الله ألسنتهم، فلا يفهم الواحد منهم الآخر، إذ "أصبح لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث سنة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس عمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح".
وهكذا فالرواية إذن لا تجعل شرف السبق في النطق بالعربية مقصورًا على "عمليق" وإنما شاركه فيه آخرون، ثم إنها تؤرخ للحادث بعهد "نمرود" صاحب إبراهيم عليه السلام وإبراهيم -كما هو معروف- لا يعده الإخباريون من العرب العاربة، فضلا عن أن يكون من أقدم العرب زمانًا،، ومن ثم فكل من ذكرهم الإخباريون على أنهم أصحاب السبق في النطق بالعربية، تأتي هذه الرواية فتجعلهم لا ينطقون بها إلا على أيام النمرود، صاحب إبراهيم عليه السلام "1940-1765ق. م".
وأخيرًا، فالرواية تحريف لرواية توراتية، أراد كاتبها أن يقدم لنا تفسيرًا لاختلاف اللغات والأجناس -كما فعلت الرواية العربية- فقدم لنا تفسيرًا ساذجًا غير علمي، ذهب فيه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رأى أن سلالة الناجين من الطوفان يبنون برجًا بغية الوصول إليه في علياء سمائه، وكانوا يحسبون السماء أشبه بلوح زجاج يعلو بضع مئات من الأمتار، فخشي شرهم واحتاط لنفسه فهبط الأرض وبلبل ألسنتهم، فتقرقوا شذر مذر، ومن ثم فقد سميت المدينة "بابل"، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ثم بددهم على وجه الأرض، أضف إلى ذلك كله، أن الرواية العربية إنما هي متأثرة بروايات تذهب إلى أن الموطن الأصلي للساميين إنما كان في بابل، بل ربما كانت أساسًا لنظريات حديثة تنحو هذا النحو.
وعلى أي حال، فالعماليق -في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين، وقد عدهم "بلعام" أول الشعوب، ربما لأنهم كانوا أول من اصطدم بالإسرائيليين في أثناء التيه في صحراوات سيناء، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض -طبقًا لرواية توراتية- من أنهم من سلالة "اليعازر بن عيسو" جد الآدوميين، وحفيد إبراهيم، ذلك لأن هناك نصًّا تواراتيًّا آخر يجعلهم يقيمون في جنوب غرب البحر الميت على أيام الخليل إبراهيم، وأنهم كانوا على أيام موسى الكليم منتشرين في كل صحراء التيه حتى حدود مصر، وفي معظم سيناء، وجنوب فلسطين، كما كان هناك "جبل العمالقة" في أرض أفرايم.
وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه، ونقرأ في التوراة أن العمالقة قد هاجموا بني إسرائيل المنهكين عند خروجهم من مصر وأسروا جميع مقاتليهم، كما نقرأ كذلك في التوراة أن العماليق قد أتوا لمحاربة بني إسرائيل في "رفيديم"، حيث ضرب موسى الحجر بعصاه، فانبثقت منه اثنتا عشرة عينًا، ويذهب "يوسف بن متى" المؤرخ اليهودي، إلى أن الإسرائيليين حينما وصلوا إلى "رفيديم" كانوا في حالة يرثى لها من العطش، ومن ثم فقد كان هجوم العمالقة عليهم ناجحًا.
وعلى أي حال، فإذا كانت "رفيديم" والتي أطلق الإسرائيليون عليها "مريبة" -وكذا قادش القريبة منها- تقعان حول البتراء، فهما إذن في جوار أرض العماليق الذين كانوا يتمكنون في سهولة من أن يهاجموا بني إسرائيل، متنقلين من معسكر إلى آخر، ومن أن يأسروا مقاتليهم، غير أن العمالقة قد أعانوا أعداء آخرين لبني إسرائيل، حتى بعد استقرارهم في فلسطين، ومن ثم فإننا نقرأ في التوراة أن العمالقة قد اتحدوا مع "عجلون" ملك مؤاب، الذي انتزع منهم مدينة النخل "أريحا"، كما كانوا كذلك حلفاء لأهل مدين وبني المشرق "بني قدم" الذين كانوا يسكنون في سهل يزرعيل، وهكذا استمر العماليق يغزون بني إسرائيل في فلسطين، تقول التوراة: "إذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، ويتلفون غلة الارض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا".
وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون في الانتقام من العماليق، وكان "شاول" "1020-100ق. م" هو أول ملك إسرائيلي يحارب العماليق، ونقرأ في التوراة أن الربَّ أمر شاؤل أن يحارب العماليق ويبيد كل ممتلكاتهم من ثيران وماشية وجمال وحمير، ومن هذا نفهم أن العمالقة إنما كانوا يمتلكون عددًا من القرى والديار، وأنهم قد عنوا بحرث الأرض وزراعاتها، فضلا عن تربية الماشية والأنعام.
وطبقًا لرواية التوراة، فإن شاؤل قد نجح في مهمته، وحقق للإسرائيليين -ولأول مرة- نصرًا على العماليق، كما يفهم من الرواية نفسها أن العمالقة إنما كانوا يسيطرون على طرق القوافل فيما بين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية.
وكان هناك طريقان يقعان في أرض العماليق، الواحد عن طريق برزخ السويس، والآخر عن طريق خليج العقبة، ولما كانت العلاقات التجارية بين مصر وغزة من ناحية، وبين جنوب بلاد العرب من ناحية أخرى، في غاية من الازدهار والنشاط، فقد كانت القوافل التجارية القادمة من غزة إلى العقبة تمر في أرض العماليق، فليس من شك في أنها إنما كانت تعترف بسلطتهم في هذا الجزء من الطريق القادم من غزة متجهًا إلى مصر، والأمر كذلك بالنسبة إلى جزئه الآخر المتجه نحو الجنوب الشرقي، أو أنها على الأقل كانت خاضعة لسلطة العمالقة في هذا الجزء المتاخم لساحل البحر من الطريق.
وفي أيام داود عليه السلام "1000-960ق. م" تدق الحرب طبولها من جديد بين بني إسرائيل والعماليق، وطبقًا لرواية التوراة فإن العمالقة قد غزوا بني إسرائيل، "وضربوا صقلع وأحرقوها بالنار وسبوا نساءها"، إلا أن داود قد كتب له نجحًا بعيد المدى في رد الغزاة، وفي استعادة الغنائم منهم، بل وفي استعادة بعض السبايا -ومنهم امرأتيه أخينوعم وأبجايل- كما تمكن قائد "يؤاب" من أن يخرجهم من ديارهم الأولى، وإن ظلت بقية منهم تسكن الجزء الجنوبي من جبل سعير، حتى أتى المهاجرون من قبائل شمعون فاحتلوا ديارهم، ومن ثم أصبحنا لا نجد للعمالقة بعد ذلك ذكرًا في النصوص.
بقيت نقطة أخيرة تتصل بعدم ذكر العمالقة في جملة قبائل العرب، وهذا
"أولًا" لا يدل على أن العمالقة لم يكونوا عربًا.
"ثانيًا" لأن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام.
   "ثالثًا" لأن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها بنو إسرائيل، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا، واليهود -كما معروف- قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها.
  "رابعًا" فإن العمالقة -في نظر اليهود- أقدم من القحطانيين والعدنايين، سواء بسواء.
8- حضوراء:
يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز.
وقد ربط القرآن الكريم بين أصحاب الرس وبين عاد وثمود مرة، وبينهم وبين قوم نوح وثمود مرة أخرى، واختلف المفسرون فيمن أرسل إليهم نبيًّا من رب العالمين، فذهب فريق إلى أنه "شعيب بن ذي مهرع" أو مهدم، ومسجده اليوم في رأس جبل حدة حضور بن عدي، ويعرف رأس الجبل ببيت خولان، وذهب فريق آخر إلى أنه "خالد بن سنان"، وكان رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قد تحدث عنه، فقال: "ذاك نبي ضيعه قومه"، وذهب فريق ثالث إلى أنه "حنظلة بن صفوان"، وقد وجد عند قبره هذه الكتابة "أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني الله إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن فكذبوني وقتلوني"
ويروي الأخباريون أن بختنصر- هو الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر "605-562ق. م" قد غزا حضورا وأعمل السيف فيهم، فقتل الغالبية العظمى منهم، بينما هجر بقيتهم إلى أماكن أخرى من إمبراطوريته، وأما سبب ذلك فأن القوم قد كفروا بنبي لهم يدعى "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن القدم بن حضور"، ومن ثم فقد أوحى إلى النبي اليهودي، "برخيا بن أخيبا" أن يترك نجران وأن يذهب إلى نبوخذ نصر، وأن يأمره "بغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم بسبب كفرهم".
ويصدع "نبوخذ نصر" بأمر "برخيا" اليهودي، ويبدأ بمن في بلاده من تجار العرب، فيبني لهم "حيرا" في النجف يحبسهم فيه، ثم ينادي في الناس بالغزو، وتسمع العرب بما حدث فتأتي إلى "نبوخذ نصر"، تطلب الأمان وتعلن الولاء والخضوع، فلا يقبل الملك البابلي ذلك منهم إلا بعد استشارة "برخيا"، ثم ينزلهم "السواد" على ضفاف الفرات، حيث يبنون معسكرًا لهم يدعونه "الأنبار"، ثم سرعان ما يشمل العفو العرب الأولين من أهل الحيرة، الذين يستقرون هناك طيلة أيام نبوخذ نصر في هذه الدنيا، فإذا ما انتقل الرجل إلى العالم الآخر، انضم القوم إلى أهل الأنبار وعاشوا بينهم.
وتستمر الرواية -ولعلها هنا تعتمد على مصدر غير مصدرها الأول- فتذهب إلى أن الله قد أوحى إلى "إرمياء" و"برخيا" أن يذهبا إلى "معد بن عدنان" ويحملانه إلى "حران" ليحفظا عليه حياته هناك، لأن الله سوف يخرج من صلبه من يختم به الأنبياء -المصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولأن بني إسرائيل قد بدءوا منذ مولد "معد بن عدنان" يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قُتِلَ "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، كما فعل ذلك أهل الرس وأهل حضورا بأنبيائهم، وأن النبيّيْن اليهودييْن -إرمياء وبرخيا- قد كتب لهما نجحا بعيد المدى في تحقيق مهمتهما، فقد حملا "معد" إلى حران في ساعة من زمان، وذلك لأن "برخيا" قد استعمل "البراق في مهمته، فحمل "معد" عليه، وأردف هو خلفه، ولأن الأرض كانت تُطْوَى لهما طيًّا.
وفي هذه الأثناء كان "نبوخذ نصر" قد جمع جيشًا كثيفًا لإفناء سكان بلاد العرب -بناء على رؤيا رآها في المنام، أو لأن برخيا بوحي من ربه قد أمره بذلك- وأيًّا ما كان السبب، فإن "عدنان" والد معد، قد جمع هو كذلك جيشًا كثيفًا من العرب لمقاومة هجوم الملك البابلي، وسرعان ما التقى الجيشان في "ذات عرق" ودار بينهما قتال شديد، كانت الغلبة فيه من نصيب البابليين، ومن ثم فقد تابع "نبوخذ نصر" مسيرته في بلاد العرب، مطاردًا جيش "عدنان" المهزوم، حتى إذا ما أتى "حضورا"، كان "عدنان" قد جمع العرب -من عربة إلى حضورا- مرة ثانية، وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، إلا أن "نبوخذ نصر" قد أعدَّ للعرب كمينًا، وسرعان ما نادى منادٍ من السماء "يا لثارات الأنبياء"، فأخذتِ العربَ السيوفُ من كلِّ جانب، وحقق العاهلي البابلي نصرًا كاملا على العرب، وعاد بجم غفير من الأسرى والسبايا، حيث أسكنهم "الأنبار"، ثم ما أن يمضي حين من الدهر، حتى ينتقل "عدنان" إلى الدار الآخرة، وتبقى بلاد العرب بعده -وطوال أيام نبوخذ نصر- خرابًا.
وأما "معد بن عدنان" فتذهب الرواية إلى أنه قد عاد من حران، ومعه أنبياء بني إسرائيل إلى مكة، ثم أتى "ريسوب" حتى تزوج هناك من "معانة" بنت "جرشم بن جلهمة" من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، والتي أنجبت له ولده "نزار".
والرواية -كما قدمناها نقلا عن المؤرخين المسلمين- جد هشة، وسهام الريب توجه إليها من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، بل هي نفسها شبهة، وشبهة ساذجة كذلك، حتى وإن تمسح مختلقوها بمعد بن عدنان -الجد الأعلى لمولانا وجدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فإنما هو العسل يوضع فيه السم، حتى يسهل ابتلاعه، ولكن هيهات، فأثر الإسرائيليات فيها أوضح من أن يشار إليه، والأثر العربي عندما أضيف إليها، فإنما أضيف بطريقة فجة للغاية.
ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الرواية، إنما هي نقاط كثيرة، منها:
"أولًا" اعتبار "نبوخذ نصر" -وهو الوثني- هو الغيور على أنبياء الله، والمنتقم لقتلهم، وهذه نظرية يهودية صرفة، فالذي يقرأ التوراة يرى أنها تتخذ من الملوك الوثنيين أداة لربهم "يهوه" للانتقام من إسرائيل، شعبه المختار، حدث ذلك، عندما مسح "إليشع" النبي باسم "يهوه" ملك دمشق "حزائيل"، رغم أنه ليس إسرائيليًّا، ولم يكن عابدًا ليهوه أبدًا، ذلك لأن رب إسرائيل -فيما يرى الحاخام الدكتور أبشتين- أراد أن يجعله سوط عذاب على إسرائيل، شعبه الآثم الشرير.
"ثانيًا" أن "برخيا" النبي اليهودي كان يقيم في نجران"، وأنه ذهب إلى "بابلط ليحرض -بأمر ربه- نبوخذ نصر ضد العرب، ولست أدري ما صلة "برخيا" هذا بنجران، والمعروف أن الرجل إنما كان يقيم في أورشليم، وبخاصة في الفترة التي كانت قوات "نبوخذ نصر" تدق أبوابها بعنف، وأن "باروخ" -وهذا هو اسمه الصحيح- وكذا سيده "إرميا" إنما كانا يعلنان في تلك الفترة الحرجة من تاريخ قومهما أن "نبوخذ نصر" هو خادم الرب يهوه، وأن قبضته حديدية ولن تكسر، ومن ثم فقد بدأ إرمياء نصائحه -كما جاءت في التوراة نفسها- بضرورة الخضوع للعاهل البابلي، حتى أنه اتهم من قبل حكام يهوذا بإضعاف الروح المعنوية بين الجيش والشعب على السواء، ولهذا فليس من العجيب أن نبي الويل هذا، قد ألقي به في غياهب السجون لمجاهرته بالخذلان، ولم يطلق سراحه إلا بأمر من نبوخذ نصر، وإلا بعد أن سقطت أورشليم تحت أقدام البابليين، وأخذ الجزء الأكبر من سكانها أسارى إلى ضفاف الفرات -وهو ما عرف في التاريخ بالسبي البابلي في عام 586ق. م- وكان إرمياء نفسه من بين الأسرى، حيث منحه العاهل البابلي حريته، ربما مكافاة له على الدور الذي قام به في بث روح اليأس بين قومه، مما سهل للفاتح البابلي مهمته، وأكسبه نصره المبين، بل إنك تقرأ عجبًا عن حماس إرمياء للملك البابلي في التوراة، مما أثار الشكوك حول إرمياء وعلاقته ببابل، حتى ذهب البعض إلى أن النبي اليهودي إنما كان يعمل لحساب "نبوخذ نصر".
"ثالثًا" أن الملك البابلي لا يقبل خضوع عرب الشمال له، إلا بإذن من "برخيا" ولست أدري كيف قبل من كتبوا هذا القصص، أن يجعلوا أقوى رجل في عصره يخضع لواحد من يهود، واليهود -كما نعرف- لم يروا منذ أيام الفراعين العظام في عصر الإمبراطورية المصرية "1575-1087ق. م"، وحتى أيام "نبوخذ نصر" "605-562ق. م"، أعني منذ خروجهم من مصر في حوالي عام 1214ق. م، وحتى السبي البابلي في عام 586ق. م- ما رأوه من إذلال على يد العاهل البابلي، ومن ثم فإني أتساءل مرة أخرى،:
 كيف يكون أثر الإسرائيليات أوضح من هذا في روايتنا هذه.
"رابعًا" أن الملك البابلي الذي جعله هؤلاء المؤرخون المسلمون -ويا للعجب -يقوم بإفناء العرب -حتى في مواطنهم الأصلية- عقابًا لهم على كفرهم بأنبيائهم، هو نفسه الذي جعله هؤلاء المؤرخون أنفسهم، واحدًا من ملوك أربعة، ملكوا الدنيا بأسرها، وأعني بذلك تلك الأسطورة التي كثيرًا ما تتردد في الكتب العربية، والتي تقول: "ملك الأرض كافران ومؤمنان؛ فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين"، فإذا كان ذلك كذلك "وإن كنا لا نوافق على ذلك أبدًا"، فكيف أصبح نبوخذ نصر -عندما يتصل الأمر بالعرب- هو حامي الدين، والآخذ بثأر الأنبياء، وهو نفسه كافر بهذا الدين، وغير مؤمن بهؤلاء الأنبياء، إلا أن يكون مؤرخونا -يرحمهم الله- يرددون نظريات التوراة، التي سبق أن أشرنا إليها، والله وحده يعلم إن كانوا يعلمون ذلك أو لا يعلمون.
"خامسًا" أن القصة تذكر أن مولد "معد بن عدنان" جاء في وقت بدأ فيه بنو إسرائيل يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قتلوا منهم "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، ومن ثم فقد سلط الله نبوخذ نصر على العرب واليهود سواء بسواء.
وسؤال البداهة الآن: كيف اتفقت هذه الأحداث جميعًا في زمن واحد؟ والمعروف تاريخيًّا أن "نبوخذ نصر" إنما كان يحكم في الفترة من "605-562ق. م"، فهل كان "معد بن عدنان" يعيش في هذه الفترة؟، وهل استشهد سيدنا يحيى عليه السلام فيها كذلك؟
إن الجواب على ذلك جد صعب، بالنسبة إلى "معد بن عدنان"، ومع ذلك فلو أخذنا برأي من يعتبرونهم الأئمة في نسب معد بن عدنان -كما يقول ابن كثير- لوجدنا أن بينه وبين جده إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، سبعة أجيال، فهو "ابن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"، بل إن هناك من يرى أنها أربعة أو خمسة أجيال، إذ يرون أن معد هذا، إنما هو "ابن أدد بن زيد بن يرى بن أعراق الثرى" وأما "يرى" فهو "نبت" أو نبايوت، وأما أعراق الثرى فهو إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام.
وأننا لو أخذنا حتى بالاتجاه الأول، وافترضنا أن ما بين الجيل والجيل نصف قرن -وليس ربع قرن كما هو المعروف- لكانت الفترة بين عدنان وإسماعيل ثلاثة قرون ونصف -أو حتى أربعة قرون- وإذا ما تذكرنا أن إبراهيم الخليل كان يعيش في الفترة "حوالي 1940-1765ق. م" وإسماعيل في الفترة "حوالي 1854-1717ق. م" فإن معد بن عدنان كان يعيش إذن في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وليس في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هذا الخليط الغريب من الأسماء العربية واليهودية في نسب "معد" هذا؟.
ثم ما صلة "يحيى بن زكريا" عليهما السلام بهذه الأحداث، وهو الذي عاصر المسيح عليه السلام، أي في بداية القرن الأول الميلادي، وليس السادس قبل الميلاد، ثم كيف عرفوا -أو بالأحرى كيف عرف برخيا- أن يحيى هو آخر أنبياء اليهود وأنه سوف يموت شهيدًا على أيديهم، وهو "أولًا" ليس آخر أنبياء اليهود، فذلك هو السيد المسيح عليه السلام، حيث أرسل لهداية "خراف بيت إسرائيل الضالة"، و"ثانيًا" فإن حادث استشهاد يحيى لم يرد في أي نص من نصوص التوراة، وإنما كان ذلك في أناجيل النصارى، حيث يدعونه "يوحنا المعمدان" -الأمر الذي سوف نناقشه في مكانه من هذه الدراسة- وأخيرًا كيف غاب كل ذلك على مؤرخينا الكبار، أم أنه النقل عن يهود، حتى دون مناقشة، ثم هو ادعاء العلم من أحبار يهود، حتى لو كان ذلك العلم لم يرد في كتبهم المقدسة، توراة كانت أم تلمودا.
"سادسًا" أن قصة الغزو جميعها ليست إلا ترديدًا لنبوءات إرمياء في التوراة، والتي تنبأ فيها بكل المصائب لليهود، وللمصريين والفلسطينيين والمؤابيين والأدوميين والعمونيين والآراميين والكلدانيين، وكذا لدمشق وحماة وقيدار وحاصور وعيلام وبابل، وكل ما يعرفه من أمم ومدن.
"سابعًا" أن الأخباريين يروون رواية أخرى تذهب إلى أن أبناء "معد بن عدنان" قد أغاروا على معسكر بني إسرائيل بقيادة موسى نفسه، وأن الكليم -عليه السلام- قد دعا عليهم ثلاث مرات ولم تجب دعوته؛ لأن من هؤلاء المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4، وبصرف النظر عن صدق الرواية أو كذبها، فإنها تشير إلى أن معد بن عدنان، إنما كان قبل موسى عليه السلام، وهو الذي كان في حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، طبقًا لأكثر النظريات تأخرًا من الناحية الزمنية.
"ثامنًا" أن حاصور التي يتحدث عنها إرمياء في التوراة، إنما تقع في شمال بلاد العرب، وهي لا تعدو أن تكون عدة "إمارات" أو مشيخات" صغيرة،كما يفهم من عباراته وعن ممالك حاصور" والتي كانت تتاخم "قيدار"، ولعلها كانت في البادية، وأن سكانها كانوا على خلاف أهل الوبر، يسكنون في بيوت ثابتة، كما كانت تقع في جنوب فلسطين أو شرقيها، ومن هنا فلست أدري كيف جعل المؤرخون المسلمون "حاصور" هي "حضور" وأنها في اليمن -وليست في فلسطين- وأن "نبوخذ نصر" إنما غزاهم حماية للدين الحنيف، وانتقامًا لقتل الأنبياء، وهو نفسه كافر بهذا وذاك، ومن ثم فربما كان السبب في هذا الاضطراب -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن حربًا قديمة ماحقة، أو كوارث طبيعية حدثت في حضور اليمن، وتركت أثرًا عميقًا في ذاكرة القوم، ثم جاء الأخباريون، وخاصة أولئك الذين لهم صلة بأهل الكتاب، فوجدوا شبهًا بين "حاصور" و"حضور"، وظنوا أن ما رواه "إرمياء" عن حاصور، إنما كان عن "حضور" اليمن، ثم أضافوا إليها ما شاء الله لهم أن يضيفوا على طريقتهم في هذا المجال.
"تاسعًا" أن قصة الغزو البابلي لبلاد العرب هذه، لم تكتف بترديد نبوءات إرمياء -كما جاءت في التوراة، وكما أشرنا إليها آنفًا- وإنما قد اختلطت فيها كذلك فتوحات "نبونيد" "555-53ق. م" في بلاد العرب، عندما أخضع أدومو وتيماء وديدان وخيبر ويثرب، بفتوحات "نبوخذ نصر"، وإن كان هذا لا يمنعنا من القول بأن "نبوخذ نصر" قد أرسل حملة في العام السادس من حكمه "605-592ق. م" إلى سكان البادية، دون تحديد لبادية معينة، أو قبيلة بذاتها، وأن الحملة قد نجحت في نهب مواشي القوم وأخذ أصنامهم.
"عاشرًا" أن "برخيا بن أخبيا" النبي اليهودي -كما يراه المؤرخون المسلمون- ليس في الواقع إلا "باروخ بن نيريا"، وأنه لم يكن أبدًا نبيًّا، وإنما كان كاتبًا وصديقًا للنبي اليهودي "إرمياء"، ومن ثم فهناك اتفاق بين علماء التوراة على أن "باروخ" هذا، هو الذي كتب سفر إرمياء- كما هو في التوراة المتداولة اليوم- في حوالي عام 605ق. م، وإن كانت الإصحاحات من الأول إلى السادس، إنما ترجع إلى الفترة ما بين عامي 627، 622ق. م.
9- المديانيون:
تحدث القرآن الكريم عن أهل مدين، وعن نبيهم الكريم شعيب عليه السلام، في مواطن متفرقة من سوره، ووفقا لما جاء في القرآن الكريم، فإن شعيبًا أتى مدين وأصحاب الأيكة، فنهاهم عن عبادة الأوثان، كما أمرهم أن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان؛ ذلك لأن آفة مدين إنما كانت آفة كل المدن على مدرجة الطريق، ومن ثم فقد كانت قصتهم في القرآن قصة التجارة المحتكرة، والعبث بالكيل والميزان وبخس الأسعار والتربص بكل منهج من مناهج الطرق، وهكذا كانت رسالة شعيب عليه السلام، رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة التي تعرضت لها بحكم موقعها من طرق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم.
وقد كان أهل مدين قومًا عربًا يسكنون مدينتهم "مدين" التي هي قرية من أرض معان في أطراف الشام مما يلي الحجاز، قريبًا من بحيرة قوم لوط، هذا وقد كانت مدين هذه إنما تمتد من خليج العقبة إلى مؤاب وطور سيناء.
ويفهم من أسفار التوراة أن مواطن المديانيين إنما كانت تقع إلى الشرق من العبرانيين، ويبدو أنهم قد توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، متخذين منها مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدًا طويلا، حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة، وقد ذكر بطليموس الجغرافي موضعًا يقال له "مودينا" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء أنه موضع مدين، وأنه يتفق وحدود مدين المعروفة في الكتب العربية.
وأما "يوسبيوس" فيذكر مدينة "مديم" ويقول أنها سميت باسم أحد أولاد إبراهيم من زوجه قطوره، وهي تقع وراء المقاطعة العربية في الجنوب في بادية العرب الرحل إلى الشرق من البحر الأحمر، وأما "ألويس موسل" فيذهب إلى أن أرض مدين يجب أن تكون إلى الشرق والجنوب الشرقي من مكان العقبة الحالية، فهناك كان يمر أهم طريق من طرق النقل التجاري، هذا ويظهر من التوراة أن المدينيين قد غيروا مواضعهم مرارًا بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم ببني قدم والعمالقة والكوشيين والإسماعيليين، ويبدو أنهم استقروا في القرون الأخيرة قبل الميلاد في جنوب وادي العربة، وإلى الشرق والجنوب الشرقي من العقبة.
ويرجح بعض الباحثين أن عصر شعيب إنما كان قبل عصر موسى، معتمدين في ذلك على أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر شعيبًا في القرآن الكريم -كما في سورة الأعراف ويونس وهود والحج والعنكبوت- بعد نوح وهود وصالح ولوط، وقبل موسى، وإذا ما عدنا إلى عصر الخليل عليه السلام "1940-1765ق. م"، وتذكرنا أن لوطًا وقومه إنما كانوا معاصرين لأبي الأنبياء، لأمكننا القول أن شعيبًا وقومه إنما كانوا يعيشون بعد القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بخاصة وأن التوراة تذكر أن مدين إنما كان من ولد الخليل من زوجه قطوره الكنعانية.
على أننا نستطيع من ناحية أخرى أن نقول -حدسًا عن غير يقين- أن القوم إنما كانوا يعيشون في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إذا ما كان صحيحًا ما ذهب إليه البعض من أن يثرون كاهن مدين وصهر موسى، إنما هو شعيب نبي مدين العربي، وذلك لأن رحلة الخروج من مصر، تحت قيادة موسى -وكذا لقائه مع صهره كاهن مدين -إنما كانت في هذا القرن الثالث ق. م.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق